"احترم الأكبر منك. القناعة كنز لا... الدنيا مقامات..." و.. و.. وصايا كثيرة ترشها عليّ كل صباح وأنا أحلق ذقني. تشتمني، تصرخ، وأحياناً تنظر إليّ صامتة وفي عينيها نظرة عتب تفوق الصراخ والكلام إيلاماً وتوجعاً.
مع ذلك لا أشعر بالذنب ولا بتأنيب الضمير، ولا أدري سبباً لهذا التبلّد الذي أعزوه أحياناً إلى الزمن المتغير، المتبلّد، كلٌ بدأ درب الهروب.
وكلٌ بدأ يعلّق توبته عن ماضٍ اقترفه. صديقتي الجميلة تقول: إن تبلّدي سببه تغير الطقس وزيادة مساحة ثقب الأوزون. ونضوب الماء من أنهار كثيرة. وقد يكون سببه تغير شكل المدينة بين الزحمة والفراغ، بين البيوت الذليلة والقصور، وربما إلى تغيّر الموضة والعطور والألقاب وقالت صديقتي: ذلك أنني قروي لا أحب التغير كثيراً ولهذا أصيبت خلايا الاندهاش بالتقلّص. وربما بالتراخي، لدرجة أني لم أعد أعرف الحزن ولا أعرف الفرح. كل ماهنالك أستيقظ باكراً، أتمشى في الحقول وأعود باتجاه موزع البريد في قريتنا، لعل رسالة جاءت من صديقتي، أو خطاباً جاء من رجلٍ مهم يطلب خبرتي العظيمة في الهندسة الزراعية. مع هذا كله -إي والله- مع كل هذا الانكماش والتراخي. كان لا بدّ لي من الانصياع لرغبة أمي للتخفيف من حدة انفعالها و.. "نقّها".
"يجب أن تذهب لزيارة ابن خالتك"
"ابن خالتي مشغول دائماً يا أمي"
أمي تصرّ. وأنا أصرّ بأن القرابة ليست قرابة الدم في هذه الأيام.
أمي لا تصدق أن الزمن تغير. تشدّ منديلها الحريري الأصفر، وتشبك نظرتها في المدى البعيد وتتساءل كيف؟!
هي ما تزال تزرع البصل والثوم في حاكورة المنزل، تخبز على التنور، وتطبخ القمحية على الحطب، وتخجل من مشاهدة المسلسلات العربية، وتطلب مني أن أزور ابن خالتي في العاصمة.
ابن خالتي مشغول يا أمي جداً بالاجتماعات والولائم والسهرات، حتى إنه يضطر لأن يكذب أحياناً، فيّدعي أنه غير موجود، أو يقول لسكرتيرته بأن لديه اجتماعاً مهماً، أو مقابلة مصيرية -بلغة الرجال المهمين- بينما هو يكون في مكتبه، يرشف القهوة، يفكر بمشكلة تغيير ديكور المنزل لزوجته الجديدة، أو يتصفّح الأبراج وهو يزرع غرفته "عفواً مكتبه" جيئة وذهاباً، يقرأ الأخبار الفنية والأخبار الرياضية، وصفحة المجتمع المخملي، ويفكر بكتابة الشعر: "يا أخي على المرء أن يكون مثقفاً"
"لكنك لم تكتب من قبل"
"وما الضير في ذلك؟! الموهبة نحن نأتي بها، لا يجوز أن ننتظرها"... منذ شهور نشر ابن خالتي أول قصيدة. جاءته اتصالات التهنئة من كل الأنحاء. عند ذلك اتصل بصديقه وقال: أرأيت؟!!
بصراحة لو سألني رأيي لقلت له بأن قصيدته قصيدة عصماء لم يقلها أبو تمام.. "تكذب؟!!" أهي وقفت على هذه؟!
أمي تغضب لأني أنقل إليها حديث الشاعر وصفي عن ابن خالتي.
"كان يجب أن تقول له: إخرس، هو أشعر من أبيك"
أمي لا تعرف من الثقافة إلا "الأقربون أولى بالمعروف" لهذا السبب تدفعني إلى زيارة ابن خالتي السيد عامر كي يصنع مني رجلاً مهماً، فأقتني سيارة ومنزلاً، طبعاً لن أكتفي بذلك. سأطلب تعيين سكرتيرة جميلة، وسيارة لخدمة المنزل. وسيارة لزوجتي- يا سيدي كله فانٍ، يجب اغتنام الفرص، لأن العمر قصير ولا يحتمل الانتظار وكنوز القناعة.
صحيح أن الرجل المهم يصنع صناعة الآن كأي سيارة، أو كأي كرسي فاخرٍ...
