بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:48:49 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1508 0


    ستالايت

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جمال جنيد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة ستالايت جمال جنيد

    ظهراً.. تفتت الراتب إلى شظايا. كنت قد عزمت منذ بداية الشهر على شراء حذاء شعبي، لكنني لم أمشِ خطوة خارج البيت، إلا وتبخرت أحلامي في حذاء يقي قدميَّ تراب الشوارع ومياهها الآسنة.‏

    نظرت إلى زوجتي ضئيلة الجمال والجسم، والتي لم أستطع أن أحوز غيرها، لضيق ذات اليد، وإلى أولادي الخمسة الذين يقفزون على الأثاث القديم مثل قرود إفريقية.‏

    فهمت نظرتي، تحركت شفتاها الغليظتان:‏

    -معلش يا علي... ستشتري حذاءك الشهر القادم!....‏

    أدرت وجهي...‏

    تناولت سترتي القديمة عن المشجب الكالح، وألقيت نظرة بانورامية على الغرفة الوحيدة المستأجرة. والتي دخلت بسببها مع مالكها إلى مخفر الشرطة أكثر من عشر مرات...‏

    مسحت نظرتي زوجتي وأولادي، وابتلعت رضابي المر.‏

    طالعتني الصورة المتآكلة لأبي، احترت ماذا أفعل... الآن، وفي المستقبل، توقفت، جلست، ثم نهضت.‏

    سرت نحو الباب، ودون أن أتكلم بكلمة، مشيت دون هدف، فارغ الجيوب كما خلقتني أمي..‏

    قبل ساعتين كنت أمشي لهدف، بعد أن سكن الراتب الكسيح جيبي مسافة الطريق، فقط. بين المدرسة والبيت..‏

    -علي.. يا علي!.‏

    صحوت من حلم مزعج على صوت أعرفه..‏

    نظرت خلفي..‏

    كان الأستاذ (رياض) أستاذ الرياضيات، في المدرسة التي أعمل فيها...‏

    توقفت..‏

    اقترب مني بكرشه، ودفتره الباهت الذي لا يفارق إبطه، وياقة قميصه المتسخة...‏

    -ماذا تفعل هنا؟!..‏

    -سألني لا هثاً!..‏

    -أتمشى.. دون هدف.. وأنت؟!..‏

    -عندي طالب وطالبة بكالوريا في تلك البناية!..‏

    وأشار إلى بناية مدّت طولها في الفضاء الباهت. ومن سطحها أطلت صحون بيضاء تفتح فمها للفضاء.‏

    توقف الأستاذ رياض، ينظر إليَّ تارة، وإلى البناية المرتفعة تارة أخرى.. ثم مشى مبتعداً، بعد أن رفع يده محيياً..‏

    قطعت الشارع ببطء، لم أكن أعرف أن هناك شارعاً جانبياً، ستطل منه سيارة (دايو) بيضاء جديدة، بدت لي عزرائيل يلبس عباءة بيضاء.‏

    جاء ليستل روحي ويخلصني من تعاستي..‏

    عندئذ..‏

    توقفت وسط الشارع مستسلماً لقدري، بدت اللحظات عمراً كاملاً، اقتربت السيارة واقتربت. أغمضت عينيَّ كي لا أرى موتي..‏

    وبعنف، توقفت السيارة مصدرة عجلاتها صوتاً كالعويل.. على بعد خطوة واحدة مني..‏

    سمعت الباب يفتح..‏

    وقع خطوات حذاء جديد على بلاط الرصيف. تقترب مني. قبل أن أفتح عَيْنيَّ، وأنظر إلى عينيَّ الرجل المحدق بي..‏

