بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:44:58 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1104 0


    مسافة للجنون

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ماري رشو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    عدت من غيبتي الطويلة، وانهمرت فوق رأسي الأخبار. لقد جنّت سمية. طلّقها زوجها. تزوج عليها. كان عاشقاً وكانت مريضة. رفض حبها. رفضت السعادة. كان أنانياً وكانت أنانية. الأبناء. الأبناء..

    سعيت إليها بخوف ولهفة. عانقتني بذهول. ضحكت أولاً ثم انفجرت بالبكاء وحين تدفّقت الكلمات، صمتُ بوجل، فلا مكان لحديث آخر.‏

    استمعت إلى كل حرف وكل كلمة. مازالت قصّتهما قضية، ابتدأت ذات يوم ولم تنته. لم يحدّ الطلاق من تصوراتها التي تعتبرها حقيقة، فهي تحبه بجنون، وتحب أبناءها الثلاثة. تبكي وتضحك إذ تتحدّث عنهم. أكبرهم دخل المدرسة حديثاً، أما الصغير فما زال يلثغ، وبين الدمعة والآهة تتّهم الزوج الذي دمّر حياتهم. دمّرها بطلاقه. بزواجه.‏

    لم أستطع خلال جلستنا الكئيبة تلك سوى التذكّر. سألتني ذات مرّة بصوت أجشّ قائلة: -ماذا أفعل؟‏

    أجبت: -لا شيء. عليك بالتريّث، ربما كنت مخطئة.‏

    انتفضت. بكت بانفعال، ثم بغضب، ثم بسكينة. كانت مصرّة على ما يعتمل في داخلها، وكنت أفكر بالزوج الذي أنعم الله عليه بالنجاح، في العمل أولاً، ثم في المجتمع، فالبيت، فسمية امرأة جميلة، من النساء اللواتي لم يتجرّأ العوز أن يدخل بيوتهن. حديثها شيّق، لباسها، عطورها، وكأن الزوج قد صمّم على جلب الرفاهية إلى البيت. يدخل أو يخرج، والابتسامة فوق وجهه. يتحرّك كالنسمة بثقة وهدوء. وحين تلمح في عيني ملاحظات كهذه، تهزّ رأسها بذكاء فهي تراه منافقاً، مجاهداً لكسب رصيد اجتماعي يسانده في أوقات المحن، مستشهدة بأكثر من وقفة له مع الآخرين، أكثر من حديث، وتصرّ، فله هدف يخطّط له. ترى الطلاق في عينيه. تبكي. سيضحّي بها، بالأبناء.‏

    ابتدأت القصة حين اكتشفت تفرّغه لنفسه، لهندامه، ولخصوصياته. كان شاباً وسيماً. يلفت الانتباه بعطره المميّز، ومشيته الواثقة. لم ألحظ تبرّماً له في البيت، أو في علاقته معها، وحين أسألها بفضول عن إشارة ما تصلني بحقيقة ظنونها، تنتفض. لا أحد يمتلك شعورها، أو أحاسيسها، فهي تفهمه، تحفظه، (ما قال.. ما سيقول؟ لماذا يتأنّق؟ بماذا يفكّر؟ انظري إليه خلف مقود السيارة. عيناه على الفتيات. يطير فوق المقعد. هذا المقعد لي، وليس لأخرى. كانت قربه فتاة شقراء. لديّ أكثر من دليل. سأواجهه. سيعترف. أو..)‏

    -أو ماذا ياسمية؟‏

    -فليذهب كل إلى حاله.‏

    يتلّفظ الصغير فجأة بكلمة، تنسى، تحضنه بغبطة، تقلّده، فتخرج الكلمات متعثّرة: -جميل طفلك ياسمية!‏

    -قولي هذا لأبيه!‏

    -في الحقيقة.. أراه محباً لكم.‏

    -إنه حب مبطّن كاذب.. نحن نحبه بصدق. أما هو!!‏

    تهزّ رأسها علامة المعرفة، فالكلمات تنزلق من شفتيه، تحمل أكثر من وجه. هو لا يعرف الحب. إنه أناني. مزدوج الشخصيّة. إنها تعرفه على حقيقته. تستشفّ عنده الكذب والخداع.‏

    كان لسمية خيال واسع، ففي إحدى المرّات حدّثتني عن فكرة تشغلها. تلك الفكرة التي ستحققها قريباً، فهي على ثقة من علاقته بإحدى الفتيات. تصفها بالعصا الجرداء. كانت سمية متوسطة القامة. مكتنزة الجسد. لها شعر أسود، يستلقي على كتفيها بعفوية. يلذّ لها اللعب بخصلاته، فيبدو أكثر فتنة وإغراء. لكن الزوج يهوى الشعر المصبوغ، والجسد الهزيل، والحب الحرام.‏

