بتـــــاريخ : 11/19/2008 8:31:10 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 895 0


    الزيارة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مصطفى فاسي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الزيارة مصطفى فاسي

     

    اليوم الأول:‏

    في الصباح كانت مجموعة من الأطفال الصغار ذاهبين إلى المدرسة، فتوقفوا جميعاً وأحاطوا بشاحنة كبيرة كان محركها مايزال يهدر بينما مجموعة كبيرة من العمال يتسابقون إلى النزول منها.. كان التلاميذ ينظرون وبعض الدهشة تملأ أعينهم الصغيرة، وخاصة عندما رأوا العمال ينزلون من الشاحنة أدوات الحفر والعمل المختلفة..

    كان النشاط الكبير واضحاً في ملامح العمال وحركاتهم وهم يتوزعون على طرقات الحي وبين العمارات الكبيرة.. ذهب التلاميذ إلى مدرستهم وفي أذهانهم الصغيرة أسئلة متعددة، ثم لم تلبث أن جاءت شاحنة أكبر من الأولى تحمل جرافة لتسوية التراب وآلةٌ أخرى لرص الطرقات وشاحنات تحمل الرمال والأحجار والزفت والاسمنت وغير ذلك، فما كادت تمر ساعة واحدة حتى كان الحي بعماراته المتعددة ورشة كبيرة للعمل والنشاط.. لقد بدأ في وسط هدير المحركات القوي إصلاح الطرق. وترميم العمارات، وإكمال إصلاح بعض النوافذ التي ظلت تنتظر منذ خمس سنوات كاملة، كما بدأ شحن قطع الحديد المكدس فوق بعضه في الساحات وإلى جانب الطرقات، وكذلك الاسمنت الفاسد المتحجر، وقطع الآجر..‏

    وتفرق بعض العمال مع أحد المهندسين لإصلاح الطرق والأرصفة.. لقد تحولت هذه الطرق إلى طرق ريفية تمتلئ بالحفر التي كثيراً ماكانت تتسبب-بعد نزول المطر- في معارك وشتائم بين الراجلين وأصحاب السيارات بسبب المياه الوسخة التي تقذف بها عجلات السيارات أوجه المارة وملابسهم.‏

    كما توجهت إحدى الجرافات نحو بركة كبيرة ماتزال نصف مملوءة بالماء كانت تقع بجانب الحي، وكثيراً ماكان يلعب فيها أطفال الحي الصغار، ولم يعودوا يقتربون منها وقد صاروا يسمعون عنها من آبائهم قصصاً وحكايات مخيفة، بعد أن غرق فيها منذ حوالي عام طفل لا يزيد عمره عن ثلاث سنوات... وتوجه بعض العمال لإصلاح أحد المجاري كان قد تفجر منذ ثمانية أشهر فأصبح يسمى عند الجميع الحراش الصغير وقد نبتت على ضفتيه حشائش جميلة خضراء، كما بدأت الضفادع الكثيرة التي تعمره تُسمع في كل ليلة سكان الحي نغماتها العذبة... رائحة الزفت والبنزين والمازوت، وهدير الشاحنات، وسواعد العمال والحركة...‏

    أهملت كثيرات من النساء أعمالهن البيتية وفتحن النوافذ يتابعن هذه الحركة غير العادية.. بينما خرج الرجال الذين لا عمل لهم يتابعون عن قرب ويلاحظون حركة التغيير السريعة في حيهم...‏

    قال العم عمار الشيخ المتقاعد الذي قضى ثلاثين سنة في باريس ومرسيليا وليون وغيرها من المدن الفرنسية ينتقل مابين سطح الأرض وباطنها، قال لمجموعة من الجيران الواقفين معه يتأملون مايجري في الحي:‏

    - سبحان الله.. والله العظيم يذكرون الواحد بأيام زمان.. زمان "البترون"... هكذا تماماً يعملون هناك...‏

    اليوم الثاني:‏

    في هذا اليوم بدأ العمال باكراً أيضاً، وقد كانت مهمتهم إيصال الماء إلى الحي الذي ظل ينتظرها منذ انتهت أشغال بنائه قبل خمس سنوات.. كانت الأنابيب موجودة تحت الأرض، وضعت هناك بمجرد الانتهاء من بناء الحي.. لقد كان أكبر مايخشاه السكان أن تكون تلك الأنابيب الطويلة قد تحولت إلى مترو أرضي كبير يمكّن الفئران الضخمة من التنقل السريع بين جميع أنحاء الحي...‏

    الأنابيب إذن موجودة، ولكن الماء لم يصل، يقال إن المحرك الذي يجلب الماء إلى الخزان الكبير الخاص بهذا الحي لم يكن يشتغل، ولا أحد يعرف السبب، مماجعل السكان يعتمدون على أنفسهم في جلب الماء من أماكن بعيدة مختلفة... ولكن مع مرور السنوات وتغلب اليأس، وفقدان الأمل اقترح أحدهم وكانت له خبرة ممتازة بأمور المياه الجوفية وحفر الآبار- أن يحفروا بئراً أو حتى مجموعة من الآبار... وافقه الجميع طبعاً، ولكنهم ماكادوا يبدؤون الحفر في أحد الأماكن بعدما درس بعناية من جميع النواحي، حتى وصل الخبر إلى السلطات التي أقبلت مسرعة لتوقف المشروع...‏

