1-
يبوح مغزل الزمن بالعصر يا أصحاب.. يبوح.. تنتعل خطواتي وجه الرصيف، الرصيف الذي يودعني محطة القطار، الذي يشبه أمي بلونها الغامق، تهب نسمات جافة، تضيع في الفراغ... لم تكن المسافة بعيدة.. لحظات مقطوعة بخطى عجلى وأصل...، أتنفس بعمق، تستريح نسمات الربيع في صدري التعب، أتلفت حولي، نساء ورجال يقبضون على أيدي أطفالهم وحقائبهم، ينتظرون بامتعاض، وقد ظهرت على مسافات وجوههم حبات عرق نافرة، وإذ يصفر القطار، أصعد قابضاً على الحلقة المعدنية المثبتة جانب الباب، أدخل العربة، تدور عيناي، تمسحان المقاعد والمسافرين، هاهم يدفعون حقائبهم المنفوخة إلى الرف الطويل، يرفعونها ثم يجلسون، أدفع بيدي داخل جيبي، أخرج بطاقة الركوب، أتمعن الرقم، أتجه إلى مقعدي، أرفع حقيبتي، أريحها فوق الرف، أهبط بجسدي فوق الكرسي، أهدأ، تنطبق كفي على حافة النافذة تسحبه إلى الأسفل، أمد رأسي، تخرج عيناي، تنقبان في رصيف المحطة تبحثان، تفتشان، أتنشق النسيم، ترف جفناي، وبألم تنطبق رموشهما، تعبسان، لا أحد... لا أحد!
- "في كل مرة... حين يتخدَّر القلب ياأحباب.. أعلق الحقيبة على كتفي، أجري مكالمة، أضع المهتاف، أنطلق تجاه المحطة، أدخل طابور المسافرين، أصعد معهم، أتمعن رقم البطاقة، أمشي إلى مقعدي، أهدأ فيه، أجر النافذة إلى الأسفل، أمد رأسي في فضائه، ألقاك، تبتسمين، تطيّرين العسل، تلوحين تقتربين... أدخل ميناء عينيك، أعوم في أمواجهما الرحبة.. ترسلين في دمي قمتين من غيم وبهار... تلوحين ثانية.. تضحكين بسعادة.. يغيم النبع.. تدورين تطفر الغيوم.. تحركين رأسك الثمين وتندهين:
- "باي"... مع السلامة... أنتظرك.... وتغيبين....."
يعلو صفير القطار ثانية، تفرقع عجلاته، أتنبه، الشمس نضرة، النسيم هفهاف، تنحدر بعض العصافير من سماء صافية، تضرب بأجنحتها كرب العصر، تنخفض، تعلو، تثير في الجبين شلالاً من الألفة، تستقدم وجهك... الوجه اللصيق بالروح ويدور مغزل الزمن، يدور ويبوح.. بالوجع يبوح.
-2-
عجلات القطار ترسل موسيقا رتيبة، مملة، تغادر العصافير زرقة السماء، يعلو لغط الركاب لحظات ثم يترمد.. ووقت يخترق القطار رحاب العالم الأخضر، ينهض بعض الركاب، يغادرون مقاعدهم، يطلون على رحاب المدى المفتوح، المدى المكتظ بالعشب والجدايا والحليب الوفير، تدور رقاب المسافرين تعانق عيونهم تقاطيع الربيع، يصرخ أحدهم مباغتاً:
- ياللروعة... يارب..
يصيح آخر:
- أهلاً بالضيف الزاهي المتمدد على التراب.. ويقهقه من أعماقه، ثم يصمت، فتعلو قرقعة العجلات، يستل الرجال سكائرهم، يحرقون رؤوسها الشقراء، يبعثرون مُرَّها الأزرق اللاذع في فضاء العربة ويتنهدون، تسرقهم الطبيعة إلى أحضانها الطرية، تلفهم الذكريات والهموم اللذيذة، ينسون القطار، لا يشعرون بسرعته، ترمقهم أحداق الشمس، يفسح لهم الشجر مكاناً بين ذراعيه، تشهق السهول وتتسلق زجاج النوافذ، النوافذ التي يتحرك في بحرها الآن مركب الزمن، الذي يبوح بالغروب، نعم يتحرك المركب وينطلق، ليتيه في غبش الآهة التي طبعتها صدفات الروح المطعونة، بحثاً عن عينين منتظرتين، عينين قائلتين...
وأسمع عينيك، أسمع، لاغرابة ياناس، حكايا القلب المنتظر، النابض بالشوق، والتي تعبره الأشواك، فيئن، بحرقة يئن، ثم يتقلب في حدائق الجمر، يهمس شعراً شهياً، ينزفه من صرر الخيال والبحور والرمل، شعراً يدفع بنا إلى ركننا الأثير..
-3-
- "وتعتبين:
- أنتَ قاس...قلبك من حجر..
- أنتِ مندفعة وعاطفية..
- انظر...حدق...حتى الشراع...
- مابه...؟!
- لا يوافقك...
وتضحكين...، وأضحك..