    كنت أضحك أحياناً لكلمة أو فكرة. لم تكن لتغضب مني، فتسكب أمامي مافكّرت أو تفكّر به بصدق وصراحة شديدتين.‏

    راودتها ذلك اليوم أكثر الأفكار جرأة، فهي ستجدّد نفسها. أعجبتني الفكرة، غير أنني ومع التفاصيل، ضحكت من أعماقي.‏

    أحضرت قبّعة من شعر أشقر طويل. اعتمرتها وهي تتلفّت ناشدة السرّية. ضحكت وأنا أشير إلى رأسها الذي لا يمتّ لها بصلة. كانت تتابع. سترتدي ثوباً غريب الهيئة. قاطعتها بشدّة ولم؟ انسحبت وهي تضع آخر اللمسات. فوق البشرة. تقاطيع الوجه. شكل الحاجب. دائرتا العينين. الشفتان. الرسم. اللون. ستكون امرأة جديدة لا تمتّ لسمية بصلة.‏

    ضحكت أكثر، فهي أجمل من الشقراء. كانت قد أعادت القبعة إلى مكانها، وأخذت تسرد التفاصيل.‏

    لم أكن أعلم ما وراء الحديث. غير أنني صمت أمام انفعالها الصادق، وهي تصف ردود فعل الزوج الذي سيبهر حتماً.‏

    تساءلت: -كيف؟‏

    تململت بجدية. أجابت:‏

    -علمت أنه يرافقها إلى مقهى ناء.‏

    قلت: -ربما كان خبراً كاذباً.‏

    انفعلت. بدت وهي تمدّ كفيها، وكأنها تقسم على ذلك. قالت:‏

    -بل حقيقة.‏

    ساد صمت. أعقبته بصوت يشبه الهمس:‏

    -سأحقق الخطة.‏

    تساءلت باستسلام:‏

    -كيف؟‏

    استوت على المقعد. تلفتّت حولها. قالت هامسة:‏

    -سأعمل لأصبح امرأة أخرى، وألحق بهما إلى هناك.‏

    فاجأتني الفكرة، وكنت أراقب انفعالاتها، وقد طافت فوق وجهها نشوة النصر، وكأنها لاحظت اهتمامي. برقت عيناها وهي تتمتم:‏

    -سأختار مكاناً وأجلس.‏

    ضحكت هذه المرة. سألتها:‏

    -ثم ماذا يا صاحبة الأفكار العظيمة؟‏

    نظرت إلي بقسوة، ثم تابعت بجدّية:‏

    -سأحاول لفت انتباهه، وشيئاً فشيئاً مغازلته، إلى أن أطوقه بشباكي، وأقبض عليه. قلت بذهول: -جميل.‏

    -ثم أنهض، فيلحق بي.‏

    -أنت تمزحين حتماً.‏

    -أنا لا أمزح، لأنني سأضيع منه في كل مرة، وحين يتعلّق بي. ينسى العصا الجرداء، ويعود إلى سمية.‏

    أذكر نظرة عينيها. عينا امرأة لا تمت لسمية بصلة. كانت تنظر في فراغ، وكأنها في عالم لا علاقة لـه بالواقع. تلك الثواني الطويلة وهي تستجيب لندائي. أدخلتني في غربة. ليست سمية، ولست أنا، كنا غريبتين. أنا وهي. وكنت خائفة، إلى أن استردت الأمور إلى ما كانت عليه.‏

    غبت عن سمية تلك الفترة الحرجة من حياتها، فأتلهف لخبر يجلب الطمأنينة، أو الفرح. كانت الأخبار سيئة، ومتتابعة، بعض منها يتهم الزوج، وبعض آخر يلوم ما أصاب سمية التي فقدت الاتزان، وكانت الأحاديث عن عصاب حلّ بها، أو ما يشبه الانفصام، وكنت أعود في كل مناسبة، إلى تفاصيل لقاءاتنا. يوم تسلل الشك إليها، ويوم اتهمت الزوج، ويوم أرادت استرجاعه. لا أدري! هل كنت أصدقها أم لا؟ وحتى الآن لا أدري.. هل قصة الشقراء التي تزوجها، هي الشقراء التي أودت سمية إلى الجنون؟ أم أن جنون سمية هو الذي أودى زوجها إلى تلك الشقراء؟‏

    لكن.. وكلما تذكرت.. أبكي سمية... أبكي كل ما كان. خاصة ذلك التجدد الذي أرادت من خلاله، استعادة حبها الذي ضاع

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()