قدم الرجل المسافر للموظف رقم (7) ورقة، كتب عليها أشياء كثيرة، ولصق في أسفلها طوابع، نظر الموظف رقم (7) لحظة في الورقة التي بقيت في يد المسافر، ثم التفت إلى صاحبها قائلاً:
- سَلْ موظفاً آخر.
- أي موظف؟
- أي موظف
أذعن الرجل المسافر للأمر، لأنَّ الموظف رقم (7) كان قد أدار له ظهره ومضى..قبل أن يفسح المجال لأي تطور في الحوار.
ذهب الرجل المسافر إلى الموظف رقم (317): ناداه مرتين أو ثلاثاً، التفت الموظف المعنيّ نحو الرجل المسافر لثوانٍ معدودات، قرأ في وجهه ويده التي تحمل الورقة سؤالاً عن شيءٍ ما، فتهرّب منه بهزةٍ من رأسه، وإشارةٍ من يده تأمره بالتريث قليلاً، انتظر الرجل المسافر طويلاً دون فائدة، فالموظف رقم (317) لم يظهر ثانية، بعد أن حجبته أروقة وغرف البناء التي لا تحصى.
لجأ الرجل المسافر إلى الموظف رقم (68)، فنظر الموظف رقم (68) إليه، دون أن يقترب منه، ابتسم له، بعد أن اكتشف بحدسه المدرّب، حاجة الرجل إلى الاستفسار عن شيء ما، تحركت يد الموظف رقم (68) بما يفيد أنه لا يدري، ولكنه استطرد:
- ولكن... سلْ آخَرَ.
ودوت كلمة "سَلْ" في رأس الرجل المسافر كالصدى: "سل...سـ..لْ...سـَ" لم يهدأ الصدى... حتى ابتلعت أمعاء المبنى ذلك الموظف، بينما راحت دهشة الرجل المسافر تعرش في كل الأنحاء..وعادت لفظة "سلْ" تدور وتطنّ في دماغه كالنحلة..واختطفه الطنين إلى حين.بعدها استفاق من شروده مع مرور موظف آخر قربه، كان الموظف رقم (4251)، صاح الرجل المسافر:
- سيدي..اعمل معروف
توقف الموظف رقم (4251) وعلت فمه ابتسامة رقيقة، شجعت الرجل المسافر على المتابعة:
- سيدي...أرجوك..
قاطعه الموظف (4251) : أظنك تعاني...وتلعن "البيروقراطية"... هه؟! ومدّ الموظف يده آخذاً الورقة من يد الرجل المسافر، وانكمش هذا الأخير مترقباً وهو يبلع ريقه ويدعو في سرّه، أن ينجو من الورطة التي يقع فيها، تفحّص الموظف الورقة، ثم نظر إلى الرجل المسافر، وهو يتمتم "بسيطة" تهلل وجه الرجل المسافر وهو يهمس "مازل العالم بخير" تنحنح الموظف رقم (4251)، وطلب من صاحب الورقة الانتظار قليلاً، ومضى مبتعداً عنه.
وصل الموظف إياه إلى الموظف رقم (713). لاحظ الرجل المسافر شفاههما وهي تتحرك. لم يتمكن من ترجمة مايدور بينهما من حديث. كان الضجيج يلتهم أحشاء المبنى، وكان قلب الرجل المسافر يخفق ويضطرب، تحت تأثير أفكار متعارضة، وعيناه لا تفارقان حركة الموظف رقم (4251)، الذي ابتعد عن الموظف (713). واتجه نحو الموظف رقم (2740) تكرر المشهد نفسه. دخل الموظف (4251) غرفة. خرج منها.
والورقة ماتزال بيده، تلاشى في رواق، ظهر من رواق آخر، وقف إلى الموظف رقم (918). صافحه.. تكلما.. تفارقا.. سار.. انعطف غاب..؟ ظهر..يصافح.يبتسم.يتكلم.يودّع.يتصل... ينفصل.. يدخل.يخرج.يتبعه.يقترب.
زاغت عينا الرجل المسافر، وهما تتابعان حركته، عاد الموظف رقم (4251) إلى الرجل المسافر، الذي داهمه شعور غامض بالارتياح، الموظف متفائل.. مبتسم: "هل استطاع حلّ المشكلة؟" قال الرجل في نفسه: مدّ الموظف الورقة إلى المسافر وهو مايزال يبتسم، قال:
- هذه لا تصلح.
- لماذ؟!
- لأنها لا تصلح.. فيه خطأ.
- ماهو هذا الخطأ.
- الخطأ هو الخطأ.. الخطأ عكس الصحيح
- لم أفهم ياسيدي.
- أنت تضيّع وقتي.
- ولكن؟!....
- تعليمات من
- تعليمات المسؤولين
- أرشدني من فضلك إلى أحدهم.
- هذه ليست وظيفتي..
أكمل الموظف جملته، واتبعها ابتسامة مزهوّة، لكأنه أنجز مهمة خارقة، ثم انسحب مبتعداً عن المسافر، ودون أن يصغي إلى الكلمات والعبارات المتلاحقة والمتدفقة من فمه.
عادت النحلة إلى الدوران والطنين في رأس الرجل المسافر، تلح عليه بالسؤال والاستفسار عن المسؤول. بالبحث عمّن يمكن توجيه السؤال إليه، تصاعد الطنين كالأبخرة: "المسؤولون.. مسؤولون.. مسـ..ؤو...لو..ن..لون..لون...ن...ن..."
تسارعت حركة الكلمات كالدوامة.. دار رأس الرجل..كاد يقع.
استراح قليلاً ثم جرى، وبسرعة كاريكاتيرية آلية، سأل جميع موظفي المبنى عبثاً، خرج منه، دخل مبنىً آخر، خرج، دخل ثالث. رابع سابع. مائة.. ألف....فـ...
الرجل المسافر للموظف رقم صفر:
- من هم المسؤولون؟!
- المسؤولون هم المسؤولون... هم المسؤولون... المسـ...
- شكراً...
- الرجل المسافر للموظف رقم (9487539867)3
- هل تدلني على مكان أحد المسؤولين؟
- ليس لهم مكان محدد.
الرجل المسافر للموظف رقم (؟):
- هل تعرف اسم أحد المسؤولين؟
- أعرف أسماء المسؤولين التي حفظتها من كتب التاريخ..
- متى أستطيع أن أقابل أحدهم؟
- ؟؟!!؟
- أرجوك.. أرشدني....
- ربما بعد قرن
- هل سأبقى كل هذه المّدة دون سفر..
-...........
هزّ الرجل المسافر رأسه حزيناً، وهو يتخيل المسؤولين أشباحاً بلا شكل ولا لون، يصولون... يجولون... يسيّرون المصالح العامة... يديرون شؤون البلاد والخلق. يضعون التشريعات والأنظمة. يتخذون القرارات. يعاقبون.. يكافئون.. "ولكن كيف يتم ذلك؟! ولماذا؟!" لو يحالفه الحظ، ويظفر بأحدهم!! "حينئذ يمنحونني ما أشتهي.. يحلّون مشاكلي... ليتني واحد منهم، مؤكد أنهم يعتمرون "طاقية الإخفاء".. لو أصبحت منهم أستطيع أن أسافر وأعود.. وأفعل مايطيب لي، دون حاجة لمراجعة موظف ولا مسؤول. وراح الرجل يضحك... ويقهقه بصوت ارتفع... وارتفع.. ثم هبط فجأة كالزئبق في مقياس حرارة، وضع في قالب من الثلج.