بتـــــاريخ : 11/17/2008 6:27:09 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1259 0


    وقفت عارية إلاّ

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وصال سمير | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    ظلام دامس لف الكون، وأخفاه عن العيون..‏

    وشهر كانون الأول، تكشف عن برده القارس، ورياحه العاصفة.. مما زاد شعور -هبة الله- بالخوف والقلق والوحدة..‏

    انتابت جسدها النحيل رعشتان.. رعشة البرد ورعشة الظلم.. أما الرعشة الأولى فمداواتها سهلة.. ولكنها احتارت كيف تداوي الثانية.‏

    من أجل الرعشة الأولى، غطت جسدها الرقيق بغطاء صوفي ناعم.. ولكن رعشة الظلم الذي حاق بها، لم تفارقها..‏

    برقت عيناه ببريق الانتصار، قهقه بخبث واضح.. بعد حديث طويل أجراه معها عبر الهاتف.. تأكد من خلاله أنه دفعها دون رحمة إلى بئر مظلمة من القهر والذل والاندحار.. حاولت أن تتماسك وتقف صلبة أمامه.. ولكنه ما لبث أن سمع صوت نشيجها وتأوهاتها يأتيه عبر أسلاك الهاتف فانتشى...‏

    -إنه.. إذن لم يضع وقته..‏

    شبت النيران في جسدها -وهي تصغي إلى صوت ماض.. يستعذب آلامها- وامتدت ألسنتها إلى جوارحها فاحرقتها..‏

    وتساءلت: أأبكي وهو يضحك؟..‏

    خرجت التنهدات من صدرها متتابعة كطفل تلقى صفعات من أمّه.. ونام باكياً.. ثم استيقظ من رقاده.. وما زالت الدموع محتبسة في عينيه.. والنشيج يتردد في عروقه.‏

    الهجمة كانت قوية وصاعقة.. لم تتح لها وقتاً للتفكير.. لقد جردها من أوسمتها.. وحرمها من المنصب الرفيع الذي وصلت إليه بعد جهد جهيد.‏

    أحست في تلك اللحظات العصيبة بالحاجة للمسة حنان.. تتركها عليها يد ناعمة.. ليرتاح رأسها المتعب.‏

    وحين أنهى المكالمة.. استسلمت لآهاتها.. مدفوعة بإحساسها بالضعف، وعدم القدرة على الوقوف في وجه من ظلمها.. لأنه كان يملك كل شيء، ولا تملك هي شيئاً.. وكان منصبه أكبر الأسلحة التي يمتلكها.‏

    تذكرت وهي مستلقية على سريرها في تلك الليلة الباردة كيف أنقذت نفسها من الألم الممض.. بأن تناولت وعلى دفعات حبات كثيرة من الأسبرين.. لتنقذ نفسها من الموت بالجلطة أو بارتفاع ضغط الدم..‏

    شريط طويل من الذكريات.. دفعها من جديد للتساؤل.. ولكن لماذا أراد أن يوصلني إلى هذه الحال؟. هل هو التشفي؟ أم هل هو الانتقام؟.‏

    غرقت في ظلام الغرفة الواسعة. مصغية لصوت الصمت من حولها.. مما زاد إحساسها بتلك الهجمة التي مضى عليها سنوات وما زالت تعاني من نتائجها.. لقد أخذ منها كل شيء.. وقتل كل ما حققته من نجاحات.‏

    سيل عارم جرفها، وأغرقها في طوفان من المشاعر المتباينة والمتضاربة، التي تناوبت على رأسها كمطرقة الحداد وهو يسوي أطراف الحديد المنصهر.‏

    حاولت -هبة الله- من جديد، أن تلملم شتات فكرها، ولكنها أحست بالفشل فقد باتت بعد كل هذه السنين لا تستطيع أن تميز بين رأسها وقدميها.. وربما استقر الفكر الصحيح في حذائها المرمي بإهمال إلى جانب السرير الغارق في الظلام.‏

    تلاشى النوم من عينيها.. ولاحت لها سحنته القاسية، وعيناه الممتلئتان بالشماتة.‏

    كان سعدي الحداد قصيرا وممتلئاً.. يميل لون بشرته إلى الشقرة الداكنة المشبعة بلون الشبق.‏

    وكانت هي حلوة وناعمة.. وأجمل ما فيها كان انتصاب قامتها ورأسها المرفوع بكبرياء.‏

    مشيتها القوية والراسخة، دفعت بسعدي الحداد إلى الجنون.‏

    لذا أمسك بيده مقصاً حاداً، وقص به طموحاتها، ورماها مهيضة الجناح لا تقوى على التحليق.. وهي ترى الفضاء ممتداً أمامها، يدعوها للانطلاق.‏

