وذات يوم قرر الجار التقي أداء فريضة الحج، فهيأ نفسه للسفر، وأعد للحج عدته، وجهز نفسه، وودع أهله وأصحابه، ثم ودّع جاره، وانطلق مع القافلة.
وكان السفر إلى الحج يستغرق أشهراً طويلة، إذ كانوا يسافرون على الجمال، فيمضون شهراً في الذهاب، وشهراً في الحج، وشهراً في الإياب، فكان الحاج يغيب عن أهله ثلاثة أشهراً أو أربعة.
وفي غياب الجار التقي، قرر الجار الشقي الزواج، فطلب من أمه أن تخطب له، ففرحت الأم بقرار ابنها، وسعت تطوف باحثة عن فتاة تليق به، ثم استقر بها المطاف على فتاة، وتم الزواج، وتاب الشقي، واستقر، وترك ماكان فيه من قبل.
وفي تلك الأثناء كان الجار التقي في الحجاز، يؤدي مناسك الحج، وبينما هو في الحرم الشريف، يطوف حول بيت الله الحرام، ويدعو الله، ذكر جاره، فدعا له بالهداية والصلاح، وإذا هاتف من السماء يقول له: "جارك الشقي سيدخل الجنة قبلك، وسيجد بابها مفتوحاً"، فذهل لما سمع، وفاضت عيناه بالدموع، وتمنى أن يعرف سر مغفرة الله تعالى له، وبات ينتظر العودة إلى بلده، ليلتقي جاره، ويسأله عما فعل، حتى عفا الله عنه.
وانتهت أيام الحج، ورجع التقي إلى بلده، وأمضى بضعة أيام يستقبل الناس القادمين للقياه، ولما انتهت تلك الأيام، أسرع إلى جاره يسأل عنه، فلقيه، فسلم عليه، ودعاه إلى ضيافته، وقعد يحدثه عما جرى معه في الحرم الشريف، وسأله بالله أن يقص عليه ما كان من أمره، ومن سر مغفرة الله له، وفي البدء تردد الشقي، ولكنه لم يلبث أن حدثه، فقال:
"طلبت من أمي أن تخطب لي، فقد قررت في غيابك الزواج، وما هي إلى بضعة أيام حتى اهتدت إلى فتاة، ثم كان حفل الزفاف، ودخلت على عروسي، ولم أمض معها بعض الوقت، حتى ظهرت عليها آثار ألم شديد، وسألتها، وإذا هي في المخاض، ودهشت، لِمَا رأيت، فتوسلت إلي أن أكتم أمرها، وقد آلمني كثيراً ما بدا عليها من وجع شديد، وهي تكتم ألمها، وتحبس صراخها، وترهق نفسها، حتى كان الفجر، فوضعت ولداً، فحملته تحت عباءتي، وخرجت، وأنا أدعي أمام أهلي أني ذاهب إلى صلاة الفجر، ولم ألبث أن عدت إلى البيت، لأدعي أمام أمي أني عثرت بهذا الطفل الوليد، ملقى على باب المسجد، فأخذته أمي وفرحت فرحاً شديداً، وقررت أن تعنى به، وتربيه، ثم علمت من عروسي أن ابن عمها كان قد غرر بها، ثم سلمت أمرها إلي، لأقرر مصيرها بما أشاء، فرقّ قلبي لها، وقررت أن أعيش معها، أخاً، من غير أن أمسها، وهي إلى اليوم معي، هانئة صابرة مطيعة، وأنا لا أقربها، وقد مضى على زواجنا ثلاثة أشهر، ولا أحد يعلم بما بيننا، غير الله وأنت".
وكان التقي يستمع إلى الشقي، والدموع تطفر من عينيه، ولما أنهى حديثه، قال له: "بارك الله فيك يا أخي، فقد غفر الله لك، ولكن لي عندك رجاء، آمل منك ألا يخيب"، فوعده الشقي ألا يخيبه، فتمنى عليه أن يباشر زوجته، وأن تصبح حلاًّ له، فبفضلها قد غفر الله له، وهداه إلى الحق والرشاد، فوعده الشقي بذلك.
وعاش الشقي مع زوجته، في أهنأ حال، وأسعد بال، وأصبح تقياً ورعاً، يخاف الله ويخشاه، ورزق البنين والبنات، وأما الولد، فقد نشأ مع إخوته لأمه، يحظى بما يحظون به من عطف واهتمام.
تعليق:
تدل الحكاية على أن الدين في الأساس هو المعاملة، وأن علاقة الإنسان بالمجتمع والآخرين والناس من حوله، هي التي تقرر مصيره، وليست العبادة وحدها، وإن كانت الحكاية لا تلغي العبادة، ولا تقلل من قيمتها.
والحكاية تعلي من شأن الإنسان، وتؤكد أن رعاية الإنسان وحمايته وستره والعفو عنه، هي الأمور التي ينال بها المرء رضى الله وعفوه.
والحكاية تدل على أن الدين هو تعبد الإنسان لله من جهة، وتعامله مع الآخرين من جهة، والجانبان متكاملان لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
ويظهر من خلال الحكاية ما ينال المرأة دائماً من ظلم المجتمع لها، كما يظهر من خلال الحكاية أيضاً أنها هي نفسها معيار العفو والرضا، والرجل ينال الحظو عند ربه بمقدار ما يمنحها من رعاية واهتمام.
والحكاية ذات رؤية إيجابية، تقدر المرأة، وتدافع عنها، وتدعو إلى رعايتها وتكريمها