نظرتْ إلى البعيدِ، حيث حقولُ القريةِ الجميلةُ الممتدةُ عَبرَ السهل الفسيح تبدو لناظريها أشبهَ بلوحةٍ تشكيليةٍ رائعة. الحقولُ والدروبُ تصخب بحركةٍ دائبة. الصيف يشوي الوجوه بحرارته الملتهبةِ، ولكنه يلقي على الطبيعة أرديته الذهبية.
تمتمت: آه. ما أجمل موسم الحصاد، وما أروعَ هؤلاءِ الفلاحين الذين يجيدون ترقيص المناجل، يجنونَ بها المحصول... الأمطارُ كانت هذا الموسم غزيرةً. والأرضُ طيبةٌ معطاء... آه. ما أجمل أن يجنيَ الإنسانُ ثمرةَ أتعابه... أهلُ القرية عجنوا التربةَ وعرفوا كيف يجعلونها تجودُ بخيراتها بعد أن حرثوها ونقّوها من الشوائب.
وها هي السنابلُ المثقلةُ بالحبّ يداعبها النسيم فتتمايل أمام الناظر تمايل العاشقين.... ما أجمل أيام الحصاد!
عقدتْ مقارنةً لطيفةً بين هؤلاء الفلاحين وشغلهم الدؤوب في الأرض، وبين الحياةِ في الجامعة. إنها تدرس وتبحث ثم تتقدّم للامتحان، لتحصل على النجاح، تماماً كما يحصل أبوها على غلّة القمح.... تنفست بعمقٍ.. أبوها لا يزال يحصد السنابلَ. يغتسل بالعرق، وهو عندما يعود مساءً.. لا تدري كيف ستواتيها الجرأةُ، وتفاتحه بالموضوع،.. ولكنها عندما خرجت من باب الجامعة كانت واثقةً أنها ستمتلك شجاعتها وتتحدثُ بعزمٍ وثقةٍ، فقد تعلّمتْ من محاضرات كلية التربية كيف ترسم أبعادَ شخصيتها، واستقلالَ رأيها، وحريةَ فكرِها وعواطفها.. إنها متأكدةً من أنّ أباها صعبُ المراس، صُلبُ العريكة، وأنه قد يُهينُها أو يضرُبها، وربما رماها أرضاً وداس فوق رقبتها بحذائه القرمزي، ولكنها ستتحمل وتصبر، فقد بلغت من العمر والتحصيل ما يؤهلها لأن تشارك في صنع القرار الذي يخصّها في الدرجة الأولى. قبل غيرها.
عادت إلى الغرفة، تمدّدتْ على السجادّة، أمسكت الكتاب تحاول القراءة، لكنّ خيالَها سافر إليه، في العاصمة. حلّقَ معه في فضاءاتٍ رائعةٍ جميلة. زارت معه مقصف الجامعة. المدّرج. الحديقةَ الوارفة. المطعم. الرصيفَ الممتدَّ أمامَ الكلية.
الخطواتِ المترنحةَ التي كانت تجعلها تستند إليه، دون أن تشعر بالمارة. أو نظرات الزملاء.... حتى إن العالم يبدو لها خالياً، ليس فيه سواهما -هي وهو- ولكن كانت هناك عصافير ونسائم وجداول وأزهار وظلال وأقواس قزح، تحيط بهما وتضفي عليهما ألواناً من السعادة والمتعة، والشاعرية.
جاء أبوها عند المساء متعباً. جلس يتناول عشاءه. نظرت إلى يديه المتشققتين اللتين قبلّتهما قبل قليل. صعدت إلى وجهه الذي لوّنته شمسَ أيار الملتهبة، فأكسبته سمرةً حادّةً.... راقبته بإمعانٍ.. ألقى الملعقة. حمد الله، ومدّ رجليه. قدمت إليه كأس الشاي.. رشفها على مهل. نقلتْ نظرها إلى أمها.. وجدتها متعبةً أيضاً. لقد شاركت في الحصاد بمنجلها الصغير بعض ساعات النهار.... وجدتها تمدّد رجليها... صعّدتها بنظراتٍ فاحصةٍ، هالها أن تجد الغضونَ قد بدأت تغزو وجهها.
