بتـــــاريخ : 11/19/2008 6:42:45 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1572 0


    الحارس الأمين

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمــد شــاكر الســـــبع | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    آ...آ....آ... عن أي طبيب مزعوم كنت تبحث أيها العاق... عاق؟.. لا... إنما وغد الأوغاد.‏

    ليس غير الأسى ما شعرت به، ذلك الضرب من الأسى الممزوج بالمرارة الذي يمكن للقلب أن ينؤ به. هل اطوى جوانحي على صورة العم كمال التي ظلت متألقة من زمن يرقى إلى الطفولة، حتى لا أصاب بالكمد؟. كيف السبيل إلى إيقاف عم ودود جميل من التحول إلى مستبد؟. هل في الو..‏

    -آ.. آ... هل وجدت ذلك الطبيب المزعوم يا وغد الأوغاد؟‏

    -يا عم، إنك لتعرف جيداً أنني معك مـ..‏

    -من أجل ماذا يابن أخي الأكثر عقوقاً من كل أبناء الأخوة في هذا العالم؟‏

    وأضاف للنكاية:‏

    -في طول العالم وعرضه.‏

    حين وجدني ساكتاً أمعن في استبداده:‏

    -أنا أكبر كذاب في طول البلاد وعرضها؟‏

    -يا عم..‏

    -لتسكت. بلغ بك العقوق أنك لم تتلف حكاياتي، وإنما جعلت أباك يقول عني أنني.. آ.. لا أريد أن أكرر تلك الأوصاف، تلك الكلمات التي تشبه السكاكين. هل صحيح أنه قال تلك الكلمات؟‏

    -أية كلمات؟‏

    -إنني أكبر كذاب في طول البلاد وعرضها؟. وإنني سأجعل منكم أنتم الصغار كذابين لا يضارعون؟‏

    -ألم نتحدث في هذا الأمر يا عم؟.. ألم أشرح الأمر بشكل لا لبس..‏

    -لبس؟.. غششتني يا وغد الأوغاد في ذلك الحديث.. كيف حشرت كل تلك الحيوانات في حكاياتي؟.. بغال وقطط سود وقطط بيض وحمير وكلاب ومالا أدري من حيوانات لا أعرفها أو لم أسمع بها.‏

    أيقنت أنه من الحق الدفاع عن مقاصدي النبيلة، فحين تركته لهثت طويلاً في الممرات وبين الردهات بحثاً عن طبيب، إذ بات تنفسه عسيراً، أو هكذا خيل إلي. غير أنني الآن أجلس بين يديه لأتلقى تقريعه. تهيأت لبدء دفاعي، لكن العم كمال فاجأني:‏

    -أتعلم أن الوحيد الذي مات في حياة جدك هو خالك نجم؟‏

    شعرت أنني سأسقط ميتاً. هاهي وسيلة جديدة للهجوم على أهل أمي، يجعلني أدافع عن نفسي ويهاجم أخوالي..‏

    -خالك نجم كان قاطع طريق حقيقياً...‏

    -يا عم ألا يمكن أن تترك أخوالي ينعمون براحة نومهم الأبدية؟. ألا يكفيك سخرية منهم؟‏

    -من يسخر يا وغد الأوغاد؟.. أنا؟.. ما فعله خالك نجم قبل أن يموت بقليل جعل جدك ينظر في كل اتجاه بعينين ملؤهما الجزع. قيل أنه كاد يطرح جدتك أرضاً وهو يزعق بصوته المجلجل:‏

    -أهذا ابني الذي أنجبته منك؟. بالتأكيد إنه ليس حماراً، لكن من يكون؟. أنا أعلم أن أولادي أكبر قطيع من الحمير في العالم، لكن نجم هذا من يكون؟..‏

