بتـــــاريخ : 11/18/2008 7:09:07 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1157 0


    آه يا بحر الحب والأطفال

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد قرانيا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    لماذا نحب الصيف؟‏

    ألأنه فصل الانطلاق والتحرّر من ربقة الثياب الثقيلة؟‏

    أم لأنه فصل المواسم والراحة من عناء الدراسة؟.. أم لغير هذا وذاك؟‏

    يلحّ الأولاد مطالبين بالسفر إلى الشاطئ. ألمح في عينيّ الأم شيئاً من الرجاء. أزوغ من نظراتها. أحاول تأجيل تنفيذ رغبات الأولاد.. أغيب ساعاتٍ عن البيت، فأجد الرغبة أقوى مما كانت عليه.. سألت زوجتي وأنا أعلم ردّها مسبقاً:‏

    -ما رأيك؟‏

    لم تُبدِ رأياً. رسمت ابتسامةً عذبةً. طالعتُ فيها الرجاء والرغبة..‏

    لا أدري كيف يوفّق الموظف بين راتبه، والحالات الطارئة التي تلمّ به بين حين وآخر، فالراتب مدروسٌ بعنايةٍ فائقةٍ بحيث يتناسب وعدد أفراد العائلة، وبطريقة لا تدع مجالاً لربّ الأسرة أن يبذّر أو يقتصد منه. ورحلة الشاطئ ستخلّ بالميزانية، وسترغمنا على الاقتصاد عدة شهورٍ قادمة حتى تعود الأمور إلى حالتها الأولى التي ارتضاها مشرّع النظام الوظيفي القديم.‏

    نظرت إلى زوجتي. كانت بقايا الابتسامة لا تزال ترسم أفقاً للأمل والرجاء، فابتسمت لها وأنا أقلّب مسألة الرحلة في تفكيري.. ومن دون أن أصل إلى نتيجة، قرّرت ألا أُخيّب رجاء الأولاد -هذه المرة- ولا أدعَ ابتسامة الزوجة تضيع في متاهات الحزن، ولغو الصيف.‏

    -غداً نسافر.‏

    شعّت أمارات الامتنان في عيون الجميع. حدثت حركةُ صخبٍ وبشائرُ فرحٍ كان معظمها يصدر عن الصغيرين، مازن ووعد، اللذين أخذا يجمعان أجمل ثيابهما وألعابهما، وهما لا يكفان عن الاستفسار واستعجال موعد الانطلاق، ويتمنيان لو أن لهما أجنحة يطيران بها إلى الرمل والبحر، والعالم الملوّن الجميل.‏

    ليلى التي نجحت في شهادة الكفاءة بتفوقٍ، أسرعت إلى الهاتف تزفّ البشرى إلى إحدى الصديقات. بينما ظلّ أحمد متحفظاً كعادته، لم يُبدِ رغبةً متميزةً، وربما كان -هو- أكثر من غيره الذي جعلني أقرّر القيام بهذه الرحلة، فقد كانت فترة المعسكر قاسيةً جعلت بشرته سمراء محروقةً، وهو يتمتع بحياء نادرٍ، ويتأهّب للتحضير للشهادة الثانوية، ولعلّ الرحلة تكون بمثابة فترة استجمامٍ واستعدادٍ، يستعيد فيها نشاطه، وتجعله أكثر انطلاقاً وتحرراً من خجله وحيائه..‏

    لماذا نحبّ الصيف؟!‏

    كانت اللحظات الأولى التي وطئت فيها أقدامنا رمل الشاطئ ثقيلةً عليّ.. تنفّستُ عميقاً وأنا أستقبل أولى نسمات البحر.. تلفتّ حولي لعلي أجد منفذاً يخلّصني من الحرج الذي وقعت فيه، فأنا لم أحجز مسبقاً مكاناً أنزل به.. والشققُ السكنية النظيفة والملونة تتراءى لي كعالم تلك القصص المحبّبة التي تعلقت بها أول شبابي، وما زالت تعشّش في خلاياي حتى اليوم وبعد أن تجاوزت الخمسين، كانت كل قصة ترسم لي عالماً حيّاً زاخراً بالحب نابضاً بالحياة. وهذه الأبنية التي تغتسل عتباتها بموجات البحر، لا بدّ أن كل واحد منها يضمّ في جنباته عالماً خاصاً بأهله، عامراً بالحياة والحبّ.‏

    أنقذني من حيرتي شابٌّ لاحظتُ -من لهجته- أنه من أبناء المنطقة، وهو متمرسٌ بالتعامل مع أمثالي- "الشقة المؤلفة من غرفتين بكذا، وغيرها بكذا، والصغرى بكذا" وجدت المبالغ كبيرةً، قارنتها سريعاً براتبي، فاعتذرتُ، وأخذتُ أجوب بأنظاري المكان.. لاحظ الشاب نظراتي، فابتدرني قائلاً:‏

    -أستاذ. هل تريد خيمة؟ خيمةً واسعةً. مريحةً، وبنصف الأجر.. سأوفر لك الماء والغاز، وكل ما تحتاجون إليه..‏

