بتـــــاريخ : 11/17/2008 6:28:06 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1070 0


    صرخة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وصال سمير | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة صرخة وصال سمير

     

    أحسست فجأة أنني غير قادرة على البقاء في البيت.. اخترت مغادرته.. دون أن أعلن عن مكان وجودي..‏

    الرصيف الرمادي يمتد أمامي إلى ما لا نهاية.. وهدير السيارات يملأ سمعي.. كنت بحاجة إلى مثل هذا الضياع.. الصخب أخذني بقوة، فهمت في طريقي.. لا أدري إلى أين أتجه؟‏

    وما أن ابتعدت عن بيتي مسافة ليست بالطويلة.. ممتلئة بمئات الأفكار.. حتى ملأت سمعي صرخة غريبة سمرتني في أرضي.. تلتها صرخة ثانية وثالثة فغاض الدم في وجهي وأحسست بخوف شديد.‏

    سيل متدفق من الصرخات كأنها خرجت من رأسي مخلوطة بكلمات ملزوزة بعضها إلى بعض، شكلت في داخلي نغماً حزيناً يائساً.. قادماً من مكان بعيد من كائن بعيد، تائه في قلب الدنيا.. كان الصوت صوت امرأة متوجعة يعلن عن شيء مجهول.. استنفرت المرأة كل طاقتها لتعلن عن أمر ما.. عن ألم ما.. توجعها حرق أعصابي.. وقد غدت تلك الأعصاب قابلة للإحتراق في السنوات الأخيرة..‏

    شحوب مبيض كسا وجهها الأسمر، فبدت كشبح مخيف ظهر فجأة يهدّد ويتوعد. حدقت إليها غير مصدقة ما أرى.‏

    كانت تحدث نفسها، تحطم نفسها، تليح بيديها في فراغ موحش، وكأنها ترد وحوشا تبغي التهامها.‏

    أنفاسها اللاهثة ترددت في صدرها النحيل..‏

    كدت أهرع لأخذ رأسها إلى صدري.. وأبكي معها.. ولكني خجلت.. وتساءلت بحيرة:‏

    ما سر عذابها يا ترى؟.. وما الذي نغص عليها حياتها.. حتى خرجت هكذا.. يدفعها الألم إلى مثل هذه الحالة الهستيرية..‏

    دق قلبها بعنف شديد في صدري.. وكأن صدري صار صدرها.. أحسست بالاختناق فتحسست عنقي بأطراف أناملي..‏

    اقتربت من تلك المرأة أكثر وأكثر وكأن خيوطاً وهمية تربط بيني وبينها.‏

    بحثت عن سر هذا التفجر الإنساني في قلبي.. وعن لغز تلك الثورة التي تشنها علىالكون امرأة واحدة.‏

    وسمعتها تهمس والكلمات تخرج غير مفهومة من فمها الذي يشبه فمي- لم أعد قادرة على الاستمرار- أحس بعجزي- كل شيء قد تغير- لا أملك ما يحل المشكلة.‏

    بدت فجأة جدية تتقن فنّ الصبر والتحمل..‏

    يبدو أن عاصفة حياتية، هبت عليها فحطمت كل أشرعتها وزعزعت كيانها.. فاجتثتها من أرض الواقع.‏

    بكاؤها ونحيبها رسما خطوطاً سوداء على بشرتها السمراء. كانت حانقة فما سبب حنقها يا ترى؟..‏

    كنت أحدق إلى وجهها وفي قلبي استقر رعب هائل.. إنها لتشبهني شبهاً تاماً.. لباسها النظيف، حذاؤها الجديد واللامع.. وجهها الذي يدل على الأصالة والنبل.. لون عينيها بلون عيني، وجهها يشبه وجهي، فمها أيضاً مثل فمي.. قامتها الطويلة والمنتصبة تشبه قامتي.‏

    تشبهني في كل شيء.. وربما وجدت فيها صورتي.. فرق وحيد يفصل بيني وبينها.. أنا أقف الآن هادئة.. شعري منظم.. وهي تبدو ثائرة. وقد تشعث شعرها وتلطخ وجهها ببقع سوداء وحمراء.‏

    سحابة ارتفعت بيني وبينها.. ربما رسمتها دموعي التي انحدرت على وجنتي غصباً عني..‏

    ولكن.. ما علاقتي بهذه المرأة؟ ولم أقف محاذية لها وكأنها أنا؟ أنا صورة السكينة؟ وهي صورة الغضب والثورة.‏

    بدت المرأة شاحبة كشحوب الموت.. وكأنها خرجت للتو من القبر بعد أن أزاحت التراب المنهال عليها.. وبدأت ترتجف كوليد فقد أمه.. غير قادرة على التخلص من أجواء لا ندركها. وحالات لا نستبينها.‏

    لا أدري.. لم انفلتت تنهدات من صدري.. أأنا أتعاطف معها إلى هذا الحد؟.. سالت دموعي من جديد، فمسحتها في صمت.‏

