بتـــــاريخ : 11/20/2008 7:50:16 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1125 0


    مكــــــان للنســـــمة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حســــــب الله يحــيى | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    بعد ملت حياة الانتقال والطوفان الذي لاجدوى منه قررت النسمة ترك هذا الضياع الذي تعيشه بين السماء والأرض.. واتخاذ الأرض مستقراً لها..

    وبهذا الهدف الذي أحست بقناعة تامة لاتخاذه بعد تردد ومحاورة مع النفس فكرت بزيارة أولى للأرض لعلها تجد ما يؤكد قناعتها أو ينفيها.. وبالتالي تكون على معرفة بما سيكون عليه حالها.‏

    تنقلت في فضاءات واسعة، كانت السماء حائرة بين الصحو والمطر.. والنسمة هائمة لاتعرف مستقراً لها ولا سبيلاً إلى معنى وجودها مالم تكن لهذا الوجود أهمية في حياة المخلوقات جميعاً.‏

    على بعد منها كان الغبار يملأ الفضاء كله حتى أن النسمة نفسها أحست بالاختناق، لكنها مع ذلك أرادت أن تعرف حقيقة ومصدر هذا الغبار.‏

    تحركت باتجاه الغبار.. وكلما اقتربت كان ثقل التراب يثقل أنفاسها إلا أنها لم تيأس.. بل واصلت رحلتها.. وتوقفت عند نخلة لها سعف كثيف وامتداد بعيد.. حتى إذا تبينت أن النخلة مقطوعة الرأس أحست بالاختناق.‏

    كان المشهد لقطة أولى آلمتها لكنها أرادت أن تعرف الأسباب التي تكمن وراء هذا الأسى العميق لنخلة باسقة تبحث عن أفق.‏

    حدقت في النخلة ملياً.. كانت عيون النسمة مغبرة.. ومع ذلك استطاعت أن ترى بوضوح آثار احتراق هنا وهناك مختومة على أماكن عديدة من جسد النخلة.. وخشيت النسمة على نفسها فقد تلحق بها النيران وعندئذ يكون الكون كله معدوم كالهواء! أسرعت بالرحيل.. باحثة عن قطرة ماء لعلها تتخلص من جفاف بات يلاحق أنفاسها.‏

    رأت عين ماء فتوقفت عندها وهناك رأت ما أدهشها عصافير وكلاب وقطط ميتة.. وأدركت بإحساسها العميق، أن ماء العين هنا قد تعرض للسموم.. فهربت من المكان مسرعة وراحت تحوم في اللامكان.‏

    ووصل إلى حاسة الشم عندها.. شيء من العفن. من جيفة مخزونة وقد انفجرت دفعة واحدة.. وصعب على النسمة الاقتراب من الأثر.. إلا أن مهمتها في الاكتشاف كانت تلح عليها وتحاصرها وتطالبها بالحقيقة.‏

    اقتربت وكلما كانت تقترب كان الأثر يحبس عنها الهواء..‏

    وعلى الرغم من ذلك كانت تقترب.. تريد أن تتلمس الأشياء عن قرب.. فإذا بها تكتشف جثة، جثة إنسان تغزوه الديدان وتقتحم عليه وحدته وعزلته وغرابته عن المكان.‏

    كانت الجثة قد تحولت إلى وليمة باذخة لمخلوقات عجيبة اجتمعت كلها محتفية بهذا الدسم الغريب.‏

    وعجلت النسمة.. مسرعة تبحث عن مكان آخر..‏

    سمعت من بعيد.. العديد من الأصوات إطلاقات وانفجارات ووميض رصاص، وأصوات أنين وصرخات وتوسلات وشتائم عجبت النسمة للأمر.. وتساءلت هي يمكن أن تجتمع كل هذه الأصوات في مكان واحد...؟‏

    كانت تعرف أن المكان يستقر عند حزين.. بالغ الحزن أو فرح.. بالغ السعادة.. لكن أن يجتمع حزن مرير مع فرح ونشوة فهذا أمر لم تعرفه أن تجم عن طبيعة الأرض التي تريد أن تستقر عليها.. وأرادت أن تتبين الأمور جيداً.‏

    اقتربت حذرة.. وبها رغبة ملحة في الاكتشاف وبها عجب مما ترى وبها إحساس بالتردد بالهرب وبالبقاء معاً وانتابها شعور بالندم على مغامرة أقحمت نفسها فيها دون سبب ودون نتيجة.‏

    وظل إصرارها يقتحم عليها استقرار ذاتها.‏

    اندفعت نحو المكان بلهفة وحذر، وتبينت أكثر من الصور التي ترى وأكثر من الأصوات التي تسمع وأكثر من الأشياء التي تشم وأكثر من الأمور التي تحس وتلمس وتتوجس.. كانت كل حواسها خافرة مستقرة وفي حالة نفير وصل قمته وأعلى درجته.‏

    كانت هناك ضحكات متشنجة وأعصاب مشدودة ونظرات تبعث جمراً وحناجر تحولت إلى أبواق اختلطت بأصوات مختلفة..‏

    وبشر فيهم المستلقي المتوجع والساكن والمتحرك بشكل يثير الغرابة والانتباه والشفقة.. فيهم المتوثب الآلي والخائف.. فيهم شيء من بشر، وأشياء من مخلوقات عديدة.‏

    انتقال وحركة.. والآلات والأجهزة تساعد في هذا الاندفاع أقدام ثقيلة تتقدم تارة وتتراجع أحياناً. لم تجد النسمة فرصة مساحة مهما صغرت.. حتى تقف وتستريح من هذا العناء.. فقد مضى عليها زمن طويل وهي في حالة تيه.. وحين قررت أن تضع حداً لعناء التيه هذا راحت تواجه أكثر المحن مرارة وأكثر الأمور حيرة.. دون أن ترسوا على بر أمان.. أو قطرة من هدوء.‏

