بتـــــاريخ : 11/19/2008 9:16:41 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1690 0


    السّنديانة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نزار نجار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة السّنديانة نزار نجار

     

    بدا الحزن على الوجه البدريّ متعاظماً.. بدا الألم الدفين كبيراً.. لكنّها كانت تداري وتكابر... رسمت ابتسامة شاحبة على شفتيها الرقيقتين. وهمست بمودّة:‏

    - أهلاً...‏

    انسحب الحزن على جلستنا، خيّمت الكآبة... لم يكن هناك مناص من المكاشفة..‏

    جلست أمامي، وقد أرخت كفّيها في حضنها.شعرتُ بنوع من الحرج.. خمسة عشر يوماً يا آدمي وأنت غائب عنها... ها هي ذي ماثلة أمام عينيك. فتأمّلْ .. تأمّلْ وجهها النوراني الذي نهلت من عذوبته حتى الارتواء.. تأمّلْ انحناءتها نحوك. تأمّلْ شعرها الذي بدأ ينحسر عن فروة الرأس.. سحبت منديلها الأزرق، غطّت هامتها، عقدت تحت ذقنها عقدة، وأسلمت كفّيها من جديد إلى حضنها، كانت الحركة غير عادية، نظرتُ باستنكار:‏

    - ما معنى هذا؟.‏

    - لا شيء.‏

    - كيف؟.‏

    همسَتْ:‏

    - هكذا أفضل!..‏

    - لم أفهم..‏

    - أقول: هكذا أفضل..‏

    سكتُّ ولم أقتنع.. كانت أمامي بكلّ حزنها وألمها وإحساسها العبثي بلا جدوى أن تستمرّ الحياة.. لقد شارفت على الثمانين، ومع ذلك فحيويتها، خطواتها، أحاديثها، مرحها.. كانت أعجوبة. إذا ابتدأت حكايتها سحرت الموجودين، نقلتهم إلى دنيا غير دنياهم، سرحت بهم في أراضٍ ما سمعوا بها، شردت معهم إلى الماضي، وأشرفت على المستقبل.‏

    كنت حزيناً لحزنها، ولكنني لم أنتبه إلى مقدّماتها نهضتْ تفتح النافذة، فدفعتُ الباب ورائي لأسمح لأكبر قسط من الهواء بالدخول...اصطرعت في داخلي أشياء مبهمة وأنا أرنو إلى ثوبها الأزرق المنمنم بنقاط بيض، وقد انسحب على قامتها، لاحظتُ توانياً في حركاتها، ثم عادت إلى جلستها.‏

    وحين طرحت سؤالي:‏

    - لماذا زرت أختي، وأقمت يومين؟‏

    انفجر حزنها صامتاً، ورأيت دمعتين تتعثران في عينيها، انتقلت العدوى إليّ. فطفقت أبكي بصمت مثلها.. قالت:‏

    - تصوّر... استيقظتْ هذا الصّباح. وهي تنوح. كأنها في يوم فَقْدِ زوجها....ولما سألتُها زاد نواحها، لقد كانت تحلم.. الباب مفتوح وهو واقف بقنبازه الأبيض. وحطّته البيضاء ووجهه الخمري.. كان في صحّة جيّدة كعهد هابه. قالت:‏

    - أنت!‏

    - نعم.. أتيت لأخذك معي‏

    وأشار إلى حصان أبيض وراءه. قالت:‏

    - وهل سيحملني معك؟‏

    - بلى...ولن أتركك أبداً!‏

    قالت:‏

    - دعني ألملم حوائجي..‏

    قال:‏

    -اتركي كلّ شيء وهلمّي الآن... لم أعد أستطيع صبراً.. هيّا.. ونهضت إليه.. فأردفني وراءه، وطار الحصان الأبيض دون أن يكون له جناحان.. طار.. وطرت يا أمّي.. أريد أن أذهب إليه فعلاً، ما حياتي من بعده، وما معنى أن أستمّر.. أنت ترين الأولاد.. لا أحد ينفع ولا أحد يهتّم.. لقد ضعت يا أمّي.!‏

    وتنامى بكاؤنا.. حتى لم أعد أستطيع دفعاً لدموعي، كان الحزن أكبر من كلّ شيء.. وكان البكاء قد أخذ بنا، هي تبكي وأنا أبكي. وانداح في الحجرة التعيسة لحن كئيب.. قالت:‏