    كلماتها المعلنة بدأت تشرح قضيتها.. فهي ممتلئة بالخيبة والإحباط وغارقة في لجج الحياة الصعبة.. ولا تتقن السباحة في محيط نهاية القرن العشرين.‏

    أحسست بجراحها، وقد كشفت عيناها السوداوان عن أسرار نفسها. بت كأنني أعرفها حق المعرفة.. تتكلم هي فأجد صدى لكلماتها في نفسي.‏

    وحين حاولت مسح دموعها صدتني بقسوة ووحشية..‏

    قلت بحنان كبير: أنا امرأة مثلك.. لي مشاكلي وأحزاني..‏

    صاحت صه.. أنت هادئة.. لا تشكين من شيء.‏

    نظراتها الهائجة: أثارت الرعب في روحي.. وحديث العقل لا ينهي المشكلة.‏

    واحترت.. وأنا أتأمل تفاصيل وجهها.. حتى سمرتها كانت سمرتي.. وأنفها هو أنفي.‏

    عنقها، صدرها، وكتفاها، كلها كانت أنا..‏

    ظلت تغمغم بكلمات، كانت تخرج من فمها ناقصة، وكأن لسانها عجز عن متابعة أفكارها المنطلقة كتيار جارف..‏

    وحين التصقت بها من جديد.. احتدت، وزمجرت، مستغربة تطفلي. وقد بدت كطفل شقي، مزق الأولاد وجهه في الأزقة الضيقة وعلته القذارة‏

    تضاربت مشاعري نحوها وناست بين حب وكره، بين عطف وقسوة..‏

    تمنيت، للحظات، أن أضمها إلى صدري.. أن أخفف عنها.. ولكنها كانت متمردة كفرس حرون.‏

    عاصفتها اقتربت مني. وحاذت مخيلتي، وكأن عدوى آلامها قد انتقلت إلي. بدأت اتحسس جسدي.. وأتساءل:‏

    هل أنا أحلم؟ أم أنني أحيا واقعاً مريراً؟..‏

    مشاعر الحسرة تسربت إلي ووصلت إلى جنبات نفسي.. ففاضت، وبدأت تعطي أكلها. قلت لها بلطف شديد: لكل مشكلة حلّ. وأنت لم تعدمي الحلول كلها هاتي ما عندك أمراً أمراً وربما نجحت في مساعدتك على إيجاد الحل.‏

    -قالت: أنا موظفة.. وراتبي محدود.. ينتهي في الأيام الأولى من الشهر.. والأولاد لا يدركون تلك الحقيقة.. ولن يفهموا ما حل في العالم بعقولهم القاصرة.‏

    يفتحون الثلاجة فيجدونها فارغة.. يطلبون النقود فأرفض إعطاءهم إياها. ينظرون إلى أيدي الآخرين فيجدونها ممتلئة.. يعودون إلى البيت ممتلئين بسخط دائم علي....‏

    تجرأ اليوم أحدهم وقال: لماذا تنكرين نعمة الله عليك.. اخرجي من هذا المكنوز.‏

    ابني هذا لن يدرك أبدا أن العالم يسرع نحو النهاية.‏

    وكل شيء يحتاج إلى مال.. أفهمت الآن مأساتي؟..‏

    كنت أصغي إليها ولا أحير جوابا، فكل ما تحدثت عنه كان صدقاً.. وكل فكرة شرحتها وجدت صداها في نفسي.‏

    دموعها المنهمرة، دفعتني للبكاء.. وكأنها تحدثت بلساني.. استعذت من الشيطان -قاتله الله- كم يثير في نفوسنا من الوساوس!!‏

    لقد صار الفقر هاجساً.. تعملق، وبدأ يترك وشمه على جلودنا. بدأت أطمئن مثيلتي، وأهدئها، وأنا لا أومن بكلمة واحدة مما أقول.. بل أكذب عليها، وعلى نفسي.‏

    أنا أتألم مثلها.. أثور كما تثور.. وأنفجر كما تنفجر.. وأبحث عن الحلول ولا أجدها، ولا أخجل من إعلان غضبي.‏

    أخذت تلك المرأة من يدها.. وعدت بها إلى بيتي.. أغلقت الباب بالمفتاح.. ثم فتحته.. فاللصوص يدركون أين تختبئ النقود؟‏

    ظل الجو بيني وبين المرأة مشحوناً بالتوتر. ثم هطلت أمطار، وتلاشى سحاب..‏

    اقتربت منها، ومسحت دموعها، وشطفت وجهها.. وحين حاولت تجفيفه، اختفت تلك المرأة، ولم أجد أمامي سوى وجهي.. وقد بدا شاحباً.. ممتقعاً مصفرا.. وكأنني قمت، تواً، من مرض شديد.‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة صرخة وصال سمير

    تعليقات الزوار ()