"ولكن أخاف يا زينب ألاّ أصلح لهذه الصناعة"
"صديقتي لا توافق على هذا الكلام. وتقول إن الخطابات الكثيرة التي يبثّها الزعماء في نشرات الأخبار أصابتني بالهلع أخيراً"
أمي أيضاً لا توافق على هذه المخاوف. فهي تظن أني وحدي في البلد من حصل على شهادة جامعية، لذلك أنا أستحق منصباً مهماً جداً.
أمي تقيس الزمن بصرختي الأولى، وتحسب الزمن الباقي لصرختي الأخيرة، فتدرك أن الانتظار صعب. أحياناً تعيد على مسامعي مئات المرات كيف جرفني النهر. وكيف نزل الوكف على كتبي وكيف كنت أرسم وأكتب الشعر وأنال أعلى الدرجات في المدرسة، والآن أنا لا شيء.
ها أنا أنتظر مصنعاً ليصنع مني آلة مهمة كي أتسلم مكاناً مهماً. لم لا؟ سألبي رغبة أمي وسأبحث عن معمل يصنّعني دون مقابل، فأنا لا أملك شيئاً. ها أنا أنزل إلى السوق، وها أنا أختار الثياب المناسبة للسفر ولمقابلة عامر ابن خالتي. صباحاً تحرك القطار. كان يصدح بصوته العظيم. يطوي المدن والمسافات ويفرش طموحاتي بلا حدود. الشجر يركض. امرأة تنام على ذراع رجل. سكون مخيف تتخلله جعجعة عربات. شعرت بالانقباض وندمت لأني سمعت كلام أمي. أشعلت لفافة تبغ مع أني لا أدخن.
رحت أراقب الدخان. لا أعرف لماذا رغبت بالصراخ. بعد ذلك تمنيت أن أفتح النافذة وأطلق عواء ذئب جريح. لماذا سمعت كلام أمي؟! أنا أعرف هؤلاء البشر: يتحولون -كالأميبيا -أطفأت السيجارة وغصت في المقعد. تمنيت أن أتلاشى وأذوب مع أني مواطن من الدرجة الأولى. أحمل شهادة جامعية ويقتطعون من راتبي كل الضرائب المستحقة دون دفاتر سريّة أو علنية "مع هوية؟"
أقدّم هويتي مع التذكرة. أعود لتأمل الأحلام الطائرة من زجاج القطار. هي ذي المدينة. أقف على الرصيف. أغوص في الزحمة. يخيل إليّ أني أتناثر كحقيبة ملابس مفتوحة. لا ماض ولا حاضر. الغربة هكذا. أردت أن أصرخ "أنا أحمد الـ" التفت إليّ رجل يمرّ بمحاذاتي، " ما بك يا بني؟" "آخ. رجلي. يبدو أن كلباً ضالاً عضنّي وهرب" اندهش الرجل. هزّ رأسه بأسى دون أن يقول شيئاً. شعرت بالخجل. أطرقت رأسي واجتزت إلى الرصيف الموازي. رحت أراقب الوجوه التي تمرّ بي فأنا لم أجيء العاصمة إلا يوم صدر تعييني. من بعيد لاح لي وجه امرأة يشبه وجه أمي. ترتدي منديلها وثوبها وتحمل حزمة من سنابل القمح. ركضت باتجاهها. أعطتني السنابل ومضت. سرت وراءها. ناديتها. ذابت في الزحمة. تذكرت أني رفضت حمل الهدايا لابن خالتي عامر. "شنكليش وقمحية".و... لن آخذ حزمة الحنطة يا أمي. عامر لن يعلقها في الجدار، هنا العاصمة يا أمي، دخلتُ الزحام وراءها، لمحتها ثانية. دخلت السوق العتيق المسقوف: ثياب معلقة.
ألوان واقفة، متداخلة، نساء كثيرات. مسحت عيني وناديت هامساً "أمي" سمعت ضحكاً جارحاً".
"هل أمك تجيء إلى هنا؟"
"زينب أرجوك. كفى"
صمتت زينب طويلاً ثم قالت: لا تسمع نشرات الأخبار بعد الآن ولا تقرأ الصحف. إن تبلدّ ذهنك قد يعود إلى تلك الأسباب. أو إلى الثياب التي تشتريها من البالة باستمرار.
أشعر بالجوع والتعب. أجلس على رصيف عريض مستنداً إلى شجرة وارفة. كدت أغفو لولا صراخ شرطي عجوز له شاربان مصبوغان، ويفرق شعره إلى جانب بعيد كأنه طرف طريق الأتوستراد.