    لم تكن أمام العمال في هذا اليوم أشغال كبيرة، كل مافعلوه أنهم توزعوا على العمارات والبيوت يتفقدون العدادات والحنفيات، ولم يكد يأتي منتصف النهار حتى كانت المياه تجري في الأنابيب.‏

    وصل الماء إلى العمارات أسفلها وأعلاها، وكان قوياً على الرغم من أن جميع الحنفيات كانت مفتوحة...‏

    بدأ السكان يغسلون الجدران والأدراج والطرقات، وفي ذلك اليوم أخرج أحد السكان أنبوباً من نافذة بيته في الطابق العاشر وبدأ يوجه الماء بشكل قوي إلى كل من كان في أسفل العمارة، كان الماء ينزل بارداً فوق رؤوس الأطفال الصغار وفوق الكبار وملابسهم، فكانوا يقفون تحته يضحكون، كما كان منهم من يرقص أيضاً... وكانت النساء ينظرن من النوافذ والشرفات ويملأن الحي بالزغاريد...‏

    اليوم الثالث:‏

    المساحات التي تسمى عادة خضراء، كانت ماتزال حمراء أو سوداء بحسب لون التراب الذي جلب إليها في الشاحنات منذ بناء الحي من بعيد.. وفي هذا اليوم، ومنذ الصباح كانت هناك شاحنة تحمل مجموعة كبيرة من الشجيرات بدأ العمال يغرسونها في خطوط مستقيمة جميلة.. وفي مساء هذا اليوم نفسه كانت هذه الشاحنة التي ذهبت في الصباح قد عادت وهي تحمل مجموعة كبيرة من الأزهار المختلفة، التي بدأ غرسها بين الشجيرات بمجرد وصول الشاحنة، كان أطفال الحي الصغار يتسابقون في مرح وبهجة لجلب الماء من بيوتهم وسقي الشجيرات والأزهار .‏

    اليوم الرابع:‏

    أشد ماكان يكرهه الرجال قارورات الغاز المزعجة، وخاصة من كان يسكن منهم في الطابق العاشر، وإضافة إلى هذا فإنهم كثيراً ماكانوا يحملون على ظهورهم القارورات الفارغة وهم يتجولون من حي إلى آخر بحثاً عن المملوءة، فلا يجدونها إلا وقد انقطعت أنفاسهم، وقد يعودون بها إلى بيوتهم فارغة ليدخلوا في عراك لا نهاية له مع زوجاتهم، مع العلم أن الغاز لم يتأخر عن الوصول إلى البيوت إلا بسبب قطعة أنبوب صغيرة لا يتعدى طولها مترين اثنين تقع في المدخل بجانب الباب الخارجي لكل منزل.. أما الكهرباء فقد تأخرت بسبب عدم تركيب العدادات، التي انتظرها الناس طويلاً مع أنهم- كما يروي بعض سكان الحي عن أصدقائهم الذين يسكنون في الأحياء الأخرى- كثيراً مايتحدثون في التلفزيون عن معمل كبير للعدادات يكفي الحاجة الوطنية، ويصدر إلى الخارج أيضاً..‏

    في يوم واحد، وصل الغاز والكهرباء فملأت الزغاريد الحي مرة أخرى..‏

    في جانب آخر من الحي، وفي الطابق الأرضي، لإحدى العمارات كان العمل يجري سريعاً لتهيئة بناية ظلت طيلة هذه السنوات مجهولة الهوية، وقد اتضح أخيراً وبعد الترميم والصباغة وجلب الأجهزة وكتابة لوحاتها الخارجية إنها (مركز البريد)...‏

    اليوم الخامس:‏

    كان سكان الحي في هذا اليوم يسيرون في الطرقات والممرات الصغيرة بين الشجيرات والأزهار التي كانت تبدو للجميع جميلة ورائعة، كما كانوا وهم يمرون بجانب أعمدة الكهرباء ينظرون إليها ويتفحصونها بنظراتهم كأنما هم يرونها لأول مرة، مع أنها كانت تنتصب في أماكنها منذ سنوات.‏

    وعند الساعة السابعة مساءً كان الحي كله قد أصبح مزداناً بالأنوار الصفراء..‏

    - هل هذا هو نفسه حينا السابق؟!‏

    تساءل أحد الشبان كان يقف مع مجموعة من أصدقائه، ثم يضيف وهو ينظر ويشير بيده في بهجة إلى الأنوار المتلألئة في كل مكان:‏

