الآن، الآن فحسب، يستحيل عليّ أن أصم أذني عن نداءاتك، بعد أن بلغ الصوت منكم مشارق الأرض ومغاربها. دوّى فدخل، بلا استئذان، كل بيت. واقتحم كلّ ضمير فهزّه من غفوته. ومزقت حجارتكم حُجب الصمت واللامبالاة.
اليوم، يا بن عميّ، تعيد حجارتكم العاشقة رسم خريطة فلسطين على كلّ الصدور، تحفرها في كلّ قلب، تكتبها قصيدة، موجة على بحر عكا، قمراً في سماء بيسان، زهرة على بيارات يافا، قبلة على جبين مريم الناصرة. تكشف القناع عن وجه يهوذا، يتربّص بدم صاحبه، ليبيعه، قبل صياح الديك، بثلاثين من الفضة. اليوم، يابن عميّ، يضبط العالم زمنه على دقّات ساعاتكم، يفتتح شهوته للحقيقة، فتخفق في المدى الكوفية التي تجللّ رؤوس أطفالكم. يتلمس قلبه الحبّ، فتزغرد شوارع غزّة ونابلس ورام الله، تزف شهيداً أو شهيدة. يفتقد الوفاء، فإذا أنتم نخلة يهزها الحب فتسّاقط أطفالاً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجّيل. يدلهمّ عليه الليل، فتشتعل بدروب المخيّمات الحرائق. يقبل النهار فيرتفع الدخان ليلاً يلفح وجه الشمس في الخليل وفي الجليل.
أجل يابن عميّ! ها أنا ذا أصل، بعد أربعين سنة، مالم ينقطع بيننا من حديث؛ فقد كان الحديث متصلاً على شكل أو على آخر. أعود إلى حديث بدأناه حين كنّا في السادسة. نجري مع الأولاد في حقول شقائق النعمان، نجمع الباقات، نبدع منها أحزمة وتيجاناً وقلائد. نجري، والأفق رحب، نحو ما لا ندري، لا نلوي على شيء. نغفو عائديْن من الحقول الشماليّة، والعربة تهدهدنا فوق أكوام السمسم الأخضر. نختبئ بين القش على البيادر قبل أن يقبل الليل، فينثر على الأشياء الندى.
الآن يابن عمي، الآن فحسب، أصل ما لم ينقطع منا. أذكرك، حين أجبرنا على الرحيل من قريتنا، في اليوم الثالث، أو الرابع بعد ليلة القصف الوحشيّ، عند الضحى، أو في العصر، لم أعد أذكر تماماً، كنتَ ممسكاً بإصرار -وأنت الشعر الطويل المشعّث، والقدم الحافية، والعين الكسيرة- كنت متشبثاً بثوب أمك السابغ. وأبوك قد ركب رأسه، وهو يجادل إخوته الثلاثة، ويقرر العودة إلى القرية المحتلّة، وتابعنا نحن الرحيل نحو مجهولنا، الذي أصبح معلوماً، فارتفع بيننا حاجز. ارتفع حتى بلغ، اليوم، أربعين عاماً. أنا لم أستطع تجاوزه، لا في الإذاعة، وهي تنقل رسائل اللاجئين إلى ذويهم، ولا في الرسائل، التي يحملها الصليب الأحمر، منا إليكم. كنتُ أحسُّ، بعد أن بلغني شيء من الوعي، أن رسائل الإذاعة لن تقول إلا ما يقوله كل الناس:«نحن بخير طمئنونا واطمئنوا»، وأن رسائل الصليب الأحمر مباحة، تقرؤها مئات العيون المتفحصة، الجارحة، المنتهكة أسرارها.
وحين كنتُ في باريس، كان لدي عنوانك، حصلت عليه من أختك التي اختارها الرحيل وزوجها معنا. كنت أستطيع أن أكتب إليك من هناك. راودتني الفكرة، لكني لم أحاول. ففي أعماقي، في كل كياني، يرتفع ذلك الجدار العالي، فآثرت حوار صمتنا الطويل. أشهد أني كنت أغالب فيكم شوقاً سريّاً، فأنتم من رائحة قريتنا التي لا تفارقني أينما حللت. كانت تتآكلني رغبة جارفة؛ لأقف على صورتك بعد أربعين سنة، لأسمع صوتك، لأعرف أخبارك: من تزوجت، ومن أنجبتَ، لأرى إخوتك: أولاد عميّ، لأتعرّف إلى أختيك الصغيرتين اللتين ولدتا في أسر الاحتلال، لأعزيك بموت عمي: أبيك، وبموت أّمك: زوجة عميّ، ولو بعد سنين طويلة، وأقول لك: سلامة رأسك يابن عمي! لأعبّر لك عن «حسدي» لأنك تستطيع أن تزور، مشياً على الأقدام، قريتنا، فردوسنا، وإن أصبحت أطلالاً، كما قيل لي، واستطالت فيها الغابات، وتتجوّل في أماكن لعبنا، ولهونا، وركضنا، وأحلامنا، ولعل صوراً من الماضي البعيد، القريب، تهمي على روحك فتدمع منك العينان. كانت رغبتي جامحة أن أطلب صورتك، وصورة زوجتك، وأولادك، لأتملاك، وأتملاّهم، فأنت مازلت تتفلت من بين أصابعي وذكرياتي فلا يتبقى منك سوى ابن السادسة، ذي الشعر الكستنائي الناعم الطويل، والملامح الدقيقة، والقنباز المخطط الضافي. وأما هم فمن أين لي أن ابتعث في نفسي لهم صوراً؟. ولكنيّ لم أفعل. كان لدي رفض صريح، قاطع، للكتابة إليك؛ لأن هذه الأشواق الحارقة،ذات الأربعين سنة، كانت تصطدم بشيء كبير، هائل، عصيّ على الذوبان. كانت تشدني سنوات التشرد، والبحث عن قرار. تشدني دماء فهد ابن جارنا هل تذكره؟ـ فهد الذي قتلته شظيّة طائراتهم على أبواب القرية. تشدني سبحة جدّي، المعلقة على الجدار، جدّي الذي مات قهراً في العام الأول للمنفى. يشدني الشهداء، والمجازر، ومنع التجول، والتفتيش عند الحدود، وفي المطارات والموانىء. تشدّني لهفة أولادي للوطن الحاضر الغائب. أشياء أخرى كثيرة تشدني ألا أفعل، حتى لا أكتب على غلاف الرسالة اسماً آخر لفلسطين. كان ذلك فوق طاقتي، فوق حياتي وحياتكم.
الآن.. الآن فحسب، أستطيع أن أكتب إليك على رؤوس الأشهاد، فمئات سيحملون إليك صوتي، وإن جاء متأخراً أربعين سنة.
تقبل يابن عميّ، إذاً، أشواق ابن عمك التي عتقّها الزمن فاختلطت بالبيوت والدروب والوجوه، وسلامي إلى كلّ زهرة ونبتة وشجرة ورائحة بقيت حيّة تشتعل في الذاكرة، ولم يغيّرها كرّ السنين وإن طالت!.
ملحوظة: أخشى ياابن عميّ أن نكون قد التقينا في شارع من شوارع مدينة ما قذفتنا إليها أقدارنا، فلم يعرف أحدنا الآخر. فهل فكرت أنت أيضاً في هذا؟!