- جئت من النبض الذي ما زال يلوب في القلب. من الأيام التي أبت أن تصبح ماضياً.
- ألم تحملك مناخات الغربة ومشاغل السياسة على النسيان؟.
- وجودك في نفسي أقوى من كل المناخات والمشاغل.
- ولماذا ظهرت هكذا بدون مقدمات؟
- لست بحاجة إلى مقدمات. فأنت قلبي حقيقة، لم تتأثر بنفي أو اعتقال.
- وكيف عبرتَ إليّ هذا المدّ من السنين الخصيبة والعجاف؟
- بالبحث عن طريق يوصلني إليك. بالأمل الذي لم يفارقني، أني يوماً سألقاك. انهما الآن وجها لوجه، بعد أكثر من عقدين من الزمن. الأيدي تشابكت. والدموع تحيرت بين أن تنهمر، أو تقف ترنو إلى اللقاء. والتفاصيل مرتبكة، لا تعرف من أين تبدأ.
* * *
تذكرت لقاءهما الأول، الذي بدأ في أحد المراكز الحزبية حين كان ياسر يحاضر عن القومية العربية بين الواقع والطموح. وقتها كانت فوزية طالبة في عامها الجامعي الأول، وكانت أحلامها القومية أكبر من قلبها الصافي، وأعلى من يديها الغضتين.
عندما لمحها ياسر بين الحاضرين، أحسَّ وكأنّ حبلا سريا يمتد بينهما منذ أجيال.
الماضي يصحو، يكسر حاجز الزمن. الذكريات تنفر من مكامنها، مثل غزال مهتاج وترتسم في العيون صوراً لا تنسى. هاهي دمشق تحتضن كنوزها، تحت عباءتها المقصبة، ضنَّاً بها عن أعين الغرباء. لكنّ دمشق، ما أن لمست حبهما لها، حتى باحت أمامهما بسرها، وأدخلتهما بين العباءة والجسد. وملأت صدريهما بعطور ياسمينها. وسمحت أن يركضا في طرقاتها وأزقتها، ويعرفا أبوابها وبواباته وساحاتها. ها هي المساءات تقذفهما مرة إلى باب توما، ومرة إلى بوابة الصالحية. والصباحات تضعهما في رحاب الجامعة أو في مقهى آخر خط المهاجرين، المنفرد بصدر جبل قاسيون يحلمان ببناء بيت فوق قمة الجبل كي لا يسمع نجواهما أحد.
يا للحزن! لقد زُرع قاسيون من قدمه حتى لمَّته بالبنايات والإسمنت، وبقيت أحلامهما مشرَّدة لا تجد أرضاً تحط عليها.
* * *
بعد صمت صاخب بالصور والذكريات، يحتضن ياسر بعينيه وجهها، ويقول:
- هل كنتُ في ذاكرتك؟
- الإنسان يا ياسر، لا يشفى بسهولة من ذاكرته. كنت أتذكرك دائما وأتساءل، إن كنت تقبع في زنزانة، أو كنت ترمح في قصر. لكنَّ توالي السنين، يصيِّر البعد جفاء. وتصبح الذكرى رصيدا يصعب حمله أو الوفاء به.
- لم تتوقعي إذن أن نلتقي؟
- من كان يتوقع؟
- أنا.
- أعترف أني لست مثلك.
- أما سألت عني أحداً من أصدقاء الأمس؟
- المشهد العربي المضطرب، أبعدني عن كل رفاق الأمس.
- احترم قرارك، ولا أوافق على هذه السلبية؟.
- وأين هي الإيجابية، وأنا أرى مركباً أحببناه يغرق، وأرضاً ترامت أحلامنا على مساحتها تتقلص، ومبادئ نذرنا لأجلها شبابنا تتشوَّه وتتقزّم؟!
قال، والوجوم ينغلق على ملامحه الأليفة:
- انكسار الأحلام وخيبة الآمال لا تستدعي الانكفاء والابتعاد. والمطالب الغالية تتطلب جهدا مضاعفا.
- جائز. إنما أقدامي تعبت من الركض وراء أوهام. وليس بي رغبة لهدر ما تبقى من عمري بانتظار معجزة الوحدة العربية!.
- تحقيق الوحدة يحتاج إلى عمل، لا إلى انتظار يا فوزية. والطحالب التي ترينها على سطح الوطن، لن تعكر أعماق البحيرة. فالماء النقي عندما يجري يطرح معه السموم.