نهضَ الأب يصلي العشاء... انتظرتْ حتى فرغ من الدعاء... عاد إلى مسنده على اللباد. تمدّد. نهضتِ الأم تريد التوجّه إلى المطبخ. وجدتِ البنتُ أن من المناسب أن تبدأ الآن.
-أمي. أرجوك اجلسي قليلاً.
جلست الأم، وقد أدركت أن ثمةَ موضوعاً وراء هذه الكلمات.
-أبي. سأفاتحك في موضوعٍ هام. آمل أن تصغي إليّ.
أدهشت الأبَ هذه الصيغةُ التي لم يعهدها في ابنته. آه. لعل الجامعة علّمتها هذه الوقاحة.
نظر الأبوان إلى وجهها وقد رغبا في معرفة ما تودّ قوله.
قالت بثقة:
-عمري خمسٌ وعشرون سنة.
ابتسمتْ لتضفيَ على الجو شيئاً من الحيوية، ثم أردفت:
-كبُرتْ ابنتكما. أليس كذلك؟
-ماذا تريدين أن تقولي أيتها البنت؟ (قالها الأب بصوتٍ جاف).
حان وقت تفجير القنبلة. قالت:
-البنتُ يا أبي وقعت في الحب!.
انتفض الأب. كأن صاعقةً وقعت على أم رأسه. وقد عقدت المفاجأة لسانه، وكأن ابنته وقعت في الجب لا في الحب.
أردفت:
-أحْببتُ زميلي في الجامعة.
تردّدت في دخيلة الأم مجموعةٌ من الشتائم، لكنها لم تجرؤ على التلفّظ بها... نهض الأب من استلقائه. كي يتمكن من توجيه صفعةٍ مناسبةٍ على الوجه. لَعَنَ في سرّه الجامعة. لكنه تمالك نفسه ليسمع النهاية. وكان في سره يهتف(آخر زمان).
أردفت البنتُ وهي ترى أباها يتأهّب للانقضاض عليها:
-شابٌ سيتخرّج معي هذا العام.
كانت نظرات الأب توحي بأنه صار كالأبله، وهو لا يصدق ما يسمع... أيعقلُ أن تكون ابنة الفلاح(أبو العز) وصاحب الشاربين العريضين، هي التي تتكلم في هذا الموضوع، وبهذه الوقاحة التي يخجل منها الشباب؟! ماذا حدث للدنيا؟! وهل الجامعة وحدها هي التي بدّلت أفكار ابنته، حتى سلبتها البراءة والحياء؟ أم أن ذلك التلفزيون اللعين الذي يقولون إنه ينقل جميع الموبقات في العالم ليفسد بها العقول قد أسهم أيضاً في تشكيل قناعاتِ هذه البنت التي يراها قد انسلخت من جلدها، بعدما كانت تخجل أن تسير في طريق الضيعة إذا كان يسير في الطرف المقابل رجل؟.
فكّر الأب سريعاً."هذه حالةٌ شاذّةٌ يجب حسمها!" إن باستطاعته أن يحجر على ابنته ويمنعها من العودة إلى العاصمة، وسيمزق الشهادة إذا لزم الأمر...
تنفّس الصعداء... يصعب عليه أن يرى ابنته الوحيدة تضيع هكذا بسهولةٍ من بين يديه؛ وهو الذي ربّاها كلَّ شبرٍ بنذر، وخرج من دنياه عليها. إنها كالأرض التي سقاها من عرقه... لا. لن يدع غلّةَ عمرٍ كاملٍ تضيع، ويسطو عليها الجراد في لحظةٍ واحدةٍ ودون مقاومة.
سألها بجفاف:
-هل تلتقيان؟
-كل يوم. نلتقي في الجامعة، ندرس معاً، ونأكل معاً، ونسير معاً. ونقضي معظم وقتنا جنباً إلى جنب.
