بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:21:28 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1123 1


    ذاكرة عتيقة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سجيع قرقماز | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    لروحٍ عتيقةمن أوغاريت‏

    أين أستطيع أن أجد روحاً عنيدةً بآلاف الجراح مثل روحي، لكي تستمع لاعترافي‏

    نيكوس كازا نتنراكيس‏

    كان يعيش بين نهرين يسوران تلاً أثرياً يشرف على ضفة المتوسط الشرقية، بل ينحني باتجاهها سعيداً. كان دائم التنقل بين الأحجار في مختلف أوقات النهار، وكان البعض يعتقد أن مساً أصابه، أو أنه أضاع شيئاً، وهو مايزال يبحث عنه بين الأحجار، لكن أحداً لم يعرف السبب الحقيقي لتجواله في هذا التل المغطى بنبات الشمرة العطري.‏

    اقتربت منه بحذر كي لاأفاجئه: وجهه مألوف جداً، هادئ، لم يفاجأ، رحب بي ببساطة قال بود:‏

    "روحي العتيقة مشكلتي، بل ميزتي هي روحي العتيقة، هم يعتقدون أنها مشكلة، وأنا أقول ميزة."‏

    صوت فيروز يأتي من البعيد وهي تغني للحور العتيق، ومها بيرقدار تقول لي: أنت الروح العتيقة كروحي. أنظر إليه:‏

    - وأنت؟.. قلت له.‏

    "أنا " كلما أمر بسنديانة عتيقة، شجرة حور، صخرة برية، أسمع حواراً مايزال جارياً، كينبوع، منذ آلاف السنين، أستعيد هذه السنين مع حواراتها. في مسقط رأسي اوغاريت الحقل المحروث والمحروس، أتحدث مع كل الأحجار العتيقة التي قاومت الزلازل والحرائق، أذكِّرها بأحاديث جرت بيني وبين ملكها -نقماد، هو صديقي، ألقاه دائماً، ويحدثني بقصص جرت في مملكته.‏

    مشكلتي، بل ميزتي، أن خلاياي تكونت من أحجار عتيقة، بل من أنفاس عتيقة، ماتزال تنبض فيَّ.."‏

    أخذني من ذراعي، صار ودوداً أكثر، اطمأن لاصغائي إليه، عبرنا الشارع الرئيسي لمدينة اوغاريت، تابع بوحه:‏

    "يومها كنت واحداً فمن يعيشون في مملكة عتيقة جميلة، صارت كما تراها اليوم أحجاراً يعتقد الناس أن لاحياة فيها، أحدثها، أحاورها، اصغي اليها، تصغي إلي، هي حية تنبض بالحياة.."‏

    - ولماذا تبوح لي بذلك‏

    - لاأدري، ربما فيك شبهٌ مني‏

    اتجهنا يساراً، ذراعه ماتزال على كتفي، مررنا بجرن كبير، يشبه الكأس، تابع:‏

    - انظر أنه مايزال مليئاً بالنبيذ ينتظر الساهرين، لكن الجميع يمرون به، ويعتبرونه صخرة صماء شكلها جميل، وأنا انظرإلى هذا الجرن، فأرى النبيذ قد اتحد بالخبز، وتلونت السمرة بالشفق النبيذي، والإناء يردد صدى لغةٍ هي لغتي، كان يهمس لي: "ماأزال أرى من حولي الجميع يتحدثون عن حياتهم وتجوالهم، وأنا أسكب في عروقهم دماً يستمر إلى الأبد، أراهم حولي، فيرقص النبيذ في جوفي، ويهتز طرباً من ضربات الساقي المتكررة، وهو يسقي الجميع" أجل هكذا كان يقول لي، وبعد تعب نهار كامل، كان القليل من النبيذ كافياً ليهدهدهم بانتظار الفجر التالي، حيث يغادرون المدينة لينتشروا في أرجاء المتوسط.‏

    انحنى قليلاً، داعب زهرةً بنفسجية اللون وسط حقل مليء بالأزهار، قال صديقي:‏

    - لقد مر- البعل - من هنا، أنها بداية العام الجديد، والأرض تحتفل، فقد تزينت بثوب مليء بشقائق النعمان، ووزع- البعل - ورود "بخور مريم" هنا وهناك، بينما ايقظت الشمس الأقحوان الأصفر والأبيض، انظر، أليس مكاناً رائعاً للعيش؟.‏

    نظرت إليه متعاطفاً، ومغادراً، كان كل مايقوله رائعاً، إنه منسجم مع نفسه، يعرف مايريد، ولايكترث بالآخرين، يقضي أجمل أيامه بين أحجار اوغاريت العتيقة.‏

    تقول فيروز- ضو البيوت العتيقة كان حلو-، ترحل الشمس خلف المتوسط، يدخل الأوغاريتيون إلى بيوتهم، يشعلون أسرجة الزيت، أو قد سراجي العتيق معهم، يبدؤون حكاياتهم، أروي حكايتي، يبدأ البوح تتراقص ألهبة الكوانين، وينعكس اللون الأرجواني دفئاً على ليالي الشتاء.‏