    قاطعته متضرعاً:‏

    -يا عم كفاك شتماً لأخوالي، ألا تقدر مدى العذاب الذي تغرغرني به؟‏

    -لم أشتم أحداً يا وغد الأوغاد، أنا أحكي لك ماحدث..‏

    -لا أريد أن أسمع.‏

    هدر العم كمال:‏

    -لا تقاطعني. عليك أن تسمع مافعله قاطع الطريق ذاك الذي هو خالك بقطاع الطرق الذين هم أخوالك.‏

    إذن، لن يفلت أخوالي من قبضة عمي كمال. إنه سيبطش بهم جميعاً دون رحمة ودون أن يكون بمستطاع أحد أن يدافع عنهم، مادام قد تمترس منذ البداية وراء ما يدعي أنها أحداث صنعوها هم بأنفسهم. قررت الفرار من الغرفة، لكن الطريق قطع بمهارة عندما انطلق صوته والابتسامة تحتل وجهه:‏

    -تعود أخوالك، قطاع الطرق أولئك، أن يبطشوا بكل ما يحيط بهم، لكن جاء من يبطش بهم، ويجعلهم نادرة يتحدث بها الآخرون. ما فعله خالك نجم ليس بمقدور أحد فعله حتى ولا أخوالك الآخرين. هذا هو السر الذي ذهبوا بسببه ضحايا مساكين على الرغم من أنهم قطاع طرق.‏

    توقف ليقول:‏

    -لا تتململ ولا تجعل وجهك محتقناً بهذا الشكل، فما حدث ينتمي لزمن مضى ما عاد يهم أحد. لكن مافعله أخوالك ينبغي أن تعرفه.‏

    -لماذا ينبغي عليّ معرفته؟‏

    -لأنهم أخوالك، ومن حقهم عليك أن تحفظ تأريخهم بدون تحوير.‏

    ماذا يروم العم كمال أن يفعله بأخوالي بجر جرتهم ورميهم في حومة التاريخ؟. هذا كثير على قوم أمي الذين لا أعرف كيف سيبدون بعد نهاية هذه الحكاية؟. هل اهرب؟.. يبدو أني قلت جملتي الأخيرة بصوت عال، لأن العم كمال هدر:‏

    -لن تهرب. بل تسمع ما فعله خالك نجم بإخوته حتى النهاية.‏

    استرد هدوءه بسرعة.. قال:‏

    -مَنْ في المدينة لا يعرف خالك نجم وما فعله حين كان شاباً إنه لص اللصوص بدون نظير. كان يمتلك براعة مدهشة بحيث أنه لم يترك وراءه آثاراً يمكن للآخرين تتبعها. حين تاب عن السرقة وتحول إلى فلاح مثابر صدق الجميع ذلك، خلا جدك الذي كان ينظر إليه بريبة طوال سنوات عديدة جداً، إلى حد أن الآخرين، بما فيهم جدتك وأخوالك وخالاتك وأولادهم، اعتبروا ذلك ظلماً فادحاً وقسوة مريرة من قبل الجد نحو نجم الورع.. ورع؟.. صرخ الجد يوماً، وأضاف:‏

    -هذا اللص ورع؟.. إنه شيء مؤكد مادمت أنجبت هذا القطيع الكبير من الحمير والحمارات.‏

    -يا عم إنك تشتم حتى أمي.‏

    -أنا لم أشتم أحداً، بل أذكر ماقاله المرحوم جدك.‏

    أضاف بعد أن سمرني بنظراته الحادة:‏

    -ظل خالك نجم في بستان العائلة زمناً طويلاً جداً بعد أن هجره إخوته وأخواته. مقتفين آثار والدهم إلى المدينة، ليشكلوا ذلك الزقاق الطويل من قطاع الطرق، ذلك الزقاق الذي ولدت أنت فيه. يعني هذا أن خالك نجم ظل بعيداً عن سطوة الجد.‏

