بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:04:07 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 877 0


    احـــرس شـــــــفتيك

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حســــــب الله يحــيى | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    منذ الصغر.. حفروا في ذاكرته سلسلة طويلة من الحكم.‏

    قالوا له:

    "لا تقابل شر رجل يتشاجر معك بشر مثله، عامل بالإحسان من آذاك. واجه خصمك بابتسامة.. وإذا كان من يضمر لك الشر.. فقومه. لا تبيت الشر لأحد. احرس شفتيك.. وعندما كبر.. صار يقبل بكل شيء.. الأمر الذي جعل كل من حوله يفيد من هذه الصفة السلمية.. ويستغلها لصالحه.. حتى وجد نفسه ذات مرة، وقد ضاعت منه كل حقوقه.. وبات من الصعب عليه الإمساك بشيء.‏

    وكانت يقظته متأخرة، بحيث لم يتمكن من الاحتفاظ بأقل قدر من:‏

    فراشه.. حتى أحس بالبرد.‏

    رغيف خبزه.. حتى أحس بالجوع.‏

    دوائه المنتظم.. حتى أحس بثقل المرض.‏

    سيارته الشخصية.. حتى أحس بتعب المشيء.‏

    كتبه الأثيرة.. حتى فرغت مكتبته.‏

    مروحته، مدفأته.. عود ثقابه.. سيكارته، أوراقه، حبره.. راتبه. مصروفه اليومي، ساعته اليدوية.. كل شيء صار يفلت من أصابعه يبدد.. وهو راضٍ كل الرضى.. حتى أصبح رضاه هذا نقمة عليه.. موتاً يتربص به.. عندئذ.. عندئذ فقط أدرك أن احتراسه هذا لم يعد ممكناً.‏

    فكر بوضع حلول.. خشي في أول الأمر الحديث في هذه المسألة مع أصدقائه، كان يدرك أنهم الأكثر نفعاً من احتراسه وخجله واستسلامه وضعفه.. مع أنه كان يعد سلوكه هذا، سلوكاً يميزه عن سواه، يجعله إنساناً محبوباً، مقبولاً من المجتمع.‏

    تتلقى تعليماته الأولى وفق هذا المنهج.. فصار عليه.. حتى أدرك في وقت متأخر.. متأخر جداً بأنه قد أضاع كل شيء، ولم يعد في قبضته سوى هواء.. فر هو الآخر.‏

    وحين وجد نفسه وحيداً.. سأل الصديق الأقرب إلى قلبه.‏

    - ألا تراني وقد تحولت إلى حمل وديع بين جمع من الذئاب المفترسة؟‏

    ضحك صديقه، أجابه:‏

    - الذئاب لا ترحم الخراف التي عرفت نفسها، الذئب لا تغفر.. ولا تحفظ للخراف طيبتها وداعتها.. حياتها.‏

    - ما العمل إذن؟‏

    فكر الصديق ملياً.. راجع ما كان صديقه.. وما يريد أن يكون عليه.‏

    قال ناصحاً:‏

    - احرس شفتيك.‏

    - احرسها.. ممن؟‏

    - من نفسك.. وإلا أعدوك خارجاً عن القانون وعن سنن الطبيعة.. وعن تقاليد القبيلة:‏

    ووجد نفسه وحيداً مع محنته من جديد، قال:‏

    - سأكون كما يجب أن أكون.‏

    ونام على هذا القرار ومرتاحاً.‏

    وفي الصباح.. صعد إلى الحافلة التي تقله إلى عمله.. مثل كل يوم.‏

    كانت الحافلة غاصة بالركاب، وبالكاد وجد السبيل إلى وضع قدميه قريباً من الباب..‏

    وفيما كانت الأنفاس تختنق، والأجساد تلتحم وتنكسر وتتلذذ أحياناً.. والأكف تحاول أن تمسك بشيء تنبه إلى تلك الأكف كيف تريد أن تتشبث بشيء. حتى لو كان الأمر على حساب سواها من الأكف.. المهم عندها.. كيف يقف أصحابها باطمئنان.. ولا يهم إن سقط البقية.. إن لم يمسكوا بشىء.. هذا أمر لا يهم، المهم أنت.. أنت فحسب..‏