    -لا.. أبداً.. إنه حي آخر.. حي جديد...‏

    في ذلك المساء خرج كثير من الناس من بيوتهم، الرجال والنساء والأطفال كانوا يمشون مرفوعي الرؤوس والبهجة تملأ وجوههم... تملص أحد الأطفال من يد أمه وجرى إلى أحد أعمدة الكهرباء ليحتضنه بيديه الصّغيرتين ويقبله في شوق، وهو ينظر إلى المصباح الأصفر العالي وكأنما هو قمر جميل، بينما خرجت طفلة صغيرة من بيتها مسرعة لتنادي بنات الجيران...‏

    كانت تضغط بأصبعها الصغير على جرس الباب، وتقرب إذنها من الباب لكي تسمع صوته جيداً ثم تعود لتدق الجرس من جديد، حتى إذا فتحن لها الباب الواحدة بعد الأخرى طلبت منهن مرافقتها للعب في ساحة الحي.. كانت البنات الصغيرات يمسكن بعضهن بأيدي البعض الآخر مكونات دائرة جميلة حول أحد أعمدة الكهرباء وهن يقفزن ويغنين ويدرن حول العمود الكهربائي الذي كان يبدو في وسطهن مثل العملاق وربما كالأب الحنون...‏

    وفي جهات أخرى من الحي كان هناك بعض الكبار والأطفال يسقون الشجيرات والأزهار في كثير من الحنان وقد انتشر عطرها في ذلك المساء يملأ الحي..‏

    اليوم السادس:‏

    فوجئ الناس صباح هذا اليوم، وكان يوم خميس بوجود سيارتين غريبتين عن الحي مجهولتي الهوية، كان يميز السيارتين أنهما جديدتان تماماً ومن نوع فاخر، كما كان لونهما أسود، وكل منهما لها أضواء إضافية من الأمام، وهوائيان اثنان وبداخلها أربعة اشخاص ببذلاتهم السوداء أو الزرقاء...‏

    ومع طلوع النهار بدأت تتوافد سيارات أخرى لرجال الدرك والشرطة وتحدث بعض السكان عن أناس في السلطة كان من بينهم رئيس البلدية ورئيس الدائرة وهم يزورون هذا الحي لأول مرة، يقال أن أشغالهم كثيرة دائماً، وكانت قد أقبلت قبل الجميع وحتى قبل طلوع الشمس حافلة تحمل مجموعة من العمال شرعوا منذ وصولهم يعلقون الأعلام الوطنية في الأعمدة الكهربائية ومداخل بعض العمارات...‏

    كانت الدهشة تملأ أعين جميع سكان الحي وهم يتأملون في صمت مايجري، فلقد شهد حيهم في هذا اليوم مالم يشهده وربما لن يشهده طوال حياته..‏

    وقبل منتصف النهار بقليل بدأت تسمع صفارات رجال الدرك والشرطة، ثم أقبل دركي على دراجته النارية التي كانت تتحول بسبب سرعتها إلى طائرة حقيقية، تلتها بعد نصف دقيقة سيارة للشرطة، ثم ظهر الموكب كله.. أكثر من عشر سيارات سوداء، ومجموعة من الدراجات النارية بالإضافة إلى سيارات الدرك والشرطة...‏

    توقف الكل بمدخل الحي حيث كان قد بني باب مرتفع يمثل أعلاه قوساً كبيراً، يبدو أنه كان قد بني هناك في الليل...‏

    وانتشر الهمس بين السكان الواقفين في اندهاش بأن هناك شريطاً حريرياً سيقطع في هذه اللحظات، دون أن يعرفوا لماذا، ثم توجه الموكب بعد ذلك لتدشين دار البريد ومدرسة الحي التي ظلت مغلقة عامين كاملين..‏

    كان يقف على جانبي الطريق الرئيسي معظم سكان الحي، يختلط بهم مجموعة كبيرة من الرجال يقال بأنهم عمال أحد المعامل القريبة، و... كانت عشر حافلات كبيرة قد جاءت بهم في الصباح وقد استبشر السكان خيراً عندما رأوا تلك الحافلات. وكانوا بعد أن توقفت وراء بعضها في صف طويل يتفحصونها ويلمسونها بأيديهم ويقرؤون ماكتب في لوحاتها الأمامية.. فلأول مرة تدخل حافلة للركاب هذا الحي.. وقد كانوا جميعاً يحلمون أن تتحول هذه الحافلات إلى حافلات ركاب تربط حيهم المنعزل ببقية العالم..‏

    مساء اليوم السادس:‏

    مر كل شيء كالزوبعة... وفي مساء هذا اليوم كان الحي هادئاً للغاية.. كان الرجال يسيرون في طرقات الحي وبين ممراته في صمت.. كانوا يمشون بخطوات ثقيلة ورؤوس منحنية.. كان بعضهم يضعون أيديهم متشابكة وراء ظهورهم وهم ينظرون إلى الأرض أمامهم بنظرات منكسرة.. ومثل الأمس كان الأطفال وحدهم يملؤون الحي مرحاً وضجيجاً..‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الزيارة مصطفى فاسي

    تعليقات الزوار ()