    كانت الخيمة وادعةً، تغفو في ظلّ بناءٍ رائع المنظر.. شعرتُ بمتعةٍ فائقةٍ.. أبعدتُ عني كل الأفكار المادية التي كانت تؤرقني. أرخيتُ لنفسي العنان.. الصفاءُ والنقاء يلفان العالم من حولي. هذا ما كنت أبتغيه.. كنت قُبيل السفر وضعت في حقيبتي كتابين الأول، رواية الشيخ والبحر لأرنست همنغواي، والثاني رباعية الإسكندرية للورانس داريل، وذلك لوجود أكثر من رابطةٍ تشدّني الآن إليهما، فهما يرتبطان بالبحر من جهة ومن جهة ثانية فإن ثمة علاقةً أخرى تشدني إلى همنغواي الذي صارع سمك القرش كما أصارع -أنا- أكثر من قرش كل يوم حفاظاً على ماء الوجه.. وإذا كان داريل قد تحدّث عن البحر والإسكندرية، فلأقرأ -أنا- الشاطئ والبحر كما يحلو لي، ولأجعل هذا البحر عربياً صافياً، وأجعل رمل شاطئه الشرقي ميداناً للحب والفروسية. ألم يجعل داريل مدينة الاسكندرية ملعباً ومقاماً لليهود واليونان، وكاد يلغي كل ما يمت إلى العروبة بصلة، من شوارعها وملاعبها وشواطئها العريقة؟‏

    آه. يا صيف البحر.‏

    ما أجمل أن يلعب الأطفال، وعدُ وما زن يبنيان قصوراً رمليةً، تلتمع ذراتها المغتسلة بمياه البحر، تحت أشعة الشمس، تتخذ الطفولةُ الخلية البال الشاطئ مكاناً لألعابها وملعباً مخملياً تنطلق فوقه الأقدام الغضة، غير عابئة بما يدور في هذا العالم.‏

    قدّمتْ زوجتي القهوة، رشفتها متلذّذاً. عبّرتُ عن نشوتي:‏

    -حتى القهوة لها نكهةٌ خاصةٌ عند البحر.‏

    زوجتي متأكدةً أن القهوة لم تتغير، ولكنّ إحساساتنا بالمكان والناس والجوّ هي التي تتغير. عواطفنا ومواقفنا هي التي تتبدل.‏

    آه منك يا بحر..‏

    تركتُ رباعية الاسكندرية جانباً، وسألت زوجتي:‏

    -أنت سعيدةٌ، أليس كذلك؟‏

    طالعتني ابتسامتها العذبة ممزوجةً بالامتنان.. أعلنتْ عن فرحها بالأولاد وهي تراهم يكسرون طوق الرتابة اليومي المعتاد، وينطلقون كما يحلو لهم في عالمٍ أثيرِ.. ليلى لا تتجرأ على الاقتراب من البحر. حاول أحمد سحبها لتعليمها السباحة لكنها امتنعت خائفة، فلم تبلّ بماء البحر سوى قدميها..‏

    البحر جميلٌ، ورباعية الإسكندرية تأسر قارئها العادي، فكيف إذا كان القارئ من عشّاق الرواية وكتّابها؟‏

    عند المساء، ومع الغروب الرائع، وقبيل أن تلقي الشمس نفسها في أحضان البحر، نهضتُ أمتّعُ النفس بهذه التشكيلات الرائعة.. أرسلت الطرف يجوب الآفاق والمدى، وأقرأ في سفر الكون آيات الجمال الخالد.. عشتُ لحظاتِ نشوةٍ علويةٍ.. هو البحر كنزُ الأسرار وموئل المغامرين والعشاق، يصل الأرض بالسماء، وينتقل بالعقل الإنساني إلى التفكير في مغزى الكون والحياة.. فأسقط من تحليقي في عالم الروح العلوي إلى ربقة الرمل، وأعود أجيل الطرف في الموجودات، فتطالعني الصور الجميلة من الرجال والنساء والصغار بأجسامهم الرشيقة وأحلامهم اللامحدودة والتي تشبه البحر المتسع. يزرعون الرمل قدوداً تجلت القدرة الإلهية في إبداع صنعها وتناسقها، ويزيّنون البحر بأجسامٍ لدنةٍ تجيد العوم والغطس واللعب والحب والانطلاق..‏

    آه منك يا بحر.‏

    حانت مني التفاتةٌ إلى الزرقة القاتمة، حيث لا تزال الرؤية تجد مداها القريب، تبيّنتُ اثنين يسبحان، فغبطتهما، كانا كعاشقين يلعبان معاً، يرتفعان وينخفضان في الماء يلحقان بعضهما، ببعض. يلتصقان كأنهما على فراش من زئبق.. تركتهما. انتقلت ببصرى إلى مكان آخر. وجدتُ زوجتي بجانبي. انتابتني رعشةٌ سريعةٌ. اقتربتُ منها لحظةً‏

    قالت:‏

    -كأن الناس هنا يعيشون على شواطئ أوربا.‏

    تضاحكتُ وسألتها عما إذا كانت تعرف ناس أوربا وشواطئها، فأجابت:‏

    -وهل ترك التلفزيون أناساً وشواطئ غير معروفة؟‏

    كان العشاء مما حملنا. معنا من البلدة، فقد حاولت زوجتي أن تخفّف من مصروف الرحلة وهي تعلم جيداً أن أسعار الشاطئ مرتفعة.. تحلّقنا حول المائدة. طعمُ البندورة والجبن والزيتون لذيذ. الطعامُ هنا أكثر شهيةً من هناك. غمرتنا السعادة.. بعد قليل دخل أحمد بلباس السباحة وهو يقطر ماءً.. نظرتُ إليه ملياً. ازداد شعوري بالسعادة. هذا الشاب الحيي الخجول يتجرّد من ثيابه الخارجية من غير شعورٍ بحياءٍ أو خجل.‏

    لليل والنجوم عند البحر أغانٍ تصاحب موسيقا الأمواج، تضفي على الكون شاعريةً مخدّرة. أخذتُ الرباعية وانزويتُ على كرسي جانب الخيمة. لم أستطع تركيزِ أفكاري ربما تكون الرواية قد أزعجتني بكثرةِ التسميات الأجنبية في الإسكندرية.. انتقلتُ بتفكيري إلى أحمد.‏