    ضحك العم كمال ضحكة غير مدوية. قال بعدها:‏

    -إذا كان اعتقاد جدك بعدم تدين خالك نجم قد ثبت بدون جدال بسبب تصرف أخرق لابن خالك، ذاك العريس الصغير الملعون الذي نسيت اسمه.. ما هو اسمه؟‏

    أجبته بمضض:‏

    -زهراو.‏

    -آه.. ذلك الزهراو بعمله الأخرق أكد صحة اعتقاد الجد بعدم تدين ذلك اللص العتيق الذي سرق يوماً سفينة كبيرة بأشرعتها. غير أن الجد كان بحاجة إلى أكثر من عمل أخرق، ليقتنع الآخرون باعتقاده الآخر.‏

    سألته مدهوشاً:‏

    -أي اعتقاد آخر؟‏

    -آن خالك نجم لا يضارعه أحد في اللصوصية.‏

    -يا عم...‏

    لتغلق فمك يا وغد الأوغاد ودعني أتم الحكاية. المهم، أن سنوات عديدة جداً ماكان الجد ليصدق كثرة عددها، قد مرت لتقع تلك الأعمال الخرقاء التي كان الجد بحاجة إليها، لتدعم اعتقاده. لكن الأمر وقع متأخراً جداً، مما جعل جدك يقع أسير الحزن إلى أن مات.‏

    -لماذا؟‏

    -لأن جدك لم يستطع أن يدق خالك نجم بعصاه دقاً، لا لأنه أكبر أولاده ويكاد يكون شيخاً مثله، إنما كان خالك على فراش الموت. قيل أن جدك شيعه إلى القبر وهو يطحن أسنانه كمداً وغضباً. ثم تحول الكمد والغضب تحت ثقل الوقت إلى حزن، لم يكن بوسعه التخلي عنه، فأخذه معه إلى مثواه الأخير.‏

    حين توقف العم كمال عن حديثه لم يكن لدي ما يمكن أن احتج به، إذ أن هذا العم توغل عميقاً في تمزيق روحي بهذه الحكاية التي ستطال ليس واحداً من أخوالي فقط، بل أكثرهم إن لم يكن جميعهم، وكذلك المرحوم جدي الذي جعله يذهب إلى قبره حزيناً في بداية الحكاية. ترى أين ستنتهي آفاق هذه الحكاية؟. لم أكن بحاجة إلى جواب، كنت بحاجة إلى شيء آخر يجعلني أحتمل السخرية من قوم أمي.‏

