ولكن كيف بدأ الأمر؟ الأستاذة المتخصصة في القضايا الاجتماعية والنفسية هي التي قادت، بمهارة، هذه اللعبة. إذ جعلت لحلقات بحثها الميدانية مع طلابها شعار «تعالوا نفهم أنفسنا» وشرحت لهم بمحبة شروط «اللعبة»:
ـ نحن نعيش في المجتمع مسوقين بآراء وأفكار وقيم وسلوك نتقبلها دون مناقشة، ونتعايش معها، وتصبح جزءاً منّا وإن لم نقبلها في أعماقنا. تعالوا إلى مغامرة نكتشف فيها ذواتنا، ونهز قناعاتنا. هذه القاعة الصغيرة ستتحوّل بأسئلتكم الصريحة والجريئة إلى غرفة للمرايا، مرايا ترون فيها أنفسكم، وتكتشفون بعض خفاياكم، وعليكم ألا تخجلوا من طرح أي سؤال يخطر في أذهانكم، ماسيقال هنا سيبقى هنا. وكل واحد سيكون موضعاً للبحث والسؤال وأنا واحدة منكم، وسيأتي دوري. مارأيكم في أن نبدأ؟ وأقترح أن نبدأ برفاه زميلتكم الجميلة الأنيقة، الخجول. اطرحوا عليها ماشئتم من أسئلة، وهي بدورها ستجيب بكل صراحة. وبعد ذلك يأتي دور المناقشة والفهم والتحليل، وربما نخرج ببعض الملاحظات والتوصيات. تذكروا أننا الآن، والباب مغلق علينا، أحرار بكل مافي الكلمة من معنى، نمارس حريتنا بكل مسؤولية. هيّا نبدأ!
وتتابعت الأسئلة والأجوبة، بدا الأمر في البداية نوعاً من المزاح والتسلية، لكن سرعان مادخل الجميع في طقوس اللعبة، وغادرهم ماكانوا يحملونه من خوف وحذر وخجل و أقنعة، وقرروا أن يلعبوا هذه اللعبة حتى نهايتها، وليكن مايكون.
لم يتركوا زاوية من حياة رفاه إلا خاضوا فيها: طفولتها، ذكرياتها، ماتحب وماتكره، قراءاتها، آراءها فيمن حولها، أحلامها. وحين وصلوا إلى علاقتها بخطيبها كانت رفاه قد أوغلت في اللعبة وقررت أن تقول كل شيء.
الآن وبعد أن انتهى هذا اللقاء العاصف، هذا الحلم الغريب، تدرك رفاه كثيراً مالم تكن تدركه من قبل: أثر طفولتها المبكرة على شخصيتها وسلوكها، النزهات القصيرة في القرى والبراري القريبة، الأزهار والنباتات البرية التي كانت تقطفها لتزين بها غرفتها وغرفة أختيها، والألوان والروائح والطعوم، الأسماء الغريبة لأماكن لم تعرفها، الصمت الذي كان يلفّ «مشاويرهم»، الحاجز الذي يفصلها عن أمها وأبيها، الكتب التي كانت تقرؤها، الصور التي كانت تحتفظ بها سراً، الموسيقا والأغاني التي تحبها، برامج الإذاعة والتلفزيون التي تفضّلها، وجوه الزوار التي تحبها او تنفر منها، ألوان الحرمان التي عانتها في مأكلها وملبسها ومسكنها.
تدرك الآن أن هذا الحاجز الذي يفصلها عن خطيبها جمال، وعدم قدرتها على الرد على أسئلته، أو عدم مبادرتها بالحديث إليه أو عجزها عن مجاراته في سرد مشاهداتها اليومية، أو في رواية طرائف كما يفعل هو، وسلبيتها التي يتذمر منها على الدوام. تدرك الآن أن كلّ هذا ليس بسبب خجلها وانطوائيتها، كما كانت تتهم نفسها، وليس لنقص في شخصيتها وعدم ثقة في نفسها، كما كانت تعتقد، وليس في غبائها وثقل دمها كما كانت تتوهم. بل الأمر بكل بساطة أنها لاتحبه، ولم يكن في أي يوم من الأيام، فتى أحلامها الذي ترقبت مقدمه. تدرك الآن أن قلبها لم يخفق له حين جاء لخطبتها مع أهله، مع أنه وسيم وأنيق وجريء. تدرك الآن أنها قبلت به لأنه سيحقق لها كثيراً مما كانت محرومة منه: حريتها واستقلالها، الثياب الجميلة الرائعة التي تراها في الواجهات الأنيقة، المجوهرات والحلي، السيارة الفارهة التي ستحملها إلى كل مكان، الرحلات الطويلة والبعيدة التي كانت تحلم بها. تدرك الآن، الآن فحسب الحقيقة العارية، أنها أوهمت نفسها بحبه لتخفي رغباتها الدفينة في الثراء والجاه والرفاه، والتي كانت تخجل من مجرد التفكير فيها.
وتدرك الآن أيضاً أنه لم يأت إليها لحسبها أو نسبها أو علمها أو مركزها أو أي شيء من ذلك، تدرك أنه أتى إليها لجمالها، لتكون زينة لبيته ولرحلاته ولجلساته مع الأصدقاء، ليتباهى أمام الجميع بأنه امتلك « جوهرة» نادرة، وأنه عقد «صفقة» العمر بخطبتها.
كيف كان كل هذا غائباً عنها؟ وأي إحساس بالخزي والهوان ينتابها؟
وأية خيانة للذات وللقيم ترتكبها؟
ومع ذلك، فقد تجاوزت ذاتها، أمام زملائها وزميلاتها وأستاذتها القديرة، فأعلنت بعد المناقشة والفهم والتحليل قرارها: لن تفسخ الخطبة، وستمضي في ترتيب شؤون زواجها، ولن يقف شيء في طريقها، وستحاول تغيير نفسها حتى يكون خطيبها عنها راضياً. أمَّا الحب فليس مهماً على الاطلاق. ولا بأس ان يأتي أولا يأتي في الأيام المقبلة!
وراح الجميع يترقبون الدور القادم لمن يكون موضوع السؤال والجواب، في القاعة المغلقة ذات المرايا الكاشفة، ليمارسوا هذه اللعبة الخطرة !