    أحمد الذي لم يبق متسربلاً بالعزلة والتكتم والانغلاق النفسي. ها هو الآن يبدو كالزهرة المتفتحة في موسم الربيع.. عدتُ بخيالي إلى تلك المرحلة التي كنت فيها في مثل سنّه، في أثناء التحضير للشهادة الثانوية، حين استعرتُ الكتب ودرستُ المنهاج دراسةً حرّةً، إذْ كنت أعمل عند اسكافي في النهار، وأخصّ الليل بالدراسة...‏

    كانت السنوات الأربع الجامعية من دون دوامٍ، حتى إنني لأذكر عندما تقدّمتُ إلى امتحان السنة الأولى لم أكن أعلم شيئاً عن طريقة الامتحان، وأسلوب الأسئلة، ولكني مع ذلك نجحت..‏

    .. واشتط بي الخيال إلى المدرسة الثانوية التي عُيّنتُ فيها مدّرساً، ثم الزواج في العام الثاني، والذي أثمر ابني البكر بعد تسعة أشهر.‏

    آه.. ماذا جنينا في هذا العمر؟ التفتّ إلى البحر.. منذ البداية أيقنت أن الحياة عملٌ وعطاء، فما قصّرتُ لحظةً، حاولتُ أن أزرع العلم في النفوس كما يزرع الفلاح البذار في الأرض.. ولكن ماذا جنيت بعد هذه السنين؟.. أنا أصدّق أن الملائكة والناس وحتى الحيتان في البحار تصلّى على معلم الناس الخير، ولكن كيف سأصل إلى النهاية. والأسرةُ يكبر أبناؤها، بينما الدخل المادي يرجع إلى الوراء، كغزل الشعّارين.. عندما عُيّنتُ في الوظيفة كنت أوفر نصف راتبي.. جميع الأتراب الذين اشتغلوا بالأعمال الحرة نجحوا . طاروا فوق الريح.‏

    انتبهت.. لماذا عدتُ للتفكير بالمنغصّات. ثم ألا يكفيني ما حصّلت من السمعة الحسنة؟ انقطعت لحظاتٍ عن التفكير. سمعتُ صوت وعد تسأل أحمد عمّا إذا كان يعرف أحداً هنا عنده تلفزيون لتتابع مسلسل السهرة المحلي مع مازن... جاءني صوت أحمد وأنياً:‏

    -اذهب.. وقل لها نريد ماءً بارداً.‏

    تساءلتُ "من تكون ".. انطلق الصغير إلى المبنى المجاور، ثم ما لبث أن عاد مسرعاً ودخل الخيمة.. تبعتُه، وجدتُه يهمس في أذن أحمد، وهو يكاد يطير من الفرح.. تركتهما وعدتُ إلى وحدتي. فكرت في تكرار الرحلة كل صيف. سأوّفر أجور الساعات الإضافية، وأجور المراقبة والتصحيح واستكتابات الصحافة لمثل هذه الرحلة التي تدخل المتعة والسعادة نفوس الأولاد.‏

    انتشلني بعد لحظاتٍ من وحدتي، صوتُ وقع أقدام وحركةٍ. رأيتُ الشابّ صاحب الخيمة يحضر طاولةً يضعها أمام الخيمة ثم يعود فيحضر ماءً وفاكهةً.. شكره أحمد..‏

    تساءلتُ: هل نزلتْ علينا مائدة من السماء.‏

    قالت زوجتي:‏

    تعرّف أحمدُ إلى جارتنا التي تشغل المبني المجاور، فأرسلتْ ما ترى.‏

    وقفت محتاراً. ماذا يعني ذلك؟ وكيف تعرّف إليها؟..‏

    لم أدع التساؤلات تذهب بي إلى مدى أبعد. قلت ربما كان الأمر عادياً، وأظنه كذلك، جاءتني وعد بعد قليل يتبعها مازن، يستأذنان في الذهاب لمشاهدة المسلسل التلفزيوني عندها. هتفتْ وعدُ كعصفورةٍ سعيدة:‏

    -سمحتْ لنا السيدة بذلك. قالت إنها تحب الأطفال..‏

    أهكذا تنشأ العلاقات الاجتماعية. لم يمض على وجودنا سوى سويعاتٍ.. قالت زوجتي "الناس لبعضهم.. يبدو أننا نجاور أسرة كريمة.. "قلبت شفتي، قلت ربما.. أكلنا برتقالاً وشربنا ماءً بارداً. شكرتُ في سرّي المرأة التي تفضّلت علينا بشيءٍ من خيرها..‏

    نظرتُ إلى أحمد وجدته شارداً يسرح في عالمٍ خيالي لم أعهده فيه.. عهدتهُ دائم الخجل والصمت، لا يعرف مثل هذا التحليق الشاعري المبهم.. لم أشأ أن أوقظه من سرحته، قلت ربما كان سبب ذلك عائداً إلى سحر الشاطئ وعالمه الغريب. أليس البحر والليل ملهم الشعراء والمبدعين.. كما هو ليل العاشقين والمعذبين في الحب ممن هجرهم الحبيب فباتوا الليل يسامرون النجوم، ويرعون النسمات..‏

    عاد مازن، يهتف فرحاً:‏

    -جارنا يودّ التعرف إليك، وهو في انتظارك لتشرب القهوة معه.‏

    انتفض أحمد من شروده. سادت فترة صمت خلتها دهراً. قطعتْها زوجتي:‏

    -وماذا في ذلك.. اذهب إليه. الدنيا معرفة. ألا تردّد دائماً أن الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه؟..‏