    وكان قد تعلم.. حكمة: أن يكون سواه بخير.‏

    - احرس شفتيك.. الشفاه التي لا تحترس، شفاه ثرثارة، وجمل احتراسه.. وزها ألا يكون ثرثاراً، مع أنه كان يدرك في دخيلة نفسه أنه إذا ظل على احتراسه هذا.. سيفرط بكل حقوقه، بكل شيء.‏

    سارت الحافلة ببطء.. مثل سلحفاة أراد أن يصرخ بالسائق:‏

    - إسرع.. أسرع يا أخي.. لقد تأخرنا.‏

    واحترس من شفتيه.. وسكت.‏

    وراح عدد الركاب يزداد في كل منطقة..‏

    وسقط أكثر من راكب حاول الصعود إلى الحافلة..‏

    واحد.. واحد، أمسك بباب الحافلة، يمض معها.. وتوسل الركاب الذين تجمهروا عند الباب، أن يساعدوه على الصعود، أن يتركوا له موطىء قدم.. وأصيب الجميع بالصمم.. سواه.. ترك فسحة للرجل أن يضع قدمه عند سلم الباب.. ومع أنه أحس بالضيق والاختناق، إلا أنه أحس على نحو آخر بأنه قدم خدمة يحتاجها إنسان، وهو قادر عليها.‏

    الرجل.. استعاد أنفاسه، وضع قدمه الثانية على السلم. اخترق بجسمه الضخم الدرج الأوسط.. بعد الأول.. الآن صار بمقدوره الوقوف على أرضية الحافلة.. الحافلة تمضىء بثقل، والرجل يخطط لاحتلال مكان أفضل.. وكان يراقبه.. فالرجل يدفعه.. كأن مسألة الاندفاع هذه صارت أمراً ملزماً عليه.. وعليه أن يقبل بذلك.‏

    - احرس شفتيك.. فالرجل يعرف كيف يخطط المكان لنفسه.. ولا نفع في شفتين ليس بمقدورهما فعل شيء، الرجل يتقدم وهو يراه، ويتقدم.. ويراه.‏

    ووجد نفسه يتيح الفرصة للرجل أن يتقدم على غير ما يريد ويرغب ويتمنى، دون أن يعرف.. لماذا يفعل ذلك.‏

    كانت به رغبة ملحة أن يمسك بالرجل ويلقي به خارج الباب، إلا أنه وشعوراً منه بأن الرجل يتقدم سواء كان راضياً أم غير راضٍ.. وسواء ضجر بقية الركاب أم لم يضجروا.. كان المهم عند الرجل أن يجد الآن مقعداً.. بعد أن احتل مساحة من الباص تتسع لثلاثة أشخاص.. ذلك أن الرجل بات يمتد ويتمطى.. يداه في مكان. قدماه في مكان، آخر وكتلة جسمه تحتل بقعة متسعة.. حتى أصبحت لرائحة الرجل النتنة وكان.. يتيحه عدد من الركاب لها.. حتى تستقر وتسكن بهدوء. لكن الرجل برائحته الفجة.. بات سيد المكان.‏

    - احرس شفتيك، كل من حولك يحترس من شفتيه.. يخافها.. فربما للرجل نفوذ. ربما للرجل قوة يستمدها من سواه، احرس شفتيك.. الاحتراس أمان وسلام.‏

    00وفيما كان يفكر.. كان الرجل يبسط ظله.. ويدفع به يميناً ويساراً.. أماماً وخلفاً.. حتى وجد نفسه عند الباب.. وكاد يسقط لولا أن أمسك به أحد الركاب.. بينما كان الرجل يرتاح على مقعد بهدوء.. وينظر إليه باشمئزاز وتحد، عندئذ.. ولأول مرة أدرك أن فعل الأمر، احرس شفتيك، مثير للاشمئزاز.. وصرخ

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()