- كم أنت مثالي ومتفائل!.
- لست كما تظنين. إنما أنا خائف من التحولات الخطيرة التي تواجهنا في الداخل والخارج، وتقضي على المثقفين أن لا ينحسروا عن الساحة.
- المثقفون؟! ماذا بيدهم أن يفعلوا وهم في بعض البلاد العربية مواطنون من الدرجة العاشرة؟
- كم أستغرب كلامك!. ترى هل كانت زنزانتي أرحم من بعض حياتك الآمنة؟
- لم أعد قادرة على التقوّت بالأحلام، وأنا أرى الدم يطفو على خارطة الوطن من الماء إلى الماء.
قال، وصوته يأخذ نبرة جديدة فيها كثير من الخيبة والمرارة:
- في السجن، ذقت مراحل الإرهاب الفكري. رأيت كيف تسحق الإنسانية، وتنزع العقول من أماكنها، ولم أصل إلى سوداويتك!.
- لست سوداوية بل مخذولة.
- ما الذي يبدد جحيم الخذلان إن لم نتصدَّ له؟ ما الذي ينقذ الوطن إن لم نسانده ونحميه؟.
سكت ياسر وانحنى في مقعده للحظات، ثم قال وهو يتأهب للنهوض: لا إحساس بالزمن معك، حتى وان اختلفنا في وجهات النظر. صديق لي ينتظرني في الفندق، سأراك مساء على العشاء. وقبل أن تنطق بالموافقة أو الرفض، حرك يده مانعاً أي تعليق.
في ذلك المساء، كانت أعماق فوزية هشة قلقة وهي تجلس قبالة ياسر في الكرسي الذي سحبه لها النادل. مشاعر إثم تلاحقها. تضيِّق عليها فسحة الفرح. جلوسها مع ياسر في مكان عام، فعل غير مباح لها وغير مبرر من الآخرين. ماذا تفعل، وهي لم تكن تملك الجرأة على رفض دعوته؟ وفي ذات الوقت، لا تملك القدرة على مواجهة المجتمع وتقولاته.
ترحيب ياسر بمجيئها، اعتقل صمتها وبعثر الإثم والقلق من نفسها، فأخفت حوارها الداخلي وراء لسانها. وبدأت تحكي له عن الصعوبة التي لاقتها للوصول إليه في الموعد المحدد. في هذا الصيف الشاميّ المزدحم، يزداد الطلب على سيارات الأجرة، وتزداد معاناة الناس. فالسيارة الواحدة تأخذ عدة ركاب لوجهات مختلفة. غريب، أليس كذلك مع أنّ عدد السيارات المرسيدس السوداء، أكثر من الهم على القلب. حتى ظنّ أحد السائحين الألمان أنه لم يغادر ألمانيا!!.
يضحك ياسر بصخب لتعليقها، وتضحك معه.
تتلفت حولها. تأخذها الفخامة التي تحيط بها، فترحل مباشرة إلى مقهى آخر خط المهاجرين وجلساتهما هناك، حين لم يكن معهما غير ثمن فنجان قهوة أو فنجان شاي. يلتقط ابتسامتها الخفية. يسألها عن السبب، فتقول:
يا للزمن! مبادئ اشتراكية ومصاريف رأسمالية!.
_ أرجوك، لا تفسدي مساءنا بأحاديث السياسة. هذا المساء لنا وحدنا.
توافقه فوزية بهزة من رأسها، ونظراتها تشرب ملامحه.
- خبّرني كيف استطعت أن تهرّب التجاعيد عن وجهك ودواخلك؟
- بالحب والإيمان يا عزيزتي. وأنتِ، كيف خالف شعرك سنَّة المألوف، وصار داكناً؟
تضحك وتقول: بالأصباغ يا عزيزي، بالأصباغ.
-ما أحلاه شلالاً كستنائياً، أعيديه كما كان.
تحرك رأسها بمرح صامت، وهي تطيّر نظراتها من هنا إلى هناك.
- لماذا لم تتزوجي يا فوزية؟
- تساؤله المباغت، أخمد بهجة كانت قد نمت في قلبها. شعرت أنّ في داخلها رغبة، لقضم مكعب ثلجي تُبرّد به جوفها المحترق. وتمنت أن تتهمه بعنوستها، أن تواجهه بجرم تركه لها. نظراته الملحّة، تستردها من عالم التمنيات، فتقول:
- التزامي بتعليم أخوتي أخفى قلبي وراء عقلي، وألبسني ثوب الترهب.