يكاد الأب يجن!.. كَبَتَ غيظه. سألها:
-وهل -هو- يحبُك؟!
-يجنّ إذا غبت ساعةً عن ناظريه.
زفر الأب من جديد زفرةً عميقةً، ثم أردفَ متسائلاً:
-وهل حدث بينكما شيء؟!
-اتفقنا على الزواج بعد إعلان النتائج، وسنفرح بالعرسين معاً، عرس النجاح، وعرس الزواج.
كانت الأم قد عقدت الدهشة لسانها. وتخال نفسها في حلمٍ، كانت تحلم بمثله في فترة الصبا والمراهقة ولكن من دون أن تجرؤ على البوح به حتى لأعزّ صديقاتها.
سأل الأب:
-هل لَمَسَ يدك؟
-لمسَ يدي؟.. نحن نسير مترافقين، أستندُ إلى كتفه، ويرسلُ يده حول خصري، ونقطف زهرات الياسمين ونسعد بشمها معاً.
صعدت النار في عروقه، ولكنه ضبط نفسه. أراد أن يسمع المزيد من هذه الحكاية المدهشة قبل أن يُقْدِمَ على توجيه ضربة مناسبة.. سأل:
-وهل قبّلك؟
-عيب. لن أمكّنه من ذلك قبل ليلة الدخلة. أنا ابنة أبي العز.
وبغير وعيٍ. مدّ يده وأمسك بطرفي رأسها. وهزّه بعنف. جعلها تحسّ أن رأسها يُعتصر بين فكيّ كمّاشه. أذهلتها ردّة الفعل في البداية، لكنها حاولت استعادة وعيها بسرعة. كانت قد وطّدت العزم على تقبّل مثل هذه المفاجأة.
قررتْ أن تُبقيَ زمام المبادرة بيدها.. نظرت إلى أمها نظرةً خاطفة فاصطدمت بوجهها الذي يطفح بالهلع والخيبة.... أمسكت يدي أبيها بهدوء ثم رسمت ابتسامةً على شفتيها.. وقالت من دون تردّد:
-أنا أعلم أن قراري كان له وقعٌ صعبٌ عليك. ولكن قل لي يا أبي وحبيبي وأنتَ الفلاحُ ابنُ الفلاح. إذا زرعت حباتِ القمح وتعهدتُها بالسقاية والرعاية، فكيف ستنمو هذه الحباتُ في الأرض، وكيف سيكون منظرُها... أرجوك أجبني يا أبي؟
-.. ستنمو وتكون خضراء زاهية.
-وإذا اشتدّ عليها الحرّ في آخر الربيع وأوائل الصيف. كيف ستصبح هذه الزرعات النامية الزاهية؟
-سيكون فيها سنابل ممتلئة بالحب.
-وماذا يصنع الفلاح إذا وجد سنابلَه الناضجةَ الممتلئةَ بالحب، وقد تألّقتْ تحت أشعةِ الشمسِ حتى بدت كسبائِك من الذهب؟
-يحصدها.
-عظيم، وأنا الآن قد نضجتُ وحان وقت حصادي... أرجوك يا أبي أن تقدّر ذلك... لقد حان وقت حصادي!.
نَكَّسَ الأب رأسه قليلاً وأخذ يفكّر... فكر طويلاً من دون أن يدري... إنه يسمع كلاماً فيه كثير من العقل والمنطق... شعر بحدوث شيءٍ في داخله يمور ويتغيّر... ينقلب رأساً على عقب... تنفّسَ بعمق. اكتسى وجهه قناعاً آخر. شعر بالراحة... نظر إلى امرأته التي كانت لا تزال مذهولة... قال بجدية:
-ما أروع أن يكون الإنسان متعلماً!..
سادت فترة صمت قطعها قائلاً وهو ينظر إلى ابنته الشابة بعطفٍ وحنان.. :
-انهضي يا بنتي.. وأعدّي لنا إبريقاً آخر من الشاي