"ممنوع الجلوس هنا يا أخ"
"أنا لست أخاً. أنا مهندس، تعبان، ثم الرصيف ملك الشعب" "هه... مهندس! أنت تسيء إلى منظر المدينة السياحي. قد يظنّك المارون متسولاً، ونحن قضينا على الفقر والتسوّل منذ زمن بعيد"
نهضت، أجرجر نفسي وأحلامي وراء قناعات باهتة. وددت لو أني تحملت شتائم أمي. إنها عجوز. حزنت عندما تذكرت حزمة القمح التي ربطتها ورجتني أن أحملها. رفضتُ. أشاحت بوجهها عني.
"القمح لا يليق بابن خالتي يا أمي..."
"القمح يجرح بشرة يديه الناعمتين خصوصاً وأن حسك القمح كالإبر هذه الأيام."
أتحسس رقبتي. أشم رائحة القمح اليابس. حسكه يتكدس تحت رقبتي. يتسلل تحت بشرة ظهري. أشعر أن شوكاً يخزّ جسدي أبكي ينهرني أبي. الرجال لا يبكون.
" يا سيد... أريد مقابلة السيد عامر -معاون الوزير -أنا ابن خالته". نظر البواب إليّ متفرساً راح جسدي يخزني كما لو كان الحسك يتسلل تحت القميص. هزّ رأسه مع ابتسامة وأنا أسحب جسدي النحيل إلى الداخل، كأني أجرجره تحت غمر الحنطة في تموز أيام الحرّ والعطش. خطر لي أن أسأله: لماذا تضحك "ولاه"؟ "لكن ثرثرته لزميله أكدت لي أنه يشكّ في قرابتي للأستاذ عامر. ربما لأني لا أملك كرشاً كبيراً. كدت أقول له، أقصد البواب: أولاً عامر ابن خالتي، ثانياً أنا مواطن من الدرجة الأولى ويحق لي مقابلة أي رجلٍ مسؤول لشأن ما.
إذن لماذا نسمي الرجل المسؤول، بالمسؤول؟ لأنه مسؤول عن الشعب! لكني تراجعت، فما أدرى هذا المغفل، بالذي أقوله، أنا مصرٌّ على أنه مغفل وإلا ما ارتضى لنفسه أن يكون عموداً مزخرفاً على باب حديدي وأنا مصرّ أنّ سكرتيرة ابن خالتي ليست جميلة، لكنها أنيقة ولبقة.
تصفحت كل الصحف والمجلات الموجودة في مكتب السكرتيرة. مع هذا لم تستطع هذه السكرتيرة الأنيقة إعطائي موعداً لمقابلة ابن خالتي عامر. بعد ضجر وتململ قالت :عامر بك غير موجود".
صرخت مندهشاً. عامر بك؟ ثم أردفتها بكلمة هادئة "غير موجود؟" في البداية صرخت اندهاشاً من كثرة ألقاب ابن خالتي، أعتقد أني في زيارة قادمة سأرى شهادة الدكتوراه معلقة على الباب، وعليّ عندئذٍ أنا أناديه بالدكتور عامر.
"يا آنسة. أنا جئت من الجبال، يومان وأنا على سفر، فكيف هو غير موجود؟!
"يقول: اكتب ماذا تريد منه، نحن نوصل له ما تريد"
أكتب؟! ماذا أكتب؟ هل أقدر أن أكتب لهفة أمي؟ شقاء السفر؟ رائحة القمح رائحة الخبز المرّ؟
شعرت أن هذا المكتب الأنيق مغارة مظلمة رطبة، تركض في جوفها الأشباح وتأمرني كيف أتصرف وكيف أتكلم. كدت أبكي لكن تذكرت أبي" الرجال لا يبكون".
"قل ماذا تريد"
"لا أريد شيئاً يا آنسة. أردت فقط أن أسلّم وأنقل إليه تحيات أمي".
"بصراحة هو موجود ولكن مزاجه متعكر"
"لكنه استقبل الأستاذ الذي جاء بعدي"
"صحيح ولكن كما ذكرت لك. قال بأنه لا يودّ مقابلة أحد لأن مزاجه سيء، اترك لنا عنوانك. سنتصل بك"
"كلهم يقولون: اترك لنا عنوانك ثم.." "أنا لا عنوان لي يا آنسة" خرجت إلى ممر طويل. بعيد. وقبل أن أبتعد، نادتني السكرتيرة. يا أستاذ "اترك عنوانك". لم أرد. مضيت أردد ما قالوه لي. سألتني أمي: "كيف وجدت ابن خالتك" "وجدته طاووساً كبيراً، له ذيل طويل جداً بل له ذيول كثيرة تملأ مكتبه والممرات وتصل إلى المدن الأخرى"