    أرغمتني النظرات على النهوض. سحبني مازن من يدي.. وجدت الرجل واقفاً في المدخل. ما إن تبينّت ملامحه حتى وقفتُ مندهشاً.. هل يعقل ذلك؟.. في لحظات دهشتي قرأتُ دهشته أيضاً. التقينا متعانقين. انتثرت عبارات الترحيب. جلسنا متقابلين. جاءت زوجته مرحبة. ذكرّها بي، فكادت تقفز من الفرح.‏

    -وهل تُنسى دروس النصوص والشرح الأدبي والبلاغة؟‏

    لم أتذكرها في البداية. قال سامر: "غادة.. غادة الأمير".‏

    -آه يا غادة، وهل ينسى أحدٌ تلك الأبهة التي كنت تحيطين بها نفسك؟.. وهل تُنسى حفلاتُ المدرسين في أعياد المعلم؟؟.‏

    كان سامر مدرس رياضيات معنا في المدرسة، وكان أصغرنا سناً، والعزب الوحيد بيننا، وكم كنا سعداء في جلساتنا، ونحن ننتقي له صبيةً مناسبةً، فنشير إلى مدرسةٍ أو طالبةٍ أو ابنة أسرةٍ مستورةٍ.. لقد كنا من الجيل الذي بدأ يتسلم الوظائف من أبناء الطبقة الاقطاعية، إذْ كانت الوظيفة حكراً على فئةٍ معينةٍ، وإذا شئنا الإنصاف والدقّة، نعترف بأنه لم يكن في البلدة كلها يؤمئذ من يحمل شهادةً سوى أبناء تلك الطبقة.. ولكن بنات وأبناء الأغنياء كانوا ولا يزالون في المدارس، ولم يكن يخطر ببال أحد منا أن سامراً سيصل إلى ابنة إحدى الأسر المرموقة التي غادرت البلدة، ويتخدها زوجةً.. آه يا سامر. أنا لم أنس أنك كنت ماديّاً على الرغم من فقرك، ووصوليّاً على الرغم من بساطتك ومنبتك. وأعترف بأنك كنت تعرف جيّداً من أين تؤكل الكتف...‏

    أغدقتْ علينا غادة من خيرها. أصرّت على إحضار الجميع للسهر معاً -نحن أبناء بلدةٍ واحدة- ذهبت بنفسها وأحضرت الزوجة أمامها وسحبت كلاً من أحمد وليلى بيديها.‏

    كانت ساعةً هانئة. أفاضتْ فيها غادة كثيراً من روحها المرحة، مما جعل السهرة ممتعةً.‏

    قلت مداعباً:‏

    -أما زلتِ مغرمةً بالقطط؟‏

    فنظرتْ إلى سامر وقالت ضاحكةً:‏

    -غرامي بالقطط الكبيرة فقط.‏

    قال سامر:‏

    -أنتَ كما كنت يا أستاذ.. على الرغم من مضّي عشرين سنةً، ما زلتَ تحتفظ برشاقتك وحيويتك، باستثناء شعر الرأس.‏

    ضحكنا جميعاً. قلت:‏

    -الكبر عبر.‏

    قالت غادة:‏

    -كيف تكبر وأنت طول عمرك تعيش مع جميل بثينة وكثيّر عزة وقيس لبنى، وتحفظ معظم شعر الغزل من عصر امرئ القيس إلى نزار قباني.‏

    (تذكّرتُ ما كان يقال عن أبيها الذي عمل في بداياته شيخ كتّاب، يُعَلّم الشبابَ القراءة والكتابة، ويقرأ لهم كتاب رجوع الشيخ إلى صباه ويؤجّره لهم، فيحصل على دخل جيد في تلك الأيام، صار نواة ثروته الكبيرة فيما بعد.‏

    أعجب اطراء غادة زوجتي، قلت لغادة:‏

    -أما أنتِ- بالنسبة للمرح والانطلاق- فلم تتغيرّي، بل أراكِ قد ازددتِ حيويةً وأعتقد أن لسامر دوراً كبيراً.. وأما بالنسبة للجمال والتناسق فقد اكتملتْ فيك الأنوثة، وشعّ وجهك جمالاً وتألقاً.. أنا أغبط سامر وأهنئه بكِ.‏

    لاحظتُ أن العبارات تجرح مشاعر ليلى وأحمد، فتحولتُ عن غادة، وقلت:‏

    أما الأستاذ سامر، فأراه قد ازداد كرماً وحفاوةً بالأصدقاء، أما جسمه، فقد ترهّل بشكلٍ ملفتٍ للنظر.‏

    وتشعّب الحديث.. اقترحتُ أن ننقسم إلى مجموعتين، فانتحيتُ جانباً مع سامر وأخذنا نستعيد ذكريات البلدة والمدرسة.. كان سامر من أسرةٍ معدمةٍ، ولكن بداياته كانت توحي بأنه سيشق طريقه بشكل مغاير عن جميع أترابه. إذْ كانت أحلام أكثرنا لا تتعدى أن نصبح في المستقبل موظفين، لأن الوظيفة كانت أكبر من كل شيء في منظور تفكيرنا المحدود داخل نطاق البلدة، ولعل وظيفة المعلم، كانت بالنسبة لنا حلماً جميلاً نتمنى تحقيقه، فالمعلم كان ذا مكانة مرموقة، تتطلع معظم الأسر الفقيرة والمتوسطة ليكون صهراً لها، الأستاذ مربي جيل، يدعى للأعراس والموالد، وحفلات الختان، ويتدخل في حلّ الخلافات، ويفسح له المكان إذا تقدم لشراء سلعةِ. الجميع يكنّ له الاحترام.. لكن سامر تلك الأيام سبقنا بأحلامه، كان يسخر منا إذا قلنا إن أقصى أمانينا أن نكون موظفين، فالوظيفة للخاملين، ولكن عندما صنف مدرسَ رياضياتٍ، جئنا نذكرّه بأحلامه ونظرته للوظيفة، قال يومئذ:‏

