بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:45:28 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1746 0


    رغيــف خـــبز ووظيــفة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د.هيفاء بيطار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    تتحولُ إلى وظيفة ورغيف خبز..‏

    وتنطفئُ رغباتك وشهواتك لكل شيء، كل شيء..

    أوليست الغاية المثلى للحياة هي انتصار الإنسان على أهوائه ورغباته، مصدر الشرور، تصيرُ موظفاً، فتشعر أنك فاقد الرغبة، فاقد الشهية. لا تشتهي إلا رغيف الخبز، دماغك يصبح شبيهاً بقرص عجين، أصم، مسطحاً، رخوا، خالياً من التلافيف، ومصاعب الحياة ترققه وتعامله وتسطحه، كما تعامل يدا الفران قرص العجين..‏

    ويصير وجهك كالرغيف بكل تحولاته، وجهاً يتوهج كالرغيف الخارج من النار، بماذا يتوهج؟ آه يتوهج ألماً وحنقاً وسخطاً، وإشراقَ لحظات نادرة، لحظات إبداع سرعان ما تنطفئ. ويصير وجهك كالرغيف البارد الطري، يشبه ملايين الأرغفة، أو ملايين الوجوه، وتحكي كل يوم مع رفاقك الذين يشبهونك، الحديث نفسه وأنت مغمض العينين، مغمض القلب، مغمض العقل.‏

    وتعود إلى بيتك المتصدع ظهراً، تمشي على قدميك، لا تعنيك الدكاكين بأنواعها، فلا لغة حوار بينك وبين الفاكهة أو اللحوم أو الألبسة، أو حتى الموسيقى، مضى زمن طويل لم تشتر فيه شريط موسيقى، اكتفيت بما عندك، بل ما عدت تصغي للذي عندك، كل ما يمكن أن تحمله وأنت راجع إلى بيتك، بواسطة نقلك الأبدية -قدميك- أرغفة خبز وأحياناً تنتظر طويلاً كي تحصل على الرغيف، وتتجنب اشتباكات ومشاحنات من أجل الرغيف، فأنت لا تحب الشجار، ولا الكلام، فقدت الحوار حتى مع ذاتك، ماتت رغباتك حتى أنك ما عدت تخاطب نفسك، وبماذا ستتحاور مع ذاتك وأنت لا تحلم ولا تأمل ولا تفكر، وكيف تفكر ودماغك قرص عجين تعامله الحياة بضربات قاسية قوية، وتقلبه كما تقلب يدا الفران قرص العجين، ثم تلقيه في النار..‏

    آه، الوظيفة ورغيف الخبز، ووجوه الزملاء التي تشبه الأرغفة، صرت تضحك في سرك وتحس أن وجوههم هي الأرغفة ذاتها، حتى أنك تمعن في وجوههم وتقول، هذا وجهه كرغيف يابس، وذاك كرغيف محترق، وهذا وجهه رغيف أسمر، وهذا وجهه ككسرة من رغيف!‏

    ويحلو لك كل يوم أن تحسب الزمن يمر على وجهك كما يمر على الرغيف، وهالَكَ أنك بدأت تلاحظ بذور عفن نابتة على سطح وجهك وتصيح: يا إلهي ما هذا! هل سأصير رغيفاً متعفناً؟ ومن أين أتت بذور العفن؟ وأنا لا ينمو أي شيء بفكري، فقد ماتت كل رغباتي وأهوائي، وحررتني الوظيفة من كل الشهوات واللذات والمتع التي لا تعد ولا تحصى، فلماذا تختارني فوق ذلك بذور العفن لتنمو فوق وجهي. لكنك تدرك أنها لم تأتك من الخارج -بل من الداخل، داخلك الذي أخذ يتعفن من الرطوبة، من قلة الشمس، من نقص التغذية، أذناك اللتان أصابهما الطنين من تكرار الأحاديث ذاتها، تشتاقان لأغنية حلوة تفجر مشاعرك الرقيقة التي ترسبت عميقاً في نفسك، كما تترسب الحصى في قاع النهر..‏

    تشتاق عيناك لمعانقة أشياء كثيرة، لمحاورتها، لامتلاكها، تشتاق لمقاهي الرصيف، ومقاهي البحر، تشتاق للجبل والأشجار، تشتاق لرحلة مع الأولاد، تشوون اللحم، ثم تأكلون الفاكهة، كل أنواع الفاكهة.‏

    يشتاق جلدك لبزة جديدة، بدل بذلة التحنيط هذه، البذلة الأبدية التي ستدفن فيها بالتأكيد، فهي ستقاوم الزمن أكثر من جسدك البالي بالتأكيد، آه بزة جديدة ستشعرك أنك إنسان جديد، بأن جلدك يتجدد، ستدخل بهجة إلى نفسك، وستغمر السعادة روحك إن استطعت أن تدخل دكاناً أنيقاً وتشتري بزة، آه، عدنا إلى الاشتهاء والنفوس الضعيفة، وتستيقظ رغباتك رغم أن الوظيفة بذلت جهوداً خارقة لتخليصك من كل المتع الدنيوية الزائلة، ولكن يبدو أن لا فائدة ترجى منك، ففي أوقات تزداد تباعدا، تعود رغباتك للاستيقاظ وحواسك للتنبّه، وتتمنى لو تمتلك العالم، وتحس بمئة أمنية صغيرة تتفجر في شراينك في دقيقة واحدة، وتنتفخ روحك بالأحلام كما ينتفخ قرص العجين في النار ويتوهج، وينشطر إلى قطعة سفلية وقطعة علوية وبينهما الأحلام والحياة.. وتحس بدفء الحياة، ومتعتها، وتحس برغبة عميقة في أن تعيش، كما يجب أن تعيش كإنسان.‏

    ولكن هذا التوهج لا يدوم، لأن يد الفران تمتد لسحب الرغيف المتوهج المنتفخ آمالاً وتلقيه خارجاً ليبرد وينطفئ، فتعود كما أنت، وتتحول الحياة إلى ثنائية لا تنفصم، رغيف خبز ووظيفة، أو وظيفة ورغيف خبز. هذه الثنائية التي تتعشق بعضها، فلا يستغني أحدها عن الآخر، كعاشقين أقسما أن يتحابا إلى الأبد، فلا يفصلهما سوى الموت، وما أدراك كيف ستموت، فقد يتحول جسدك إلى كسر خبز يابسة تأكلها الأبقار وتتغذى بها لتزداد اكتنازاً وجمالاً ولحماً

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()