    - معذرة، لا أريد أن أزيد أكثر‏

    قلت:‏

    - يا أمّي، أنت تعرفين..‏

    هزّت رأسها:‏

    - فعلاً، أنا أعرف.. الجيران زاروها، فسمعت أمّ حسن بأنّ البرغل قد نفد، ولم تمضِ ساعة حتى كانت تنكتا برغل في باحة الدار...يا ابني أختك تعيش على الصدقات، وأنا أعرف أنّه ليس باستطاعتك أن تصنع شيئاً.. الموظّف لا يقدر على شيء.. الموظّف وضعه تعيس، أنا أعرف، وأنا ليس بيدي حيلة، لكنّني لا أستطيع تركها، هل عرفت لماذا زرتها؟ ولماذا تغيّبت عندها؟!.‏

    أحنيْتُ رأسي، وساد الصّمت بيننا، الأمور ليست على ما يرام، الأمور تسير نحو الأسوأ دائماً، كلّ شيء يعاندني.. يعاندنا.. وهذه الأسرة الممزّقة بدأت رحلتها الحزينة منذ دهور. ولا تزال رحلتها ماضية في الطريق ذاته...لا أفراح ولا مسرّات، لا محطّات استراحة، ولا مواقف للفرح.. الحزن يسدّ المنافذ والطّرقات.. الحزن يتعاظم، وأمّي شجرة السنديان، لم تعد تبالي بعبث الأيام، ولا زعزعة الريح، إنّها تهزأ بكلّ شيء.. ، ربتّنا.. وسارت بنا في دروب الحياة، وها هي ذي تشهد همومنا وآلامنا، والابتسامة على شفتيها، إنّه قدرنا بالفعل أن تكون أختي كذلك، أرملة صغيرة ووحيدة، وأن يكون أخي على هذه الصّورة المترديّة، يبدو أنّ الفقر يورّث.. وهل هناك من مهرب!!..‏

    بدت أمي مستسلمة، راضية بما قًسِمَ لنا جميعاً. أرادت أن تغيّر الحديث، فانطلقت تحكي عن الصّغار الذين تعلّقوا بعمل المطبعة، وعن الطفلة"هيا" التي التحقت بدورة خياطة، الحياة لم تزل تجري على طريقتها المعهودة. الحياة ليست ضيّقة كما نتخيّل، إنها عريضة، تتّسع لمزيد من الكآبة والحزن، لمزيد من الابتسامات أيضاً...‏

    ورسمت أمي ابتسامتها الحلوة..‏

    استدار وجهها الشمعي الأبيض، وشفّ عن روح آمنة هادئة. نسيت غضبها وحزنها وألمها.. دفنت كلّ شيء، ورسمت ابتسامتها المشرقة...‏

    نهضت وقالت:‏

    فنجان قهوة.. سيغيّر مزاجنا. أليس كذلك!‏

    هززْت رأسي موافقاً..‏

    لكنّها قبل أن توقد"الغاز" وتضع ركوة القهوة، أحضرت حزّي بِطّيخ، وأحضرت شوكة. وقالت:‏

    - برّدْ قلبك. قبل أن تشرب القهوة..‏

    لقهوتها طقوس مميّزة، تركتها على النّار الهادئة، والتفتت إليّ تريد أن تزيح آخر سحب الحزن من فضائنا.. بدت هذه المرّة أروع ما تكون عليه الأمّ.. اقتربت منّي. وضعت كفّها الدافئة على كتفي. وانحنت تقبّل رأسي..‏

    - الله يرضى عليك، لا تترك الأيام تغلبك.. اغلبْها أنت..‏

    صارت القهوة جاهزة، صبّتها في فنجانين.‏

    قدّمت لي واحداً.. وجلست أمامي، أرخت كفّها باستسلام. ولم أسمع سوى صوت ارتشافنا..‏

    وهبّت نسمات ناعمة، حركت سجف سريرها الورديّة.. وابتسمت.. بهدوء، أضاءت ابتسامتها المكان..

    كلمات مفتاحية  :
    قصة السّنديانة نزار نجار

    تعليقات الزوار ()