    قطرة هادئة.. أزكى وأغنى وأعطر من ركام صاخب.. وقطرة من حلم لحظة من نشوة.. نظرة واحدة ممن نحب.. نتجاوز كل الكوابيس، كل القلق.. وكل الكراهية التي تحيط بهذا العالم.‏

    كان كل شيء يجعل النسمة تحس بقلق دام، بموت يتقدم بروح يتوقف فعلها بقلب مفرغ من النشوة.‏

    رؤوس مثقلة، وأنفاس يحصارها الاختناق وأجساد لاتعرف للاستقرار طعماً.. فالطعم حنظل والحنظل يخترق الحلق.. ويفسد موسيقى الجسد.. والجسد هازل يذوب.‏

    اختنقت النسمة.. إصرارها على المكوث فوق الأرض جعل وجودها ملغياً فانياً.. بقايا أنين وبقايا أوكسجين هو كل رصيدها.. وهو الأمل الوحيد الذي ينقذها من موت محقق بات على أبواب بيت النسمة وأخذ يقترب من قلبها والآن يريد أن يفتح أبواب القلب ليتكئ هناك ويستريح.‏

    الاختناق نهاية والنسمة حريصة على أن لا تكون نهايتها هكذا نهاية استسلام.. لذلك راحت تركض إلى مكان آخر علها تجد فيه ما يحقق لها رغبة تلح عليها في العيش على سطح الأرض بدلاً من هذا التيه الذي تعيشه دون جدوى..‏

    كانت تعتقد أنها ستبذل جهداً كبيراً قبل أن تصل إلى مرفأ آمن.. لكنها فوجئت بعد انتقالة قصيرة.. أن موقع الأمان قريب منها محيط بها. فعجبت للأمر.. وازدادت غرابتها حين وصلت إلى أسماعها أصوات غناء وموسيقى راقصة.. وأغرب الأصوات جذبتها.. فدخلت المكان، كان العالم هناك يختلف تماماً.. فكل شيء هنا صاخب حالم منتش، فرح سعيد وكل فريق كل فرد يريد أن يأخذ لنفسه أكبر قسطاً من السعادة يريد أن يجعل الضحكات في أقصاها.. أن يحول بينه وبين الخارج فالمكان هنا.. خلق لأعلى حالات النشوة والفرح الغامر والأحلام المنجزة..‏

    القناني والكؤوس حليفان لافراق بينهما والغزل في الرأس والقلب والجسد لكأن العالم كأساً وامرأة ومزيد من الرقص والنقود المنثورة بلا حساب.‏

    مكان حافل لنسمة تنشد الراحة وتلتقي سعداء القوم.‏

    فلتستقر هنا... هنا الأرض كلها لكن النسمة تعلمت خلال رحلتها أن مركز الأرض ليس هنا إنما هو في موقع آخر وهي ستبحث عن هذا الآخر لعلها تجده في مكان ما من هذه الأرض.. فتستقر.‏

    دارت النسمة وسحبتها رائحة مختلطة لايمكن التمييز بينها فيا للغرابة.‏

    هنا مخلوقات صغيرة وكبيرة تحيط بالمكان هنا ألوان هنا أحياء وأموات هنا رائحة فاكهة وهنا عفن أيضاً.‏

    اقتربت النسمة.. لكأن عليها أن تقترب.. الاقتراب اكتشاف ومعرفة وهذه هي المهمة التي جاءت من أجلها بعد أن تخلت عن التيه في الفضاء المجهول.‏

    من هنا من هذا المكان.. نشأت فلسفة الفضلات وصناعة الفضلات وغذاء يصنع من الفضلات.‏

    قيل لها كل هذا.. عرفت كل هذا.. حين كانت تتساءل عن كل مايجري على الأرض فالأرض بالنسبة إليها لغز وهي تريد أن تعرف معنى هذا اللغز.. لغز الإنسان وفضلاته على أرض واحدة.. كيف؟‏

    فقراء هنا.. يلتقطون مازاد وما أهمل..‏

    وأغنياء هنا، يتباهون بما أكلوا وشربوا وأطفال هنا يلتقطون بقايا.. من فتات وزجاجات ودمى هجرت جمالها وملت اللعب مع الأطفال المدللين.‏

    ونساء يتسترن على وجوههن وهن يفتش عن أكل لهن أو لدجاجهن.. أو لخرافهن. كلاب وقطط وفئران وصراصير وذباب وبق وديدان.. ومخلوقات نادرة كلها تبحث عن رزقها في هذا الركام.‏

    ومع ذلك تقول النسمة.. هناك فلسفة يمكن أن تعرف من خلالها اقتصاديات وسلوك المجتمع وينتشي النبات بغذاء كيمياوي وحيواني.. ينتاب النسمة إحساس بالغثيان والضجر.. فكل شيء على هذه الأرض مليء بالمتناقضات. وكل شيء يصارع ضده وكل شيء يحاول قتل الآخر.. وتذكرت عالم الغابة الذي خدعها منظره البهي المليء بالأشجار والأنهار.. فزارته وتبينت أنه عالم لا يختلف عن عالم الإنسان كثيراً.‏

     

    تعبت النسمة من جولتها وأدركت أن حالة التيه التي تعيشها ستظل هوية لصيقة بها وجوداً لها.. عرفاً من أعرافها.. وإن حالة الملل التي تنتابها بين مدة وأخرى ماهي إلا أحاسيس التيه التي تبحث عن مستقر، عن لحظة استقرار.. وقطرة.. قطرة واحدة من الهدوء‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()