بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:13:24 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1180 0


    محطــــات الصــــــبر

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حســــــب الله يحــيى | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    دائماً..‏

    دائماً كنت أراه، مثلما أرى الشمس والقمر، مثلما أرى النار والنور.. السماء والأرض والماء والأشجار.. مثلما أرى الله.

    صورته تملأ فؤادي وذاكرتي وحواسي كلها.‏

    صوته في أعماقي، وعطره في أنفاسي.. وملامحه منقوشة في عينيّ.‏

    دائماً.. كان، ودائماً، يكون، ودائماً.. سيكون.. كأنا الكون قد اصطفاه لي قبل أن أولد.. قبل أن يولد.. قبل أن نولد معاً.‏

    ولدت.. وكان معي.‏

    ولد.. وكنت معه.‏

    عرفنا بعضنا، قبل أن يرى أحدنا الآخر.‏

    كل منا رسم صورة الأخر.. وانتظرنا أن نلتقي.. في يوم ما.‏

    في زمان ما.‏

    منحنا لأنفسنا فرصاً عديدة.. إلى أن يعثر أحدنا عن الثاني.‏

    بحثنا عن المصادفة، وكانت تهرب منا، تنفلت من أصابعنا، وذاكرتنا وبصرنا.‏

    بحثنا عن المودة في الحدائق والشوارع والأحياء المنكسرة، والأحياء البهية، بحثنا عن المجهول حتى نعرفه، وعن المعرفة حتى نكون على تماس بها، وبحثنا عن نقطة التماس حتى نحس بها.. فإذا الإحساس بالأشياء يغيب، أو يتوقف عن العمل مثل آلة.. أو يتجمد.. أو يموت.‏

    كنت أعجب لهذا الفيض من المشاعر التي تلح عليّ، دون أن تجد أصداءها في الآخرين.‏

    الآخرون.. كانوا نباتاً صحراوياً.. لم أختر إنباته في سماء حياتي.‏

    الآخرون.. كانوا غرقى في بحار أجهلها.‏

    والآخرون.. كانوا زخة مطر في صيف لاهب.. لا أعرف درجة حرارته، ولا تأثير لزخة المطر عليه.‏

    كانوا.. مثل كل الأشياء التي أراها.. أعمدة الرخام في الشوارع العتيقة، أو الأزياء الحديثة الصارخة الألوان في الشوارع المضيئة.‏

    .. الآخرون.. واحد.‏

    الواحد يعني الآخرين جميعاً.‏

    وكنت أبحث عن هذا الواحد في الكل.. والكل في الواحد.‏

    كنت واثقة.. وعلى دراية بأنني لا أعرف مصدر هذه الثقة.. كونه يبحث عني، مثلما أبحث عنه.‏

    لكنه بكل تأكيد.. إنسان، نادرة لحظة اللقاء به.. مثلما أنا نادرة لحظة اللقاء بي.. لكن كلانا كان يبحث عنه خلِّه.‏

    هذا الإحساس بمديات اللقاء، كان يتسع، مثلما تتسع السماء لملايين العصافير.. مثلما تتسع الأرض لملايين الأزهار.. و.. مثلما تبكي السماء أحياناً، ومثلما تحتضن الأرض أحزان الموت أحياناً.. كانت الأحيان.. تمتد بي، تشدني إلى فرح غامر، أو حزن قاتل.. ولا وجود لمسافة تجمع ما بين أفراحي وأحزاني.. ذلك أنني لا أقف على الحياد من الأشياء ومن الآخرين.‏

    قلت.. اطمئن مشاعري كلها.. طبعاً سأراه. وطبعاً سأقبله.. سأقبل جبينه أولاً.. وطبعاً سيقبلني في جبيني.‏

    الجبين موقع عزتنا، عزتي وعزته.. ولا شيء أعز من العزة نفسها ولا شيء أنقى من نقاء الجبين.‏

    وما بين عزة نفسه وعزة نفسي، وما بين نقاء روحه ونقاء روحي.. هناك عرى ومواثيق لا تنفصم ولا تذوب ولا تفنى.. كأنما هي الأزل.. كأنما الأزل حقيقتها، كأنما حقيقتها تكمن في هذا الأزل.‏

    طبعاً.. سأراه.‏

    طبعاً.. سيراني.‏

    طبعاً.. سنرى بعضنا.. بعضنا سيرى البعض الآخر.. لا أول ولا آخر.. الآخر هو الأول.. فلا أول لنا ولا آخر.. نحن اللانهاية، نحن اللامنتهى.. بنا تبدأ الأشياء.. وبنا تتماسك، بنا تبقى.. بنا تتجدد.. وتبعث.‏