    -نظرتكم محدودةٌ، أنتم مثقفون، لكنكم لا تنظرون إلى أبعد من أنوفكم. الوظيفة يا أساتذة مرحلةٌ مؤقتةٌ.. سلمٌ نصعد عليه..(ومن يتهيب صعود الجبال يعشْ أبد الدهر بين الحفر..)‏

    وها هو الآن يحلّق فوق القمم.. سألني عن حياتي وأحلامي، ما تحقّق منها وما لم يتحقق، فتحتُ له صفحةَ عمري، عبّرتُ عن القناعة والرضى. "كل رزقي وثروتي في هذا العمر أربعة أولاد"، رفعتُ يدي قبلتها شاكراً.‏

    لم أتبين حقيقة الرعشةِ التي اعترته عندما تلفظّتُ بذكر الأولاد، وإنما وجدتُه يتضاحك ويسأل عن دخلي، وكيف يكفي راتبٌ مصروفَ ستةِ أشخاصٍ، (لو أنكم تأكلون فلافل لما كفاكم حتى منتصف الشهر) قلت:‏

    -يبارك الله لنا في رزقنا.‏

    قال في حدةٍ مقبولة:‏

    -ابنك شاب، وليلى صبية، وثيابهما تحتاج إلى راتب موظفٍ، ثم هناك الماء والغاز والكهرباء والدواء والأعياد..‏

    قررّتُ ألا أنغّص هذه السهرة بأوجاعي التي لاتنتهي، فسألته:‏

    -وأنت. ماذا تعمل هذه الأيام؟‏

    تنفّس عميقاً ثم قال:‏

    -العملُ كثيرٌ.. في البلد انفتاحٌ اقتصادي وانفتاحٌ اجتماعي، وليس على الإنسان إلاّ أن يدخل خضمّ السوق، ليجد كل شيءٍ ميسور التناول..‏

    علمتُ من صديقي القديم أنه عمل في تجارة الأخشاب، والجلود والحديد، لكنه استقرّ إلى تعهدات البناء، وله مكتبٌ ضخمٌ في العاصمة.. سألته عن الثمن الذي باع به داره في البلدة، فذكر أنه باعها بعشرة آلاف، ولما ذكرت له أنها الآن تساوي مليوناً ضحك ملياً، ثم قال:‏

    -اشتريت بالمبلغ أرضاً معدّة للبناء في العاصمة وتركتها. دفعوا لي العام الماضي ثلاثين مليوناً فلم أقبل.. أنتم في المدن الصغيرة لا تعلمون ماذا يحدث في العالم خارج حدود مدنكم. هذه ظروفٌ جديدةٌ حلّت بزمننا، ويجب أن نفهم أبعادها. نأخذ منها ونعطيها، والفرصة قد لا تسنح للإنسان أكثر من مرة.‏

    أظهر سامر مهارته في اصطياد اللحظات المؤاتية. أتقن ألعاب السوق. لم يدخل مشروعاً تجارياً إلاّ خرج منه رابحاً. تدفقت الملايين بين يديه. أنشأ معملاً للعلكة وروّج لها بالجوائز. دخلت العلكة وصورها كل مكان. مضغ الأطفال العلكة، ولعبوا بالصور، وربحوا الدراجات والساعات الجدارية واليدوية.. قرّر في بداية مشروعه أن يسحب من كل طفلٍ ليرةً، هناك عشرون مليون طفل، يتسلون بالعلكة، ويتلهون بالصور... أقام مزرعةً في الضاحية الجنوبية. "وليس عليك سوى أن تشرف على العمال وتحرّك أدواتك بليونة ويسر، وترضي المدير العام في تلك المؤسسة، وموظف التسعيرة في الدائرة الأخرى.. والهاتفُ سيّدُ الوسطاء، يعقد الصفقات ويقرّب الأبعاد، به تدعو موظف الجمارك ليتناول القهوة معك، وهو وسيلة الاتصال للتعرف على أسعار البورصة، ولا مستحيل تحت الشمس "... تبدّى لي سامر أذكى مما كنت أتوقع "أظهرْ دفتر الشيكات يصبح الممتنع سهلاً، والذي حرّمه القانون بشيءٍ من المداورة يصبح محللاً، وأعتى العتاة يستجيب لنظرةٍ من عيني امرأة.. لا تقل لي هذا حلالٌ وهذا حرامٌ. في التجارة كلّ شيءٍ مباحٌ والغايةُ تسوّغُ الوسيلة.."‏

    قدمتْ زوجته، سمعت جانباً من حديثه الحارّ عن التجارة والربح، فقالت:‏

    -نحن هربنا إلى البحر كي نرتاح من المقاولات والمنافسات.. دعْ الأستاذ يأكل برتقالةً.‏

    جلستْ معنا. قدْمتْ لي برتقالةً.. انكشف ساقاها.. أغضّضتُ طرفي. قالت:‏

    -تمنّيتُ لو أنا التقينا من أول الصيف.‏

    علمتُ أنهما يقضيان ثلاثة أشهر على الشاطئ، في السباحة وحمامات الشمس.. نظرت إلى الساعة. حان موعد الأخبار في التلفزيون. انصرفت إليه معتذراً. تحدّث المذيع عن لعبة السلام، انتقل إلى مسلسل الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني.‏

    قال سامر:‏

    -تمنّيتُ أن أسمع مرةً واحدةً أننا هاجَمْنا الإسرائيليين، ولم يهاجمونا.‏

    لم أعلقْ، وامتدت يد غادة تغيّر الإرسال، ثم أبدتْ رغبتها في أن نخرج معاً في مشوار ليلي، على الشاطئ. اعتذر سامر محتجّاً بأنه يريد سماع المزيد من أخباري، فنهضت غادة واصطحبت أحمد وأمه، بينما عادت ليلى مع وعدٍ ومازن إلى الخيمة.‏