    كان وجهاً مألوفاً، لفحتني حرارة أنفاسه، وهو يسألني:‏

    -هل أصابك مكروه؟!.‏

    -يا ليت!.‏

    خرج التمني مني بيأس..‏

    -انهض!...‏

    ولم أكن أنهض إلا وبدت دهشة تمثلت بلفظ لم يكلمه...‏

    -أنت!...‏

    سبقته..‏

    -أسامة.. أنت أسامة!..‏

    بلا مقدمات، احتضني كأنني طفله الصغير..‏

    -تعال.. تعال!..‏

    وساقني إلى الحمامة البيضاء، وحين دخلتها انتقلت إلى عالم رخي ومخملي..‏

    جلس صديقي القديم خلف عجلة القيادة، وانطلق كالريح..‏

    -لابدَّ أنك وجدت كنزاً!.‏

    ضحك أسامة عن أسنان بيضاء، قائلاً:‏

    -عهد الكنوز ولَّى. سافرت. وجمعت ثروة، ومنذ شهرين عدت!..‏

    قلت:‏

    -اختصار الحياة!..‏

    أذكر الغرفة التي سكنّاها سوياً، بعد خروجنا من قريتنا الخضراء، إلى المدينة الإسمنتية، بعد نيلنا الثانوية العامة..‏

    كانت أسامة يتحرَّق شوقاً للسفر، ويحثني عليه.. أما أنا فلم أعرا لأمر بالاً!..‏

    -مدة طويلة لم أرك فيها!..‏

    -عشرون سنة!..‏

    -كأنها أيام!..‏

    -هذه هي الحياة!..‏

    توقفت السيارة أمام فيلا من حجر أبيض. على سطحها صحن أبيض مقعَّر يفغر فاه نحو الفضاء..‏

    -انزل.. وصلنا!..‏

    حين دخلت الصالون الفسيح، تلمست أثاثاً وبلاطاً وكريستالاً من عالم آخر. تلمست حُلماً، تلمست خيالاً محموماً..‏

    انفردت أعضاء جسم أسامة على أريكة واسعة. قطعة قطعة... بعد أن وضع مفاتيح الحمامة البيضاء على طرابيزة مذهبة..‏

    قال:‏

    -هه... أين أنت يا رجل؟!..‏

    -أنا تحت.. تحت بكثير!..‏

    -ماذا؟!.‏

    -أنت فوق.. وأنا تحت!..‏

    -أنا سافرت!.‏

    -وأنا لم أتجاوز حدود مدينتي!..‏

    نهض أسامة، غاب خلف ستارة حريرية. ظهر خادم يحمل صحون الطعام الفضية والمذهبة، وضعها على طاولة طعام تتسع لحارة بأكملها..‏

    -تفضل!.‏

    أكلت دسماً لم أتناوله منذ أشهر.. وشربت شاياً وعصيراً وقهوة..‏

    -ماذا تعمل هناك؟!.‏

    -أعمل هناك كما تعمل أنت هنا.... موظف بسيط.. أعلّم الأطفال اللغة والأخلاق!..‏

    رددت الكلمة الأخيرة..‏

    -أخلاق..‏

    -لم أصدقه..‏

    نظرت إلى عينيه. كانتا باهتتين، لا تحملان أي معنى..‏

    -ألم تنسني؟!..‏

    -ماذا لو صدمتك ومت!..‏

    -سيان... أنا ميت!..‏

    نهض أسامة.. أمسك بعلبة سوداء تشبه علبة كبريت كبيرة، ضغط على زر فيها، وهو يقول:‏

    -أتريد أن ترى أمريكا.. إنها أمامك!..‏

    رأيت نساءً كالحليب بالمايوهات. شطآن من أحلام، رمال من ذهب، بدلات، ربطات عنق فاخرة، أيدز، عطور، دماء، شعور مصقولة، وجوه حليقة. ومبان من زجاج ورخام، وأحذية لمّاعة..‏

    تذكرت حذائي الشعبي الذي لم أستطع شراءه..‏

    -إيطاليا على الخطّ!‏

    زلزال آخر من الأحلام..‏

    ضغط على زر آخر...‏

    ظهر (هنتر) في مسلسله البوليسي وهو يصطاد، ببرودة أعصاب، رجلاً من أعلى بناية، ليسقط مصطدماً رأسه الأرض.. في أخبار أوروبا، عجوز من البوسنة، وعجوز من فلسطين. يأكل الحزن وجهيهما، ينظران إلى بيتهما المحترق والمتهدم، ورجل آخر يعانق ابنه الذي غاب عنه طويلاً، عمر بأكمله، عبر حائط أو سلك شائك كأنه نهاية الدنيا...‏