    واصل العم كمال حكايته:‏

    -لم يفلح أحد من إخوة نجم أو والده أو معارفه في إقناعه أو إجباره على هجر بستان العائلة والالتحاق للعيش معهم في المدينة. من فعل ذلك هو الزمن الذي أحنى قامة هذا العملاق الحازم القوي الإرادة. تظافر الكثير من الأحداث لجعله يهجر ذلك البستان الذي لم يكن بيتاً له فقط، بل وطناً. أول هذا الكثير أولاده وبناته الذين التحقوا بمدارس المدينة. كانوا صغاراً يعبرون بقارب الشبانة مع الاخرين بدفاترهم وأقلامهم الرصاص، ليجلسوا مع أترابهم على رحلات الصفوف. ثم كبروا وأصبح لهم زورق خاص، ينحدر مع النهر صباحاً ويصعده ظهراً. في ذلك الوقت بدأت خيوط الإهمال تغزل نسيجها ببطء في أماكن متفرقة من بستان العائلة الشاسع جداً. لم يتوقف الزمن عن إيقاعه الرتيب. وعلى الرغم من رتابته غير المحسوسة، تخرج الأولاد والبنات، وتعينوا في مدارس ودوائر الدولة. ماعاد أحد منهم يهمه تلقيح النخيل أو الاهتمام بألواح الخضروات، عندئذ ظهرت الشقوق في سور البستان الطيني، ذلك السور الهائل الامتداد. ثم توسعت الشقوق لتتحول إلى فتحات كبيرة وانثلامات متعددة، وجدت فيها الثعالب وبنات آوى المسالك المناسبة للأغارة على البستان. ثاني هذا الكثير هو النهر الذي جعل أرجل الخراب تهرول مسرعة نحو البستان.. لقد ابتعدت ضفته تدريجياً لتحتلها غابة قصب عصية على الاختراق أو الاقتلاع. إذا كان أولاده رحلوا من الطفولة والصبا إلى الشباب، فهو سار بخطى بطيئة من الشباب إلى الكهولة. ماعاد خالك نجم ذلك الفتى الذي يغطس حتى أنفه في النهر شتاء، لينظف ساقية ماكنة المياه، فجفت جداول البستان، وتحولت أرضه إلى بيضاء تعكس أشعة الشمس والقمر في لياليه المنيرة. ثالث ذلك الكثير الذي جعل اليأس يفيض من قلبه هو تقدم المدينة نحو بستان العائلة الذي هرم تحت عينيه. كان يرى البنايات من بين الفضاءات بين جذوع النخيل المستطال كربها. أخيراً جاء فيضان في زمن الجفاف فأغرق، ليس البستان وحده، و إنما الأرض التي تمتد بعيداً، فتقوض البستان، وقبل ذلك تقوضت إراداته التي كانت في يوم عصية على النهر والرياح وكل صنوف الخطوب. قرروالماء يصل حتى وسطه أن يهجر البستان.‏

    توقف العم كمال ليتساءل:‏

    -هل كان أحد في ذلك الوقت لديه اليقين أن خالك نجم لم يتعذب؟.‏

    بدا لي العم كمال في هذا التساؤل منصفاً لخالي، فقررت أن أستمع إليه جيداً،لا.. ينبغي أن أحثه على الكلام حتى لا يبتلع نصفه. باشرت قراري:‏

    -هل تعذب؟‏

    -من يدري؟‏

    ثم واصل الكلام:‏

    -لم يعبر خالك نجم نهراً واحداً إلى المدينة، بل نهرين ليتطوح من طرف المدينة الغربي إلى طرفها الشرقي، من الخضرة والنخيل والمياه الجارية، إلى الأرض الخلاء الموحشة، السبخة، المترامية من وراء ملعب الماجدية حى شريط البساتين الذي يرى أسود ملتصقاً بالأفق. أراد خالك نجم مدينة خاصة به بعد أن فقد عالمه الخاص في بستان العائلة. رفض أن يعيش مع أي من أولاده أو مع أبيه أو أحد أخوته. اشترى أرضاً في ذلك الخلاء الموحش الذي كان وطناً للحيوانات البرية واللصوص والفارين من الخدمة العسكرية، لأن سعر المتر كان أقل بكثير من سعر التراب. لم يشاركه في ذلك البيت المتوحد سوى زوجته التي أصبحت عجوزاً مثله. ثم حدث الذي كان جدك يخاف وقوعه، ذلك الحدث الذي انتظره سنوات دون يأس، لأنه يمتلك قناعة لا تتزحزح بأن ابنه البكر هذا أكبر لص استطاعت امرأة أن تأتي به إلى الوجود.‏

    - يا عم كفاك شتماً لأهل أمي.‏

    -يا ابن أخي الوغد استمع ولا تقاطعني.. حدث الأمر بشكل عاطفي في البداية، فقد قلق أخوالك الآخرون على أخيهم البكر، كيف يمكن أن يعيش بعيداً عنهم، في تلك الأرض الخطرة التي تعج باللصوص وقطاع الطرق والهاربين من الجيش؟. كيف يمكن له أن يحمي نفسه وزوجته من تلك الأخطار؟. تساءل الجد وهو يسمع هذه الكلمات مصحوبة بحسرات الألم:‏