    وعاد سامر يسألني:‏

    -قل لي صراحةً كيف تتدّبر مصروفات الأسرة؟‏

    تبرّمتُ أعلنتُ له أن الإنسان لا يعاب عليه دخلّه الضعيف ما دام يعمل.. وماذا يصنع إنسان لا يملك تغيير واقعٍ.. بعض المعلمين يعمل سائقاً أو بائعاً، ولكن لا تتصور كم يعاني هذا المعلم عندما يطلب إليه أحد طلابه أن يؤدي له خدمةً.. هذا واقعٌ. في البلدة بعض الناس امتلكوا الأراضي، وصارت لديهم مواسم كرز وزيتون.. وقلةٌ من الموظفين صاروا من أصحاب الثروات ، اشتروا الدكاكين في الشارع التجاري، والأراضي المخصّصة للبناء على طريق الجبل السياحي.‏

    قال سامر:‏

    -لو سلّمت معك بهذا الراتب والعيش الكفاف، فهل تخبرني كيف ستتدبر مصروف ابنك غداً في الجامعة، وهو من المتفوقين.. هل تظن أن الراتب كله يفي بمتطلبات الجامعة؟..‏

    كان بودي ألاّ تعاد هذه المنّغصات على سمعي خلال يومي الرحلة، ولكن ها هو سامر يلقي بأثقالها على كتفي.. أنا أفكر في كل ذلك.. أفكر في الجامعة وما بعد الجامعة. أفكر في الزواج وتأسيس البيت.. كنت في السابق عندما أصل إلى هذه النقطة، أفعل مثلَ ما تفعلُ النعمامة التي تغمر رأسها في التراب، وكنت أدع الأمور تجري في أعنتها ولا أبيتنّ إلاّ خالي البال.. فجأة تذكّرت مقولةً كنت تحدّثت بها إلى زوجتي منذ أمدٍ مفادُها أنه في كل زمانٍ ومكان عندما تتكاثر أعداد الفقراء، لا بدّ أن يكون هناك تزايدٌ في عدد الأغنياء وتضخم الثروات... وعندما تطفو طبقةٌ على السطح، فلا بدّ أن تنحدر طبقة العمال إلى القاع بغير هوادةٍ.. نظرتُ إلى سامر ملياً. قلت:‏

    -المادة ليست كل شيء في الحياة،‏

    وفكرتُ: إذا كانت أمورُ الإنسانِ الماديةِ جيدةً، فلا بدّ أن تكون هناك ثغرةٌ ما في حياته، وأنا ممن يثق بالعدالة السماوية، والكمالُ الإنسانيّ غيرُ موجودٍ، وإذا اكتملت أسباب الحياة، فإلى حينٍ، ولا بدّ في النهاية من النقص، وما طار طيرٌ وارتفع، إلاّ كما طار وقع، ولن أسلّم لسامرٍ بأن وضعي ليس مقبولاً أو أن وضعه أفضل.. لن أتزحزح عن قناعتي، مع أني أعترف بالمواجع الكثيرة التي تتحرك في داخلي.. سألني عمّا إذا كنت قد حلمت باقتناء سيارة أو هاتف أو غسالة أوتوماتيكية أو جهاز كمبيوتر.. ومع أن الأولاد أعلنوا عن رغباتهم في اقتناء بعض هذه الكماليات، فإنها ظلّت مجرد رغباتٍ، مع يقيني بضرورة بعضها لمواكبة العصر، إلاّ أنني أفهمت سامراً بهدوء أنْ لا حاجة بي إلى السيارة، وإلى أيّ مكانٍ أنتقل بها؟ وكذلك الهاتف، فهو ترفٌ وليس عندي مصالحُ تجاريةٌ أو غيرُ تجاريةٍ تدعوني لاقتنائه.. أنا شخصيّاً أقتنع برغيف الخبز من دون زيتٍ وزعتر، فلماذا أفكّر بامتلاء ثلاجتي باللحم والمقبلات؟‏

    ضحك سامر ثم عقّب:‏

    -أنا التمس لك ألف عذرٍ. لو أنّك ذقت النعيم الذي توفّره المزرعةُ والسيارة والهاتف والأرصدة، لما اقتنعت بما يسدّ الرمق. الإنسان يحيا مرةً. أنت رجلٌ نادرٌ في هذا الزمن. لو أن هناك كثيرين أمثالك لكان البوار والكساد قد عمّ الكون.‏

    -بل. قل لو كان هناك كثيرٌ من أمثالي لما عشنا في أزماتٍ متلاحقةٍ. ارتفاع أسعارٍ وانخفاض دخلٍ، غلاءِ مهورٍ، وندرة سكن، تدنٍ في العلم وغزو ثقافي، واتساعِ رقعةِ المنتجعات.. أو لنطرح المسألة بشكلٍ آخر، فإذا تساءلنا عن عدد المترفين في الوطن، وعن عدد الكادحين، لوجدنا البون شاسعاً. وأنت لو خلدتَ ساعةً إلى نفسك، وتخليت عن التفكير بالأموال والاستثمار، والمتع العابرة، لذقت حلاوة السكينة، ولذة الطمأنينة.‏

    عادت غادة، مصطحبة أحمد وأمه، أعلنت أنها قد صار لها أسرةٌ جديدةٌ، ثم ذهبت لتحضر العصير.. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل. عادت زوجتي إلى الخيمة بينما جلس أحمد عند أسفل الدرجات، على بعد أمتار منّا.. قدّمت غادة العصير، وانتقلت إلى جانب أحمد تشرب معه.‏

