بتـــــاريخ : 11/17/2008 6:33:59 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 998 0


    إيمان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وصال سمير | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة إيمان وصال سمير

     

    شكراً لك يا رب...‏

    نطق قاسم بتلك العبارة، وهو يشعر بإيمان عظيم يملأ قلبه، ويروي عروقه.‏

    قبل دقائق فقط، أنهى صلاة الفجر، وتلا آيات من القرآن الكريم، أهداها إلى أرواح أبيه وأمه والذين رحلوا من أقاربه وأصدقائه.. مكتفياً بالقول: "أنتم السابقون، ونحن اللاحقون".‏

    اعتاد أن يتوقف عند كل عبارة قرآنية، محاولاً تفسيرها مستخدماً ما جمعه في رأسه من ثروة لغوية.. وثقافة عامة.‏

    يقف عند كل كلمة لحظات طويلة ثم ينتقل بعينيه إلى الكلمة الأخرى.. ثم يهمس لنفسه قائلاً: إعجاز!! نعم إن هذا القرآن لمعجزة كبيرة.‏

    رعشة خفية تسللت إلى جسده الممتلئ.. الذي ينضح بالصحة والعافية.‏

    طوى سجادة الصلاة، وهو يردد آياتٍ كان قد حفظها وثبتت في رأسه لا تبارحه..‏

    البيت غارق في السكون.. تنقل بخطوات لطيفة.. لئلا يوقظ أحداً من أفراد بيته.‏

    خرج إلى الشرفة العريضة والممتدة على مسافة أمتار..‏

    جلس على الكرسي المخصص له بسنادته الجلدية.. وشعر بتلك الاهتزازات المريحة للأعصاب، فاستسلم لها بعد أن أغمض عينيه.. ثم فتحهما فأعجبه لون الخيمة البرتقالي.. ثم مدّ بصره فوقعت عيناه على مشاهد متباينة.. ثم استقر على الهضاب المتماوجة والمتعانقة باستكانة واطمئنان.‏

    حمد الله مرة أخرى.. وأصغى بانتباه وحب كبيرين إلى زقزقات العصافير المختفية في شقوق الجدران، وبين أغصان الأشجار.‏

    أحس أن العالم جميل جداً.. وأن الحياة جديرة بأن تعاش فبدأ يلهج بعبارات الامتنان والشكر لعظمة البارئ.. مما جعله يبدو صغيراً وضئيلاً.. أمام العظمة الإلهية. شعر برعشة خفية، فانكمش في مقعده.‏

    تحسس جلده بأصابعه القوية والصلبة، فأدرك في مساماته تلك القشعريرة التي غطت ذراعيه، وامتدت إلى قلبه.‏

    مدَّ بصره إلى الحقل المجاور.. وقاس بنظراته مساحة السياج المحيط به.. رأى الورود الملونة قد تطاولت وعانقت السور فحولته إلى شريط مفوّف ومتجانس يشد بعضه أزر بعض.‏

    نسائم الصباح اللطيفة، لامست وجهه الأسمر الوسيم. رفع رأسه إلى السماء.. ففوجئ بزرقتها الصافية الخالية من أي شائبة.‏

    شكر ربه مرة ثانية وثالثة على نعمه التي أنعمها عليه.‏

    وتساءل: أيسكن هو في تلك البقعة الجميلة؟‏

    رجع بذاكرته سنين طويلة إلى الوراء.. ثلاثين سنة أو أكثر وترك للصور حرية التتابع أمام عينيّ خياله الجامح.‏

    انتقل نقلة سريعة ومفاجئة، وكأنه عاد إلى نقطة الصفر..‏

    رجع خلال لحظات إلى فراشه المحشو بالخرق البالية.. والذي كان يتقاسمه مع أخيه.. وفي النهار يطويه فينقلب إلى مقعد مريح، يغطيه بملاءة.. ليستقبل عليه أصدقاء الطفولة.‏

    في هذا الفراش العتيق، عرف قاسم برودة فصل الشتاء، فاحتمى من قسوته بالالتجاء إلى أخيه، ومعانقته.. والالتصاق بظهره، وكان الثاني لا يتأفف من أخيه الأصغر بل يتركه على حاله وكأنه يدرك جيداً سرّ تلك الحركات الطفليّة البائسة.‏

    الهواء البارد يتسلل من شقوق النوافذ.. ومن تحت الأبواب ويصل إليه.‏

    أياماً عصيبة عرفها في شبابه أيضاً، وهو يدرك ذلك الفرق الشاسع بينه وبين صديقه أحمد.. الذي كان يقطن في البيت المقابل لبيته.‏

    أمتارٌ معدودة، تفصل بين البيتين.. ومئات الفروق تبرز واضحة بين حياته وحياة أحمد.‏

    أحمد ينام على سرير نحاسي أصفر.. ويغطي جسده بلحاف سميك وغطاء صوفي.. ويستند برأسه إلى وسادة صنعتها أمه كما حدثه أحمد ذات مرة من ريش النعام.. حين لمسها قاسم وجدها ناعمة كالحرير.‏

    بيت أحمد واسع وعريض.. له فناء كبير تتوسطه بركة ماء تسقسق وتحاور أشجار البيت من ليمون، ونارنج، وبرتقال، وتناجي أزهاره من ياسمين أبيض وأصفر وزنابق ملونة.‏

    كان قاسم يتأمل كل ما تقع عليه عيناه.. محاولاً اكتشاف أسرار هذا الاختلاف.. بعيني طفل ذكي كان يتطلع إلى تلك الأشياء.. ويبلغ سروره أوجه حين يزور ذلك البيت الجميل..‏