    ورسمت ملامحه هكذا:‏

    وجهه من نور، عيناه من زرقة البحر، جبينه من سمرة الأرض، أسنانه من ثلج، عطره من الحناء، أصابعه أغصان.. يتكىء على شجرة توت.. شجرة التوت تظلل كتابه. لكتابه حروف من روح متحركة.. لهذه الروح أزهار وأغان وأنسام.‏

    ورسمني كما كنت أريد أن يرسمني:‏

    امرأة من حرير.. جمع من مفاتن كل الجميلات. شعرها شلال.. الشلال يروي الأراضي البور.. الأرض البور تنبت الياسمين.. الياسمين يشعل الروح فتنة وبهاء وفرحة.. أصابعها مغزل.. المغزل يعمل في جمرات الشتاء.. وشتاء المرأة الحرير.. دافىء، منير.‏

    ورأيته في زهرة تتفتح في آذار، غير منتظرة حلول نيسان.‏

    رأيته قنديلاً في براءة كف، لطفل لم يترك بياض الحليب بعد.‏

    ورأيته في نسيم لطيف مر على الحقول.. ثم تسلل إلى شغاف القلب.‏

    رأيته في صفحة من كتابي الأثير.. وأحلامي الغائبة والحاضرة المنتظرة.. مثلما رأيته في طلعة النهار، وطلعة البدر.. في قلب الأشياء كلها.‏

    ينتظر.. في المحطة ينتظر.. لماذا وجدت المحطات للإنتظار، إلى لهفة الانتظار.. ألم يتعب الانتظار نفسه من هذه المهمة الشاقة؟ ألم يحن الوقت لكي يتمرد الإنتظار، ويبحث عن وظيفة أخرى تكفل له الراحة والرخاء؟‏

    لكن الراحة والرخاء، لا يصل إليهما أحد ما لم يمر بمحطات طويلة من الإنتظار.‏

    لينتظر إذن، ولأنتظر أنا أيضاً.. وأيضاً تجمع بين انتظارينا.‏

    كم الساعة؟‏

    ساعة المحطة معطلة.. كأنما الزمن معطل، والوقت لا يغادر المكان.. والمكان باقٍ.. جبل من البقاء والثقل.‏

    كم الساعة؟‏

    الساعة لا تجيب، والوقت قريب منه.. والقرب منه صعب، والصعب لهفة، واللهفة مستحيلة، والإستحالة.. ساعة، الساعة لا تجيب، واللاجواب، جواب.. والجواب عنده، عنده لا أعرف، ولا أعرف عنده.. معرفة، والمعرفة أن أسأله.. وحين أسأله أذوب، وحين أذوب أنتهي.. وأنا أريد أن أبدأ.. كيف؟!‏

    - هل سيتأخر القطار؟‏

    لمن السؤال.. لمن أجيب، لمن الجواب، لمن السؤال..؟ اختلطت علي الأسئلة والأجوبة.. لكأن السؤال تعارف، لكأن الجواب توافق.. لكأن السؤال والجواب.. موعد حب.. هكذا بدأت الأشياء.. وهكذا أيضاً وجد في السؤال.. غزلاً، وفي الإجابة ارتياحاً لهذا الغزل.‏

    .. ليتأخر القطار.. ولتنتظر المحطة نفسها، بدلاً من الإنتظار في المحطة..‏

    قد يأتي أخي الأسير.. وقد لا يأتي.. سأنتظر.‏

    قال:‏

    قد يأتي ولدي الأسير.. وقد لا يأتي.. سأنتظر.‏

    وما بين أخي وابن الرجل الغريب، قربى..‏

    ربما كانا في مخيم واحد للأسر.. ربما كانا يجلسان في القطار على مقعد واحد.. ربما يعرف أحدهما أخبار الآخر.. ربما يدلهما الحاضر عن الغائب.. عن المصير الذي آل إليه أحدهما.‏

    التحم السؤال بالجواب.. صار الجواب يشتاق إلى السؤال، صار السؤال أكثر حميمية وهو يلتقى الجواب.. كأنما يلتقي فجر الحياة، لكأنما يشتاقها، يتفاءل بها.‏

    لأخي وشم في صدري، وأصداء في القلب والذاكرة، لأخي وحدته عداي.. أنا المخلوق الأول والأخير في حياته.‏

    وحدثني الرجل الصابر في المحطة التي تصطبر على الانتظار. قال:‏

    - ولدي الوحيد، فلذة الكبد.. ربما يأتي.. أريد أن أراه فقط، ولأمُت بعدئذ قرير العين.‏

    قرة العيّن تجمعنا.. همّ الإنتظار، ووحشة الإنتظار، ولهفة الإنتظار، وقسوة الإنتظار.‏