    عاد سامر إلى الحديث. لم أدرك غايته من تجسيد حالة البؤس التي تنام في داخلي، وهل سيظل يرى الفقر عيباً، والغنى مثاليةً؟!.. ألا يمكن أن يكون الغنى في بعض الأحيان وبالاً على صاحبه؟‏

    قلت بكل تهذيب:‏

    -لا تتعب نفسك في التفكير في وضعٍ لا خلاص منه، ولكنْ قلْ لي أين أولادك؟‏

    لم أكن أدري أنني فجرّت قنبلة في هدأة الليل الرائق، غادرت البشاشة وجهه وكأنّ أحزان العالم قد حلّت محلها. نكّس رأسه. خيّمت فترةُ صمتٍ ثقيل. حانت مني التفاتةٌ إلى حيث كان يجلس أحمد وغادة فلم أجدهما.. عدت إلى سامر. اعتذرت عن إساءةٍ، ربما تكون قد بدرت مني بغير قصدٍ.. سمعت سامراً يتمتم بهلعٍ:‏

    -لا أصلح للإنجاب.‏

    كانت العبارة كبيرةً.. أصابتني بالبكم لحظاتٍ، فنهضت مستأذناً.‏

    وصلتْ إلى سمعي أصوات الموج الهادئة. ردّدت: "آه يا بحر".. دخلتُ الخيمة، استلقيتُ بهدوءٍ على الرمل. نظرتُ إلى السماء من فتحةٍ في السقف طالعتني نجمةٌ تأتلق وكأنها أميرةٌ تغمز بعينيها وتغازل أميرها العاشق. حضر البحر، ضممتُ يدي فوق صدري، فيما كانت الأمواج تواصل عزفها، تصدر أنغاماً رتيبةٍ، وهي تأوي إلى الشاطئ، تمشّط ضفائر شعره، وتغسل وجهه بقبلات ندية. سكنتْ نفسي لفتني راحةٌ وطمأنينة، تاقت نفسي لقراءة عُشْرٍ من القرآن الكريم، ابتدأتُ أترّنم بسورة مريم "كهيعص. ذكرُ رحمة ربك عبده زكريا. إذْ نادى ربه نداءً خفيّاً. قال ربِ إني وَهَنَ العظم مني واشتعل الرأس شيباً، ولم أكن بدعائك ربِ شقيّا..‏

    .. وهزّى إليك بجذع النخلةِ تساقطْ عليكَ رطباً جنيّا.‏

    فكلي واشربي وقرّي عينا.."‏

    نهضتُ وتفقدتُ الأولاد، جواهري الإلهيةَ التي لا تعدلها ثرواتُ الأرض، ازدادتْ طمأنينةُ نفسي، أحمد ما زال غائباً، وأغنيات الليل والنجوم والحصى، مع سمفونية الأمواجِ المتواصلة تضفي على الكون شاعرية رائعة.. عادت صورة سامر إلى مخيلتي. استعدتُ جانباً من حديثه المتورّم عن الانفتاحات المتلاحقة.. "آه يا بحر". كنا قبل الانفتاح نحلم أن ننتقل - نحن البسطاء إلى فضاءات رحبة من الإبداع والعطاءات الإنسانية التي قد توفّر الرخاء، ولكن بعد أن جربنا هذا الانفتاح، لمسنا ازدياد الجريمة وتنوّعَ حالاتها، وتكاثرَ فضائح الخيانة الزوجية، وتهافتَ الفتيات على موانع الحمل ولهاث الشباب خلف محطات البثّ المكشوف، وتكاثر الأطباء الذين تمرسوا بترقيع أغشية الحياء.. "أستغفر الله".. مالي أخوض في أعراض الناس؟! لينفتح المستفيدون من هذا الوضع ما وسعهم الانفتاح، ولكنّي لن أحيد عن تعليم الناس الفضيلة وحبّ الخير، قناعتي خيرٌ من كنوز الدنيا.‏

    لن أفكر بالمردود المادي. ولن أفكر بواقع تتقاضى فيه راقصة لقاء وصلة رقصٍ لمدة عشر دقائق أضعاف ما أتقاضاه في شهر كامل، ولن أعقد مقارنةً بين مكانة المعلم ومكانة الراقصة في المجتمع.‏

    تركت الخيمة، لامستْ قدمايَ ذرات الرمل الطرية. نظرت إلى البحر لعله يحمل شيئاً عني ردّدتُ: "آه يا بحر". ها هو نسيمك ينعشني. وموسيقا الأمواج تواصل ألحانها الأبدية. سمعتُ وقع خطوات تقترب. يتخللها ما يشبه الهمس الدافئ. تبيّنتُ شبحين يسيران نحوي. ردّدتُ من جديد: آه يا بحر. يحلو في لياليك للعشاق السهر والسمر، وهذا البحر والرمل والسكون والظلمة المحبّبة تهيء الجو الحميمي للبوح بالأشواق والأحلام، وانطلاق المنى لترسم دروب الأمل وتوشيّها بأجمل الألوان.‏

    تبيّنتُ في الشبحين أحمد وغادة. انتفضتُ.. جاءني صوتها أنثوياً يضجّ بالفرح:‏

    -مساء الخير..‏

    وتمتم أحمد:‏

    كيف حالك بابا.. ألم تنم بعد؟‏

    عاودتني القشعريرة الباردة، أعقبتها موجةُ فرحٍ غامرٍ.. هو أحمد، تنحلّ عقدةٌ من لسانه، وينشرح صدره، ويسير في الليل مع امرأةٍ غريبة بغير حياء أو وجلٍ.. ودّعنا غادة، وعدنا إلى الخيمة.‏