    كل شيء قد وضع في مكانه، كل شيء قد رتب بذوق رهيف.. أصص الأزهار صفت ونظمت حول البحيرة وفي أركان الفناء.. البركة الرخامية ذات القاع الأزرق والنظيف تستقبل وتحتضن مياه النافورة الفضية.‏

    وأكثر ما كان يلفت اهتمام قاسم المطبخ النظيف ذو النوافذ الواسعة المشرعة للنور والهواء.. وكم كان يملؤه الفرح حين كان يتابع بعينيه الواسعتين حركات أم أحمد وهي تروح وتجيء في مطبخها.. تحضر وجبات الطعام المنوعة.. وكان أكثر ما يجذبه منها تقشيرها لحبات الثوم.. لكي تضعها بغزارة على "الملوخية" ثم تضيف إليها "الكزبرة".‏

    وحين كانت تخرج هالة من الحمام.. وقد أحاطت شعرها الطويل بغطاء مطرز بالورود.. كان يسائل نفسه لماذا لا تضع أخته غطاء مطرز الحواشي مثل غطاء هالة حين تخرج من الحمام؟..‏

    كل مارآه في بيت أحمد كان يختلف عما يراه في بيته.‏

    أم أحمد تغسل الثياب في غسالة كهربائية.. ثم تأتي امرأة غريبة فتمسح لها البلاط وتنشر لها الثياب.‏

    أما أمه فكانت تتربع على بلاط المطبخ وأمامها طبق الغسيل.. وإلى جانب هذا الطبق كان يراقب كفيّها وهما تدعكان القماش حتى ينظف.. هذا المطبخ يتحول فجأة إلى حمّام.. بعد أن يوضع على الوابور وعاء كبير ممتلئ بالماء..‏

    في المساءات، كان قاسم يرى أمه وقد أنهكها التعب متكورة في زاوية من زوايا الغرفة ترفو الجوارب، أو تصلح الثياب.. وحين يحاورها أبوه في هدأة الليل كان صوتها يصله محتجاً غاضباً متذمراً وكارهاً الحياة.‏

    ومع مرور الأيام انتقلت تقطيبة أمه إلى أخواته الثلاث وكانت تلك التقطيبة تنقلب فجأة إلى صراع حاد.. وإلى شجار عنيف، فتنهال الشتائم على رؤوسهن ثم لا يلبثن أن يقتربن منها محاولات إزالة غضبها بمداعبتهن وكلماتهن الحنون.‏

    قاسم الشاب.. كان يرى كل هذا.. ثم لا يدري لم كانت عيناه تتجهان إلى المنزل المقابل لمنزله؟! وتنهال عليه أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة.. لا يملك الرد عليها فيصاب بالصداع.‏

    والمشهد الذي ملأ عينيه وقلبه حسرةً.. هو اضطراره لحمل الصفائح التنكية.. ليملأها بالماء من بيت الجيران.. أو من "الفيجة" القريبة متناوباً تلك المهمة مع أخواته البنات.. هذه المهمة كانت أصعب المهمات.. اذ لا تتوقف حتى يمتلئ المستودع الكبير المبني في زاوية من زوايا المطبخ.‏

    هذه الأمور وأشياء أخرى جعلته يدرك جيداً أن بوناً شاسعاً، يفصل بينه وبين صديقه أحمد.. الذي صار بيته في نظر قاسم مثلاً يحتذى..‏

    علا صوته الداخلي، مفتشاً عن الخلاص، ورسم الأهداف البعيدة والقريبة وأنهاها هدفاً هدفا.. صلباً انطلق في دراسته الجامعية.. نال الدكتوراه وهو يتلظى على نار الفقر والحاجة.‏

    عشرين ساعة عمل في يومه الطويل.. وترك الساعات القليلة الباقية للراحة.‏

    ومرت سنوات طويلة تناسى بها نفسه.. ألف كتباً كثيرة وهو في الثلاثين من عمره.‏

    في الأربعين امتلك قاسم كل شيء.. البيت الجميل، المرأة الحلوة، والابنين الغاليين..‏

    هو الآن، يستريح في سن الخمسين..‏

    وحيداً يجلس في الشرفة.. ويراقب الأبنية التي غطت المكان.. ثم يرجع ليفصل ظروف ماضيه.‏

    شكر الله على الآمال التي تحققت.. الآن لديه وقت للتأمل.. ربما يهبه الله سنوات قليلة يحياها في هدوء.‏

    بيته الآن أجمل بكثير من بيت أحمد.. وزوجه الآن سعيدة لا تشكو من التعب والإرهاق كما كانت تشكو أمه.. ومطبخه يعج بما لذّ وطاب.‏

    لم يعرف قاسم رغم تلك المقارنات التي عقدها مع صديقه أحمد معنىً للحسد.. كان يراقب بحب، ويرسم طريقه بإخلاص.. ليحقق الهدف.. انتفض من رحلته الطويلة التي غرق فيها وكأنها تشابه تلك الورود الملونة الملتصقة بسياج الحقل المجاور والتي تبتسم له بصمت..‏

    صباح الخير يا بابا..‏

    صوت عذب أيقظه من أحلامه.. تامل الشعر الأشقر المسترسل على الظهر الأملس لابنته الشابة.. ثم تناول بلطف فنجان القهوة الذي مدّته الزوجة الجميلة وهي تعانقه بنظراتها الحلوة..‏

    تأمل الاثنتين بحب عميق.. وبدأ يرتشف قهوته الصباحية.. وعبارة شكراً لك يا رب.. ظلت تملأ فمه وقلبه

    كلمات مفتاحية  :
    قصة إيمان وصال سمير

    تعليقات الزوار ()