    عروض أزياء لنساء صُبَّت من بلاستيك..‏

    دبابات تقصف القرى، طائرات أمريكية تصعد وتهبط من حافلات طائرات على شكل الغول...‏

    فوضى من الأشكال والألوان والأجساد واللغات.. فوضى العالم المرتّب، وترتيب العالم الفوضوي.. دماء وشرور، ودمار وقوة وجنس... و...‏

    أظلمت الشاشة الفضائية فجأة، اختفى العالم كما ظهر. وضع أسامة جهاز علبة الكبريت على ظهر التلفاز، ونظر إلى ساعته متثائباً.‏

    -الساعة الثانية‍ ليلاً.‏

    -سرقنا الوقت!.‏

    -بل قل سرقتك أجساد النساء!..‏

    خطوت نحو الباب، شعرت أنه سيتناول عن الطرابيزة المذهبة الزجاجية مفاتيح الحمامة البيضاء، ويقول لي:‏

    -سأوصلك!..‏

    لكنني بالمقابل سمعته يقول:‏

    -علي.. أغلق الباب خلفك.. سأراك!..‏

    وتمطّى متثائباً مرة أخرى على كرسيه الوثير.‏

    بدا هواء الفجر المبكّر ندياً، لم أكن أدري أين أنا..‏

    لم أنم تلك الليلة..‏

    تمرغت نساء العالم الجميلات بالطين، داس الأطفال على الدبابات، تحركت الجثث، في شوارع المدينة بعد أن دبَّت الأرواح فيها، وتعلقت طائرات كالوطاويط على أغصان الأشجار..‏

    صباحاً..‏

    أخذت النار تأكل داخلي، سقط كأس الشاي من يدي في غرفة المعلمين، وبخني المدير على التلكؤ للدخول إلى الحصة، سقطت على الأرض حين دفعني أحد الطلاب، جلست، أخذت الصور تتالى أمامي..‏

    نساء، حاملات، طائرات، جثث، قصور، جواسيس، فنادق، سباقات، كرة قدم، مصانع، شطآن، موائد عامرة...‏

    أخبرت المدير بمرضي، أعطاني، إذناً إدارياً، خرجت إلى الشمس، واتجهت أبحث عن الشارع الذي وجدني فيه صديقي أسامة، مشيت تحت الشمس، بحثت عن الصحن المستدير، الفاغر الفم النحو الفضاء...‏

    قال لي: "محطات العالم تفتح ليلاً نهاراً.."..‏

    لايكلون ولا يملون.. دائماً متهيؤون، أنيقون، متحفزون، جميلون...‏

    بحثت وبحثت، أخذت حرارة الشمس أيار تصدع رأسي، وقفت أسترد أنفاسي، وإذا بصحن أبيض يطل من فوق بناية. ركضت كالمجنون، طرقت أبوابها، لم يعرفني أحد. ولم أتعرّف على أحد...‏

    خرجت..‏

    لم أشعر بالجوع، جوعي كان أن أرى مالم أره في حياتي كلها. وقد رأيته بلحظات. تلك اللحظات هي كل شيء. أرى وأحلم. وأنا على كرسي وثير.. غربت الشمس وأنا أسير..‏

    تمطى القمر في السماء وأنا أبحث...‏

    أخذت الشوارع تخلو. وأنا أترنح من رصيف إلى آخر..‏

    صرخت في شارع فارغ:‏

    -ستالايت!‏

    وعاد الصدى باهتاً.. أجوف...‏

    تمددت على كرسي في حديقة عامة، نمت قليلاً، رأيت في الحُلم أنني أرقص مع النساء، البارعات الجمال. ألبس أرقى الأزياء، أدخن أفخر التبوغ، آكل أشهى الأطعمة. ثم أدخل قصري المتلألئ بالأضواء، كملك الحكايا، تستقبلني زوجة شقراء، أتجه معها إلى فراش واسع وثير....‏

    نهضت...‏

    مخدر الجسم، حين لسعتني برودة المساء..‏

    كررت المحاولة. في اليوم التالي....‏

    سرت في شارع طويل. فإذا أنا خارج المدينة. على الطريق الدولي، أمامي فضاء واسع، أبحث فيه عن الأقمار الصناعية...

    كلمات مفتاحية  :
    قصة ستالايت جمال جنيد

    تعليقات الزوار ()