    في هدأة السحر، تاقت نفسسي إلى وداع الليل واستقبال خيوط الفجر، وأنا في أفضل حالات صحوي، فتوضأت بماء البحر، وجعلت الرمل سجادتي، واتجهت إلى القبلة، وأخذتِ النفس تتخلّص من ربقة الطين وترقى في مراقٍ علويةٍ لتتصل بنقاء السماء. وانطلقت التسابيح من القلب نديةً سلسةً عذبةً، تحمل في ثناياها كل معاني الحب والخير والشكر والرجاء والأمل. وظلّت النفس في تهويماتها محلقةً متسامية، ومتجاوزةً حدود الزمان والمكان، فلم تتوقف إلاّ عندما تدخلت إشعاعات الشمس الحارّة معلنةً بداية يومٍ جديدِ.‏

    أعدّتْ زوجتي القهوة. جلسنا نرشفها معاً ونحن نجيل الطرف في مغاني الجمال والسحر، نرسل النظر إلى الغابات البكر والبحر الساحر، ونعبّ ما وسعنا مما نرى ونحسّ.. سألتُ زوجتي عما إذا كانت الرحلة قد أعجبتها، فابتسمت، وعبرّت عن فرحها بسعادة الأولاد، لكنها بعد لحظات أعلنت أنها حزينةٌ لما سمعته من غادة عن زوجها، قاطعتها وأعلنتُ لها أنني عرفت ذلك من سامر، فظهرت الدهشة على ملامح زوجتي، وقالت:‏

    -لا يمكن، مستحيلٌ أن يصرّح بذلك!!‏

    -وماذا في ذلك.. اللهُ تباركت حكمتُه، يجعَلُ من يشاء عقيماً‏

    قالت بحياءٍ ظاهر:‏

    -المسألة تتعدّى حدود المقدرة على الإنجاب..‏

    تساءلتُ عن مغزى كلماتها :‏

    -زوجُها عنينٌ وغادة تذوق مرارة الموت كل ليلةٍ..‏

    بعد قليلٍ أردفتْ زوجتي:‏

    -السيدةُ غادة طلبتْ إلى صاحب الخيمة أن يعيد إلينا الأجر، ويسجّل المصروف على حسابها.‏

    -لا يمكن! أنا لم أشكُ سوء حالتي، ولم أحاول أن أثير الشفقة في قلبيهما. ولا أرضى أن يتصدق الناس عليَّ!‏

    واتخذتُ قراري بالعودة.‏

    لعبَ مازن ووعد بالماء والرمل، رافقتْ ليلى أمها في السير عبر دروب الغابة القريبة.. أما أحمد فكان البحرُ مجاله الرحب. سبحَ وسابق غادة. تراشقا بالماء وتدافعا بين الموج..‏

    -آه يا بحر..‏

    بعد الغداء جمعنا الأمتعة، قرأت ردّات الفعل غير المقبولة التي ارتسمت على الوجوه. سمعت مازناً يقول: "الرحلة قصيرةٌ كالمنام الجميل".‏

    .. كان أحمد زائغ النظرات. أحضرت سيارة الأجرة، وضعنا الأمتعة فيها، قبل أن نصعد، قالت زوجتي:‏

    -ليس من الإنصاف أن نرحل من دون وداع جيراننا.‏

    سمحتُ للجميع بالذهاب لوداعهم، ووقفتُ أنتظر، عادوا بعد دقائق في مقدمتهم سامر، وفي المؤخرة غادة وأحمد.. حاولا بحرارةٍ تأجيل السفر.. غصت غادة بالكلمات، وأشرقت في عينيها الدموع.‏

    قال سامر وهو يشدّ على يدي مودعاً:‏

    -دعنا نركم ثانيةً.‏

    وقالت غادة بحرقةٍ:‏

    -عنوان المنزل والمكتب مع أحمد.. في الصيف القادم سنكون معاً لدخول الجامعة..‏

    السيارة تنطلق بمحاذاة البحر ثم تنعطف بعد لأي باتجاه الشرق مخترقة بساتين البرتقال وحقول التفاح والزيتون، يخيّم على الجميع صمتٌ مطبق، وكأننا حين تركنا البحر، أودعنا عنده جزءاً من نفوسنا..‏

    عند القساطل أوقف السائق السيارة ليتناول الشاي.. ترجلنا جميعاً باستثناء أحمد الذي كان شارداً.. وقفت جانب شلال ماءٍ، أتلقّى رذاذه اللطيف المنعش. يرتعش المشهد في ناظريّ. تتراقص الخضرة المتشحة بأشعة الشمس. تثير في وجداني هواجس الشعر. يأتيني صوت فيروز صائحاً من مسجّل سيارة، صافياً شفافاً، كبلوراتٍ من سكر الفاكهة، أحسست أن له في أحضان الطبيعة وقعاً خاصاً لا نعرفه داخل البيوت.. انتشلتني وعدُ الصغيرة من عالمي أمسكتْ بيدي. نظرتْ إليّ متودّدةَ متلهفةً ثم قالت ببراءة الطفولة:‏

    بابا متى نعود إلى البحر؟‏

    سألتُها عن سبب حبّها البحر. قالت:‏

    -البحر جميل وكذلك الرمل والألعاب وغادة.. غادة طيبّة أعطتني ألعاباً وأعطت مازناً نقوداً.‏

    -وهل تحبيّن غادة من أجل الألعاب والنقود؟‏

    -إنها لطيفة. أحبتنا كثيراً.. عندما ذهبنا نودّعها، قبلتني وقبّلت ماما ومازناً وليلى و.. ولكني زعلت منها.‏

    -زعلتِ منها! لماذا؟‏

    -لأنها في الأخير سحبت أحمد للخلف، وقبلته قبلة طويلةً، مثلما يفعلون في الأفلام

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()