    لم يكتف بذلك، بل هدر دمها، وعفر وجهها وعنقها ورأسها.. انتفضت كالملسوعة أمام ضحكاته التي ملأت الكون من حولها.. أطلّ عليها بنظراته المذبذبة.. فدب الرعب في قلبها.. قطرات عرق بارد غطت جبينها، وتحت إبطيها.. فكادت تنسى برد كانون وثلج كانون.‏

    وهي تتأمل حركته الأفعوانية.. وهو يروح ويجيء أمامها ليسرق منها معنى الأمان.‏

    صرخت.. وكأنها نسيت أنها وحيدة في غرفتها.. والبيت غارق في السكون..‏

    تلوت في سريرها.. وكأن ما حدث في الأمس البعيد قد عاودها الآن.. لم تملك وقتها حق الاعتراض.. فاستسلمت لمصيرها.. مسحت دموعاً انهمرت بغزارة على وجنتيها السمراوين.. ثم لم تعد تدري من واقعها شيئاً.. وكأن النوم قد أخذها إلى حلم غريب.. وقفت فيه شامخة فوق بقعة من الأرض يكسوها الغرين.. التصقت قدماها بالوحول.. كانت عارية تماماً إلا من ملابسها الداخلية.. ولم تكن تخشى عريها..‏

    تسمرت في مكانها.. والرياح تهب من كل جانب.. ولا تنجح في زحزحتها.. وكأنها ملت من مقارعتها.‏

    كان سعدي الحداد، يقف قريباً منها.. وهي لا تراه..‏

    تأملت صفحة السماء المغطاة بسحب ممطرة.. فاشرأب عنقها.. ولكنها تذكرت فجأة أنها مقصوصة الجناح ومثبتة في هذه البقعة الصغيرة من الأرض.. قربها، وقفت جماعة من النساء.. وقد التففن التفافاً يسمح لهن بالثرثرة.‏

    تأملت وجوههن، فوجدتها خالية من التعابير.. شفاههن كانت تتحرك حركة آلية.. ووصلت إلى سمعها مقاطع تحمل من الشماتة والاتهامات الشيء الكثير.‏

    تأملتهن.. وحدقت باستغراب إلى عيونهن وأفواههن فملأتها الدهشة..‏

    عرفتهن جميعاً.. كن قبل أيام معدودات صديقات لها.. يبتسمن في وجهها، فما الذي حدث يا ترى؟ وما الذي غيرهن إلى هذه الدرجة.‏

    عاشت هبة مع تلك المرأة القصيرة والممتلئة سنوات طويلة.. أما هذه الناحلة، التي يكسو الشحوب وجهها.. والتي تزم شفتيها وتضغط عليهما بلؤمْ شديد.. فكانت أقرب صديقة لها.. وكم حدثتها عن همومها.. فوجدت لديها السلوى.‏

    أكانت تستر قلبها الأسود وصدرها الممتلئ بالأحقاد تحت ثيابها الجميلة والبراقة؟.. فقد ورثت عن زوجها الشهيد أموالاً كثيرة ثم تزوجت بشاب يصغرها بسنوات عديدة.‏

    أما البقية الباقية من النسوة، فكن يكلن المديح لها كلما قابلنها.. ويتشدقن باسمها.. لماذا انقلبن فجأة إلى كومة من صبار.. أو إلى حفنة من الأعشاب الضارة التي إذا اقتلعت من التربة نما الزرع نمواً أفضل..‏

    أصغت إلى سيل الاتهامات وهو يخرج من أفواههن.. انقلبت دون أن تدري إلى تمثال من الدهشة.. فغرت فمها، وفتحت عينيها على سعتهما.. وهي تتأمل تلك المجموعة من النساء.. اللواتي انقلبن إلى أفواه واسعة الأشداق.‏

    نظرت النساء إليها بشماتة غريبة، وفي عيونهن ارتسمت ردود فعل سلبية وهن يصغين بانتباه شديد لحديث المرأتين الثرثارتين القصيرة الممتلئة، والنحيلة الشاحبة.‏

    أحست هبة بألم واخز.. وهي مثبتة في مكانها، لا تستطيع أن تبارحه. في منحدر قريب، وقف عدد من الرجال.. وحين نظرت هبة إليهم عرفتهم وميزتهم.. نظراتهم إليها اختلفت قليلاً عن نظرات النسوة.. فبعضهم كان يتأملها بأسى وحزن شديدين وكأنه لا يصدق ما قيل عنها.‏

    وبعضهم شارك النساء شماتتهن. فظهر الكره والحقد على وجهه.‏

    انتظرت.. علّها تسمع كلمة رحمة.. ولكن واحداً لم يتجرأ على النطق بعبارة تعيد الثقة إلى نفسها.‏

    انهالت عليها الاتهامات المارقة.. فازداد إحساسها بالظلم.. فهي متهمة بجرائم لم ترتكبها.‏

