بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:31:32 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1241 0


    ذلك الرجل...ذلك الدم

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الرحمن سيدو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    يا أهل الخير...‏

    أنا إنسان صريح...‏

    أنظر إلى السماء، وأصيح ياللسماء الزرقاء...؟ أضع حبة الحنطة في فمي وأطحنها بأضراسي وأهزج ياللخبز الطيب...؟! ومامن مرة أخطأت في هذا أو بالغت، وكان كل شيء على مايرام حتى البارحة، فمع الغروب، أحسست بضغط ثقيل فوق صدري، ثم أخذت أتنفس بصعوبة وضيق، لذا حملت جسمي، خلعت منامتي، رشقت وجهي بحفنة ماء، ارتديت ثيابي، هبطت الدرج، حملني الشارع العام أسوح في شوارع المدينة، لعلي أستعيد تنفسي، وأقبض كمشة راحة، وكانت الشمس قد انحدرت خلف الصخب والغبار والعمارات الشاهقة، لكن السماء بانت حمراء قانية وكأنها مرشوشة بعصير الرمان.. فصرخت ملء حنجرتي... يا أهل قلبي...‏

    - إنها تمطر دماً..‏

    وعندما رمقني القريبون مني، سحبت لساني إلى حلقي وهم يحدقون إلي مستنكرين ومذهولين، اقترب أحدهم مني، كان أبيض البشرة، متطاول الوجه، ترقص تحت عينيه شفتان غليظتان وأنف معقوف، قبض على كتفي وهزني بعنف قائلاً:‏

    - انتبه لما تقول... السماء زرقاء ونقية.. أليس كذلك..؟!‏

    استغربت، فككت يده عن كتفي وأنا أروزه ناقلاً عيني بينه وبين السماء التي ازدادت حمرتها....؟! تركته وأنا في حيرة من أمري، رحت أتساءل:‏

    - هل أنا أعمى...؟ أهو العمر يأخذ نضارة العين ويوهن الرؤية، حتى أخذت أرى السماء الزرقاء.. حمراء.. يقطر منها الدم ويهطل...؟!‏

    وبينما كنت أنقل خطواتي صوب الشارع الآخر، والعتمة ترشق خاصرة المدينة بلونها المحير، فركت عيني ودخلت إلى دكان "أبو خالد الناطور" بائع الحلويات، رحب بي، لم أنتظر، تناولت طبق "حلاوة جبن"، اخترت كرسياً في زاوية منفردة، أرحت الطبق على وجه الطاولة، جلست، بدأت أدفع بالشوكة في قلب قطعة الحلاوة، لأقطعها، شملت الفسحة الطويلة بناظري، كان كل شيء يقطر ويريل دماً قانياً، الكراسي، الطاولات، الجدران، لمبات النيون، الزبن، صحن الحلاوة أمامي، كدت آكل... كدتُ، وكانوا يأكلون ويبلعون الحلوى بهناء وراحة بال، ترددت قليلاً ثم بدأت آكل مثلهم، لكن معدتي تشنجت ونشب في جوفي اضطراب وغثيان، فرحت أتقيء مهمهماً:‏

    - أنتم تأكلون دماً...؟!‏

    لم يبال أحد بي، لكن الرجل ذو الأنف المعقوف، حاذاني ومن جديد، قبض على ساعدي وضغط أكثر من المرة الماضية وقال:‏

    - أنت بلا أدب.. ومتوحش... حاذر...‏

    وقبل أن أرد عليه أدار ظهره لي وسار تجاه طاولته مقهقهاً فازددت حيرة واضطراباً، نهضت، حملت ثقل جسمي، وخرجت إلى الدنيا...‏

    كانت الأبنية التي تصطف بمحاذاة الشارع حمراء، والناس ينقلون خطواتهم باسترخاء ويضحكون، يحملون ثياباً وأمتعة جديدة ويسمرون، لكن العشاق... العشاق فقط كانوا محرجين ومرتبكين في حيرة مثلي من أمرهم، يحدقون إلى الدنيا والناس، وحركة الشوارع، ويهمسون لبعضهم بأمر ما، ثم تعتكر عيونهم...‏

    ظل الأمر كذلك حتى وصلت دكان البقال، الذي كان مشغولاً بوزن وتوزيع البضائع والحاجات، وقبض النقود، اشتهيت سلطة خضار، عشاء خفيف، لا يستغرق تحضيره زمنا طويلاً، فتحت طريقاً لي، تناولت أقراص البندورة، الخيار، الفليفلة الخضراء، المقدونس، وحبة ليمون كبيرة...‏

    انتبهت.. كان كل شيء قانياً، وجوه الناس، المعلبات، الخضروات، لوازم التنظيف، علب الدخان، رميت ما أحمل وزعقت:‏

    ياعروق عيوني.. أنتم تعيشون في الدم وبالدم، انتبهوا أكل الدم حرام وعلاوة على ذلك فهو مقزز للنفس.‏

    لم يكن أحد منهم منتبهاً إلي أو سامعاً زعيقي....؟!‏

    قلت:‏

    أصلي العشاء.‏

    اتجهت إلى جامع المدينة، نعم إلى الجامع، لأصلي وأدعوا الله وأرتاح قليلاً، فالتقيت بصديق العمر، صافحته، انتشل يده من كفي وصرخ:‏

    - أنت تنزف، من جرحك..؟!‏

    سألته:‏

    - هل هناك دم...؟!‏

    ضحك وضحك.. حتى بانت مؤخرة حلقه، تركني ومضى...؟‍!‏

    وكان الهواء لزجاً، يلتصق بالجسم، شيء عجيب أن يلفك الهواء ويعلق بك بدبق..؟! أكملت سيري، وصلت باحة الجامع، فاجأني أحد الجنرالات اليهود وهو يعتمر قبعة صغيرة على مؤخرة رأسه، نعم في باحة الجامع وهو يبتسم ببرود، وقد ارتدى ثوباً أبيض زاهياً، يطقطق بحبات سبحة طويلة بيضاء، ضحكت قلت:‏

    - ماذا يجري...؟!‏

    لكن السبحة البيضاء، راحت تتحول أمام ناظري إلى حمامة بيضاء، أنيسة، تحك أسفل عنقها بحنان وتحد، للحظات استحالت الحمامة إلى بندقية مشرعة في وجهي، تحرثه وتمزقه، فاحتججت:‏

    - ماذا تفعل هنا ياجنرال...؟!‏

    حينها.... حدق إلي ونهنه بضحكة وقال:‏

    - جئت أذكركم أني هنا...‏

    وأحنى رأسه إلى الأرض، ضحك ضحكة كبيرة حولته إلى أفعى، تلفت يمنة ويسرى ثم غاب في أحد الشقوق القريبة، ركضت خلفه، جريت، حاولت الإمساك به، قطعت شوارع كثيرة، ومدن كثيرة، كدت أدهس من قبل السيارات المسرعة وأنا أزعق الدم- الرجل...‏

    وكان المارة يتوقفون للحظات ثم يتابعون سيرهم بهدوء. ووقت وصلت إلى بيتي كانت الدنيا، المدينة، الشوارع، الرجال، يغيبون في عتمة حمراء غامقة، ألقيت بنفسي على أرض البيت، رحت أسبح في بركة الدم فأعدت الصراخ والزعيق...‏

    - ياتاج رأسي الدم في داخل البيت..‏

    ثم سرت قشعريرة في بدني، ارتجفت، تعرقت، تقيأت، صحوت، وكان ذنب الثعبان قد اختفى في الشق تماماً...‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()