    الإنتظار ذاته صار الجسر الذي يجمع بين ضفتينا.‏

    أخ أسير، وأبن أسير.‏

    أخ وإبن.. للأول أخت، وللثاني أب.. وما بين الأخت والأب وشائج.. بدأت بترقب عقارب الساعة، واتسعت إلى همّ مشترك، وحديث ينشّد إلى حديث.‏

    كنت أحس بأنني أعرف هذا الرجل، بأنني أعرف ولده بأنه يعرف أخي.. بأنني كنت أبحث عنه، وأحلم به، وقد التقيت به في موعد عند محطة الصبر.. فهل يتكفل القطار بالعبور إلى الحياة.. وبالحياة وهي تعمر أو تختزن الحزن والصبر والفرح والضحك والأسى والجرح والمتعة إلى عمر يأخذ كل الأعوام؟‏

    .. توقف القطار. نزل منه: المعلوم والمجهول.. الغريب والقريب.. دون أن يكون هناك إبن أو أخ.. ودون أن يكون هناك حمام الزاجل.. يحمل البريد أو يقين الخبر، أو حقيقة الأمر. أو لمحة من طيف أو لحظة من حلم شاسع لا حدود لامتداده.‏

    وصل القطار.. كأنما وضع حداً لصبر الإنتظار.‏

    وداء القطار.. كأنما جاء بحياة، كانت ميتة، ثم بعثت..؟..‏

    وصفّر القطار.. كأنما الصفير ينبه جمعاً من الغافلين عنه.. ..؟.. بالحضور، يعلمهم بالمجهول، يبلغهم بالنبأ..‏

    وكنت أحدق في عيني الرجل.. فأحس بالأمان..‏

    وكنت أحدق بلهفة في الوجوه التي غادرت عربات القطار.. فأحس بالخيبة.‏

    وكنت أحدق في أعماقي، فأجدها.. قريبة، بعيدة عن حدود الأمان.‏

    وقريبة أحتمي بالرجل القريب.‏

    وبعيدة أحتمي بالسراب!‏

    كان آخر راكب قد غادر المحطة، حين غادرناها معاً.. كأنا نغادر من أفئدتنا، من دفئها وحنانها، كأنما نترك إحساسنا ليكون عرضة لنسائم باردة، وأحياناً حادة وقاسية..‏

    إلى أين تذهبين؟‏

    إلى أين تذهب؟‏

    تعالي نجلس هناك.. على ذلك المقعد.. قد يأتي قطار آخر..‏

    تعال..‏

    جلسنا..‏

    بدأ الصبح ينشر ضوءه، كان آذار يعلن بهجته. كان عطر حديقة قريبة يتسلل إلى أنفاسنا، كانت الحياة تتحرك من حولنا.. الناس، السيارات، الباعة.. صحف الصباح، أغاني فيروز..‏

    هل تعجبك أغاني فيروز..؟‏

    .. هل تعجبك كلمات إحدى أغانيها التي تقول:‏

    "لما سكرت الباب.. لقيتك بيني وبين حالي"؟‏

    سحت ملء القلب.. أحسست بأن الصبر قد رحل وأنا غير آسفة على رحيله.. أحسست بأن الرجل ينشّد إليّ، أنشدُّ إليه.. أحسست بأن في أعماقنا أشياء كثيرة تريد أن تبوح بشيء.. بأشياء..‏

    كنت أراه يقترب.. يقترب، بملامحه، بهواجسه، بصوته، بهمسه وأحلامه مني..‏

    كان يقودني إلى شيء خارج دائرة الحزن والإنتظار.. خارج العمر.‏

    رحت أسأله في فطوره وأحلامه وأمنياته.‏

    رحت أبحث عن قراءاته المفضلة وأوقاته السعيدة والألوان التي يألفها.‏

    أخذت استعين به على التماسك في ظل غياب أخي.‏

    أخذ يستعين بي عن التماسك في ظل غياب ابنه.‏

    أخي وابنه، صارا يفكران كصديقين، يضحكان معاً.. ويسهران الليالي، يستذكران الحكايا والتجارب ومحنة الأسر.‏

    وما بيني وبين الرجل، كانت الغربة تتبدد، والأحزان تبتعد، مثل غيوم ترحل..‏

    كنت أراه، دائماً أراه.. ودائماً - ربما - كان يراني ولا أعرف.. ولا يعرف.. لكننا بدأنا نعرف.. أن كلانا كان يفتح الأفق مع الآخر، يتجاوز محنة الحزن والإنتظار والقهر.. ويجعل من الصبر.. سبيلاً إلى الحياة.‏

    رأيته، رأيت الأمل في عينيه.‏

    رآني.. ورأى في ليل الأشياء.. ضياء.. ضياء نجم بعيد، يقترب.. يقترب، يلامس الوجوه.. فتشرق بالعافية.. تبتسم للحياة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()