    علقت نظراتها بالرجال والنساء في آن معاً.. وفي ناظريها ارتسمت تساؤلات كثيرة.‏

    علا صوت قوي وحاد يقول لها بغضب شديد:‏

    -اصمتي.. كفاك ثرثرة، وتفاخراً بنفسك.. كفاك حكمة.. أما مللت من تقديم النصائح؟!‏

    كان هذا الصوت صوت سعدي الحداد.. وقد انتصب أمامها ناعما ملسا.. بوجهه الوسيم ذي النظرات الصفراء.. فذكرها بثعلب كانت قد رأته في حديقة الحيوانات. وطغت على سطح ذاكرتها صورة تلك الفتاة المراهقة.. التي وقعت في شراكه.. بعد أن أمّلها بأشياء كثيرة.. وأغرقها في محيطات من كلمات الحب البراقة.. فسحرها.. وحين حذرتها هبة منه.. استشاط غضباً.. فقد اعتبر عملها تدخلاً في شؤونه الخاصة.‏

    ولما زادت هبة في تحذيرها للفتاة.. التي كانت تنقل إليه تفاصيل الحوارات الطويلة التي حدثت بينهما.. اتخذ قراراً...‏

    لقد عرفت الآن فقط ذنبها.. إنها النصيحة.. قدمتها لفتاة من قريباتها.. وها هي ذي تلقى العقوبة.‏

    رفعت ذراعيها إلى السماء معاهدة إيّاها بأنها إذا ما شاهدت إنساناً يندفع إلى التيار.. فإنها ستعمل على إغراقه.‏

    توقفت عربة صغيرة يجرها حصانان، أمسكها شخص مجهول من يدها وأجلسها بين امرأتين.. كان المكان ضيقاً جداً ولكنها لم تتذمر.. فالصفعة ما زالت قوية.. وما أن سارت قليلاً حتى بكت السماء مطراً أسود مشبعاً بالسخام..‏

    خرجت امرأة من الحمام بعد أن اغتسلت وكان الماء ما زال عالقاً بشعرها الأسود الطويل، وهي عارية تماماً.. نظرت هبة إلى ورقة التوت وأدركت أنها الفضيحة.. وأن الأمر معها لن يكون سهلاً.‏

    عانقت حبيبها عناقاً حاراً فذابت في النشوة..‏

    ظهرت بقعة من النور أمامها.. فصرخت قائلة: أنا ظلمت يا الله.. سجدت وهي تبكي.. جاء إنسان مهيب الطلعة وقال لها:‏

    انهضي.. قفي على قدميك بقوة.. لا تركعي.. وكانت إشاراته لا تحمل أي لبس.‏

    نادت بيأس شديد.. لا.. لن أنهض قبل أن يعود حقي، ارتفعت سبابة، ووضعت على فمها وكأن صاحبها يقول لها:‏

    -اصمتي الآن.. حقك سوف يعود لك.‏

    أخذها الرجل بين ذراعيه، وضمها إلى صدره ضمة مشبعة بالحنان.. عانقها في صمت جليل.. قبل وجنتيها.. ومسح جبينها ثم مشطت أصابعه الطويلة والنحيلة شعرها القصير...‏

    قالت القصيرة والممتلئة: إن نظراتها إلي كانت تزيد من إحساسي بقصري.. فحين تقف أمامي أحس بالتلاشي ويذهب طولي في عرضي.. فأبتعد عنها وجلة خائفة.. لذا لن يريحني سوى رؤية خنجر مسموم يغرز في جنبها.‏

    وقالت الناحلة الصفراء الشاحبة: أنا لا أرتاح إليها.. ولا أود رؤيتها. تبدو صادقة وفجة وأنا لا أحب هذا النوع من النساء.‏

    وقال رجل مهووس: إنها لجميلة وجذابة.. انتظرت سقوطها طويلاً فلم تسقط.. ولم أتمتع بساعات هنيئة معها..‏

    جاء الرجل الطيب من جديد.. مسح دموعها.. ثم ابتعد عنها وهو يودعها بابتسامة حلوة..‏

    غرقت بين جمهرة من البشر.. كانوا يبتسمون لها.. سعدي الحداد.. ابتسم أيضاً في وجهها ابتسامة أدهشتها.. بدت أسنانه قوية وقاطعة.‏

    هتفت هبة: أمن جديد أراه أمامي؟ وبمثل هذه البساطة؟ أخذها جانباً وقال لها وهو يتخذ صورة الغباء:‏

    -أرضي عنك الآخّرون؟..‏

    اعتذر بشدة.. وانهمرت دموعها.. وكم كانت دهشتها كبيرة، حين لم تحس بتلك الدموع تحرق جفنيها.. بل كانت باردة كبلسم شفت به تقرحات ناظريها.‏

    وعندما فتحت عينيها.. تسللت إليهما أشعة شمس الصباح.. التي داعبت وجهها بلطف.. فأحست براحة عجيبة.. تمطت في سريرها متكاسلة ومتراخية.. وكأن حقها قد عاد لها.‏

    ولم تدر هي نفسها.. كيف نسيت بتسامح غريب عبث الآخرين بها

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()