وتتهمين:
- الرجال سرعان ماينسون...ترتفع قهقهة:
- والنساء يا....؟
- عدنا... لن تنسى طبعك... هيا هات... اقرأ لي... اسمعني آخر ماكتبت...
أغمض عيني... أنشد...
الليل زهر يابس... وعيناك نجوم... و..."
-4-
يتباطئ اندفاع القطار، تخفت ضجيج عجلاته، ترتج العربات، تنبعث صافرة طويلة من مقدمته، يتوقف، يحمل المسافرون أجسامهم، ترتفع أياديهم إلى الرف الصامت ينزلونها محملة بالحقائب التي أهملت منذ بداية السفر، يتجهون نحو الباب، يتلقفهم ثم يودع أقدامهم رصيف الانتظار، يتحركون خارج المحطة، تعانقهم حقول القمح الأخضر، يبتهجون ويغذون الخطا، يرسل رف من العصافير أغنياته إلى جوف العربات، يتنحنح القطار ثم ينطلق، تهزج عرباته، ومن عليائها تتدلى أذرع السماء الحانية وتطبق على السهول، ينتشي المسافرون، يدندن كل بأغنيته المحببة، تحضرين، وفي خارج النافذة المحاذية تهتفين:
"- أنت بئر عميق...
- أنا سنبلة واضحة..
- هل أحببت..؟! في الماضي أقصد..؟!
- نعم..
- وتقولها بجرأة...وفي مواجهتي أيضاً..
ونضحك... نضحك... تمتزج الضحكات، أرد:
- طبعاً... أحببت أمي وقصائد...
- أنت تتهرب...؟!
- لا حاجة بي لذلك... تأكدي لا حاجة لي... أنظري إلى هذا النبع... تتبعي صورتينا، تهجيها... ثم صرحي بما قرأت...
وتقفلين عينيك، تنطبق رموشهما الطويلة، وتصرحين بدلال... "نحن في القرية، نطل على نبعها، لك وجه مرتاح ومعافى، تبدو راضياً وسعيداً، أنا إلى جانبك، تصرخ:
- ياللسماء الرحيمة... ياللوجه المورد.. ياللشعر الليلي المجعد.. تتحرك عيناي، وأنت مباغت الآن، بوهج النبع... بي... وتكمل:
- طول يختصر كل قامات القصب....
أقاطعك: - آه من الخيال الثري...
تقولين: والماضي...؟
- اطمئني... أنت ماضي... بل حاضري ومستقبلي...
- إنك تقامر...
- نعم.. وعلى أثمن كنز...مارأيك...؟"
-5-
لا تزال أعمدة الهاتف تركض خلفاً، لا تزال رائحتك تتك في رئتي، لا تزال السيكارة تدفع مرها، أنهض، أتجه إلى صنبور الماء، أديره، أرشق وجهي بمياهه المبردة، أشرب منه، أرجع، يعبر القطار، غابة من أشجار الزيتون، الذي راح يلثمنا برفق، يأتي النادل من عربة أخرى، يقف قبالي يصيح: زهورات- شاي- قهوة ساخنة- صندويش منوع.. أتجه إلى مقعدي، أرتاح فيه أقول: كأس شاي... يناولني كأس الشاي، أنقده الثمن، أرشف منه، أشعل سيكارة، أبعثر دخانها رافعاً رأسي إلى الأعلى، ألمح، لمبات إنارة مكسورة.. مكبر آلة التسجيل ساكت.. أقرأ خطاً مكتوباً بقلم الرصاص، "أحبك... اذكرني.... 23/4/1986.
أخفض رأسي، يلكزني جاري في المقعد: - ألا تقول تفضل... ها.. طول الرحلة لم تكلمني.. هل أنت تمثال..؟! أتنبه، أتملص بلباقة، أنده النادل.. شاي..أنقده، أضع الشاي أمامه، ترسم شفتاي بسمة، أقول: لا مؤاخذة.. أشرد كثيراً... يبتسم.. يقول: بمن كنت تفكر...؟ وتنز جوانحي.. بمن كنت أفكر..؟ أصمت، أعتذر بلطف، أقوم إلى المغسلة، أغسل وجهي، أرجع، أهدأ، يهدأ القطار، يسكت هديره، يتوجه الركاب نحو باب الخروج، تعبر عيناي النافذة، أفتش... أردد: لا أحد...
كانت التلال القريبة من بلدتي، تخفي المغادرين، أرفع يدي، أحمل حقيبتي، أعلقها على كتفي، أتجه إلى الباب، أترجل، تصيح أجزاء المخ وقت أراكِ :
- أنتِ... أنتِ...
وتهزين رأسك الثمين، وبفرح طفولي تصرخين:
- أهلاً... حمداً على السلامة...
وتقهقهين...
كان مغزل الزمن ينثر المساء.. كان يبوح، وكانت النافذة مفتوحة عليه وعلى الحلم، راح القطار يختفي في التلال، تاركاً ورائه نافذة كبيرة بحجم الحياة كي يبوح... ويبوح...