    -أصحيح ما أسمع؟. متى كان الحمير يشعرون بعواطف متدفقة بهذه القوة؟. تخافون على أخيكم نجم من اللصوص وقطاع الطرق؟. عليكم أن تقلقوا على أولئك المساكين قطاع الطرق واللصوص من أخيكم نجم لئلا يسرقهم، إذا لم يصبح زعيماً لهم لحد الآن.‏

    عندما تذكروا من يكون نجم اقتنعوا بكلام الجد. لكن لم يكفوا عن التفكير به بطريقة أخرى. أكثروا من زياراته، وخلال ذلك وجدوا من الحكمة أن يشتروا أراض لهم إلى جواره مادام السعر زهيداً جداً.‏

    -وجدي ألم يعترض؟‏

    -لا... جدتك هي التي اعترضت، فقد اعتبرت رحيل العديد من أولادها إلى ذلك المكان انهياراً لعالم عائلتها، لكن جدك وبخها:‏

    -ليذهب من يريد أن يذهب وراء ذلك اللص، على الأقل سنتخلص من عدد من الحمير. ماعادت بيوتنا تستوعب اكثر، فنساؤنا يبدو أنهن من صنف الأرانب.‏

    فهاجت الجدة ونجح هياجها في إسكات الجد.‏

    خاطبني العم كمال بلجة ودودة:‏

    -لا تتألم، لم أذكره إلا كلمات جدك.‏

    بدا لي أن العم كمال أجاد في الإساءة لأهل أمي. قبل أن أنطق كلمة جاءني صوته:‏

    -لا أتذكر أسماء أخوالك الذين تبعوه، لكنني أتذكر اسم خالتك، إنها كريمة أم جاسم وقاسم. أنت تعرف ماحل بهذه الخالة، فبعد موت زوجها تولى جدك أمرها وأمر ولديها العاقين اللذين تركاها بعد أن كبرا وسافرا للعيش مع زوجتيهما في بغداد. اشترت خالتك أرضاً قريبة من أراضي إخوتها الأربعة، وكان خالك نجم هو الحارس الأمين على المواد الإنشائية لبيوت إخوته وأخته. لم يحدث أن وطأ لص هذه المنطقة بعد أن سكنها خالك نجم، لكن اللصوص بدأوا بغاراتهم على طابوق وجص وأبواب وأنابيب مياه أخوالك الأربعة. تلك السرقات أصبحت مدار أحاديث المدينة، من يجرؤ أن يسرق أخوالك؟. لكنهم وجدوا الجرأة لفعل ذلك. سهر أخوالك الأربعة الليالي، فأخذ اللصوص يغيرون على موادهم الإنشائية في النهار. كان الوحيد الذي لا يؤمن بوجود أولئك اللصوص هو جدك. كان يقول حانقاً:‏

    -صحيح أن أولادي صنف من الحمير، إلا أنه ليس من المعقول أن تحمل رؤوسهم هذا القدر من الغباء.. لصوص؟.. أين هؤلاء اللصوص المزعومون؟.. لقد أودعتم الشحم لدى القط.‏

    كان جدك يقصد بذلك القط خالك نجم. غير أن جدك اكتشف أمراً، فخالتك كريمة لم تتعرض لغارات اللصوص. فسر له الأخوال الأربعة المنكوبون أنها لم تتعرض مثلهم للسرقة لأن بيتها ملاصق لبيت أخيها نجم، إلا أن الجد ظل ينظر للأمر بعين ملؤها الريبة.‏

    هز العم كمال رأسه كما لو كان يأسف لشيء، فشعرت بالهم يغزوني لما سيأتي من حديثه. قال:‏