    أستيقظ. أراقب أصص "بخور مريم" على شرفتي، أراقب الأوراق الخضراء وهي تحتضن بنفسجية اللون التي تزهر طفلة جميلة، اغادرها إلى شاطئ البحر، أحمل بيدي كمشة رملٍ تذكرني بكازا نتزاكيس الكريتي:‏

    "كنت احتفظ بكمشةٍ من التراب الكريتي دائماً خلال تجوالي، واضغطها في كفي لحظات الألم العظيم، فأستمد منها القوة."‏

    لمحته هناك، كان يجلس إلى تلك الصخرة، يراقب من خلالها الأزرق الواسع، أقتربت منه بحذر كي لاأفاجئه، لم يفاجأ، رحب بي ببساطة، قال بود:‏

    - أهلاً..‏

    - اذاً، أنت والبحر؟‏

    - البحر صديقٌ قديم، أشعر أن علاقتي به أبدية.. تابع مشدداً على الأحرف، ماداً نظره إلى الأفق البعيد:‏

    - عندما ولدت منذ آلاف السنين، رماني البحر بهدوء إلى الشاطئ الرملي هذا، يومها تململت قليلاً عندما وجدت نفسي وحيداً عند تلك الصخرة، حاولت الوقوف على قدمي لم أقدر. زحفت إلى تلك الصخرة، وأنا آخذ الرمال الناعمة في طريقي، وفي يدي كمشة من التراب الأوغاريتي المبلل بالمتوسط، وصلت الصخرة: جسدها يشبه جسد أمي عندما كانت فتية وقادرة على الإنجاب، نتوءاتها تذكرني بوجه جدتي- ميّا-. احتضنت الصخرة، ومازلنا معاً منذ آلاف السنين، لاأحد قادر على ادراك العلاقة التي تربطني بها، يقول البعض: "إنها علاقة السرة بالجسد". ويؤكد آخرون: "إنها ذلك الحوار الأبدي العتيقة، وتلك الروح العتيقة".‏

    - وأنت مارأيك/ قلت له.‏

    - إنها أمي، التي تنبهت إلى أول دقة قلب، وسمعت أول صرخة، والتي راقبت نموي طويلاً..‏

    -تحبها كثيراً كما يبدو.‏

    - كيف لا، وهي التي تركت الكثير للإنسانية، احتضنت الإنسان، وكانت الحقل المحروث والمحروس الذي مايزال يعطي..‏

    - كانت جميلة؟‏

    - إنها أجمل أم، أنها تلك الصخرة العتيقة، بل تلك الروح العتيقة، توصل الحاضر بالماضي في حوار عتيق أبدي.‏

    رذاذ الموج يضرب الصخور، تشتد قوة الأمواج، يتحد الماء بالرمل، بالصخرة التي نجلس عليها، بللنا الرذاذ، وبدأ حوار الماء العتيق بيننا وبين المتوسط، حوارٌ اعتقدت أننا وحيدان فيه، لكنه أكد لي أن شخصاً ثالثاً يجاورنا دائماً، ويتابع حوارنا، لكننا لانراه، أعتقدته أولاً كأشباح - شكسبير- لكنه أكد لي أنه ليس كذلك:‏

    - اعتقدت ذلك أنا أيضاً، وبأنه يختفي مع طلوع الفجر وصياح الديكة، لكنه لم يكن كذلك. إنه نقماد الثاني ملك اوغاريت، هو الشخص الثالث الذي يجاورنا، والذي أكد لي أكثر من مرة أن هذا الخراب لايليق بمملكته. أكدت لنقماد:‏

    - نحن نحافظ عليها عتيقة كماهي، تذكرنا بكم، بحياتكم، نحافظ عليها عتيقة كما كانت منذ أربعة آلاف عام، كي تعيش بيننا بكل ماكان فيها.‏

    مع ارتفاع الشمس إلى وسط السماء، كان صوت صديقي يتلاشى، كنتُ في وسط التل. اتجه نقماد إلى الشرق صعوداً.‏

    مجموعة من الغرباء كانوا يتحركون هنا وهناك، يبحثون في كتبهم ودفاترهم، مكبرات الصوت تسيطر على المكان.‏

    اتجهت إلى الشرق صعوداً، تسلقت أعلى قمة في التل، كان بانتظاري، توقعت ذلك، تابعنا حوارنا، ماتزال أصوات الاسلاف تملأ الفضاء الرحب لتل رأس الشمرة، تحدثنا كثيراً، خلا التل من الغرباء، ويبدو أن نقماد كان يود النوم، فالشمس صارت خلف البحر الكبير، ودعني نقماد:‏

    - نحن نظهر في النهار فقط.‏

    - اعتقدتكم في البداية كأشباح شكسبير‏

    لم يرفع يده مودعاً، ودعني بعينيه، ابتعدت بنظري عنه، لم أرغب بالوداع أيضاً، بدأتُ أغادر التل، كانت الأصوات الأوغاريتية العتيقة قد بدأت تتجمع في الذاكرة العتيقة إلى الأبد.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()