- ألا تفكرين بخلع هذا الثوب؟.
وبسخرية مرّة أجابت: (تأخرتِ كتير تاعطيتِ يا مواسم الزيتون. !)
- ما زلت يافعة نضرة. أفسحي لي صدرك، لنستدرك ما ضاع من عمرنا.
وبكثير من الحزم، قالت:
- الصداقة التي بيننا تكفي. لسنا بحاجة إلى صيغ جديدة.
صدّها الحازم أشاع توترا في الجو، وتغضنا على جبهة ياسر العريضة. لكنّ حضور النادل، أنقذ ياسراً وساعده على فتح قناة أخرى للحوار.
- توقعت أن أرى لك مطبوعة شعرية.
- لم أطبع أشعاري، لأنها أحاسيس خاصة قد لا تعني أحداً.
- الشعر شعور إنساني، يشترك فيه الناس جميعهم. انشري ما لديك، ودعيني أقرأه قبل أن...
- قبل أن ماذا؟.
- قبل أن يغدر بنا الزمن.
- اكثر مما غدر؟!
- ربما، من يعلم؟ قال هذا، ونزع الساعة عن معصمه، ووضعها حول معصم فوزية:
مسح جبينه المندّى، بمنديل مطوّي بعناية، وقال:
- احتفظي بها، وتذكّريني.
* * *
نهضا، عبرا الصالون المترف باتجاه الباب الخارجي. تودّعا، وبداخل كل منهما رغبة تتأجج. تدعو ياسر لوضع يده في يدها، والركض معها في شوارع دمشق وأزقتها. وتدعو فوزية للاختباء بين أضلاعه خوف الضياع والغربة. فلا هي فعلت ولا هو فعل.!
* * *
سنتان مرتا، على ذلك اللقاء - الوداع. لم يصل فيهما إلى فوزية أي خبر من ياسر أو عنه. وفي يوم، اتصل بها أحد الأصدقاء وأخبرها، أنّ ياسرا يغوص في وحل السرطان. لم تصدق ما سمعت، وكيف تصدق؟ وياسر يضجُّ بالحلم، ويمنح الأمل والحياة لكل من حوله؟
استعادت وجهه الحزين حينما قال بأنّ مساحة زمنه أضيق من آماله. تذكرتْ، كيف غَصِّتْ الكلمات في حلقه وهو يتمنى أن يقرأ أشعارها في ديوان. وكيف أحاط معصمها بساعته الأثيرة. أتراه كان يعلم بما ينتظره؟ لقد هزمته حرائق الوطن ومزقت أحشاءه خلافات الأخوة وأحقادهم، فناء جسده بحمل الأمانة.
* * *
مات ياسر. وبمحض صدفة، قرأت فوزية خبر نعيه في إحدى الصحف اليومية. كان منشورا في مربع يحاصره السواد من جميع جوانبه. حجّرتها المفاجأة.! منذ أيام هتفت له. كان حالته مستقرة، أو هكذا أراد أن يوهمها.
كيف استطاع أن يرحل قبل أن يودعها؟ كيف تمكَّن من تركها لغياب لا برء منه، بعد أن أحيا نفسه في حياتها؟.
مات ياسر بعيدا عن أحبته، غريبا عن وطنه. موته في الغربة أكسب جسده ملامح مأساة الوطن، وتضاريس حزنه. من يصدق أنَّ الوطن الذي أحبه ياسر، وأفنى حياته من أجله، يغلق الأبواب في وجه نعشه الحزين؟ من يصدق، أن يدفن ياسر في أرض ليست أرضه، وفي تراب ليس ترابه، وتحت سماء لا يظللها نخيل؟.
تتمزق فوزية أسى لموت ياسر بعيداً غريباً. تمزقها صورة الجسد المسجى، مرتدا بين الحدود والحدود. مرتدا بين حدود الحلم والماء والنخيل، وبين حدود الظلم والمظلومين. ترى من يلملم حروف عشق للوطن مكتوبة بالدم، مشغولة بالحب والحنين؟ من يلملم حروف عشق متناثرة فوق أرض لا تتكلم العربية، وتحت سماء لا تتلون بزرقة ولا تسطع بشمس، ولا يتسامق في فضائها الضبابي نخيل أخضر حزين؟ ترى َمنْ، منْ يلملم؟.