    -توقفت الغزوات فجأة. ما عاد الطابوق يختفي، ماعاد الجص يطير من مكانه، ما عادت الأبواب والشبابيك ترحل إلى المجهول. لم يقرن أخوالك الأربعة وقف الغزو هذا بأمر آخر. ثم نسى الكل هذا الأمر بعد شهور قليلة، واعتقدوا أن أولئك اللصوص محظوظون جداً بعدم وقوعهم بأيديهم، وشاركهم أهل المدينة هذا الاعتقاد، إلا جدك الذي كان يثور بين فترة وأخرى، فتسارع جدتك لتهدئته خوفاً من الفضائح.‏

    -فضائح؟‏

    -نعم، وإلا ماذا يعني لو اكتشف اللص؟‏

    -مَنْ اللص؟‏

    -ستعرف في نهاية الحكاية. مرت سنوات عديدة تحولت فيها تلك الأرض الموحشة إلى حي سكني كبير. ثم جاء الوقت الذي أزاح الأستار ليظهر اللص. كان جدك بحاجة إلى أمور كبيرة لكي يظهر وجه ذلك اللص، وماكان مخطئاً باعتقاده القديم، ذلك الأمر الكبير هو موت خالتك كريمة وصراع ابنيها جاسم وقاسم على البيت، ولكي ينهي النزاع قرر الجد بيع البيت وقسمة سعره بين هذين الحفيدين العاقين، لكن خالك نجم اعترض على البيع:‏

    -لن يبيع أحد هذا البيت.‏

    سأل الجد بدهشة:‏

    -لماذا؟.. أليس هو بيت أمهما؟‏

    -لا.. لم يكن بيت أمهما.‏

    لم يكن الجد بحاجة للبحث عن عصاه، فخالك نجم كان على فراش الموت، وهذا ماجعل الحنق يكتم أنفاس جدك. تدخلت جدتك علها تفهم الأمر قبل أن تنطلق الصاعقة التي ستمحق عائلتها:‏

    -يا ولدي نجم أنت على فراش الموت، يجب أن نعرف الحقيقة، خاصة أن أختك سبقتك إلى الدار الأخرى، إذا لم يكن البيت لأختك فلمن هو؟‏

    قال نجم وعيناه تطلان على العالم الآخر:‏

    -الأرض فقط ملك لها، أما الطابوق، أما الجص، أما الأبواب وكل ما تبقى فقد سرقته من أخوتي.. لقد غيرت معالم الأبواب والشبابيك عند الحدادين من أولاد إخوتي حتى لا يتعرف عليها أولئك الأخوة الأربعة.‏

    هذه المرة أنا الذي صرخت:‏

    -يا عم، ماذا فعلت بخالي نجم؟‏

    لم يعرني العم كمال اهتماماً، بل أتم حديثه:‏

    -فات الوقت كثيراً على عصا الجد، إذا سلم خالك نجم الروح ليلحق بأخته التي شاركته سرقة إخوته. بدا في ذلك الوقت أن العائلة أصابها شيء ما لايعرف أحد بماذا يصفه، فقد علا بكاء البعض على الخال المتوفى، فيما ارتفعت أصوات أخرى تلعنه. لم يجد جدك سوى الهجوم على جدتك ليطرحها أرضاً، غير أن أولاده أمسكوا به، عندئذ انطلق صوته المجلجل بتلك الكلمات التي ذكرتها فيما مضى.‏

    سألته:‏

    -ماذا حدث للبيت؟‏

    قال العم كمال بعيون مبتسمة:‏

    -لن تصدقني لو قلت لك ما حدث له.‏

    -بل أصدقك.‏

    -عاد أرضاً مرة ثانية بعد هجوم أخوالك الأربعة، وهكذا وجد الجد من يحطم العصا على جسده. ضرب الأربعة ضرباً لا مثيل له. وأخيراً قال:‏

    -لا أريد من أحد مهما بلغت حكمته أن يخبرني أن أولادي يشبهون الحمير كثيراً، فأنا أعرف ذلك لأنني أنا من أنجبهم، لكن هل عرف أحد مثلما عرفت أن نجم أكبر لص قدر لامرأة أن تلده؟‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()