- لا.. النمرة غلط.
- شكراً.
بعد أن قالت " النمرة غلط".. أحسّ في صوتها دفئاً غريباً، ملمساً مخمليّاً، ودافعاً قويّاً يحثّه على الحديث معها، ثانية، وثالثة، ورابعة، وعاشرة... ثمّ كان ما كان.
ففي كلّ مساء، وبعد أن يسكن الليل، وتغفو عيون الورى، يسكب في أذنيها عبر سمّاعة الهاتف عواطف مضمّخة بالنشوة، فتتسرّب خلال الأسلاك كأنّها الشلال يترنمّ بأنشودة الأزل. وعندما تكتنز العتمة،ويجادل النعاس الأجفان، تهبه سحر نبراتها، فيسكر عن بعد، ويصغي إلى التي لم يلمحها بعد.. لكنّه رسم لها صورة غارقة في الجمال، وإهاباً مترعاً، وطرفاً كحيلاً، ومشية كالغزال.. وصاغت له من عالم الخيال شكلاً يشابه فرسان الأحلام.. شهامة، ووسامة، ورجولة، فيبدوان قريبين أحدهما من الآخر، كأنهما يتلامسان.
قال لها:
- متى سنلتقي ؟
- في الأوّل من نيسان.. مارأيك؟
- لكنّ الناس يعتبرون هذا اليوم فرصة للكذب.
- ليس المقصود.
- أخاف أن يكون حبّنا كذبّة.
- لاتخف.
- قد لا أعجبكِ.
- وقد لا أعجبكَ.
ضحكا مليّاً، كما تعوّدا أن ينهيا حديثهما.. وغفا كلّ منهما على زند ضحكة الآخر، وهما يحلمان بغد يطيران إليه على جناح وردة.
قبل موعد اللقاء بيوم، وقبل أن يطوي الماضي آخر أوراقه، راح يخاطبها بالتلميح، وبالتصريح، بأنّه ينتظر الآتي بفارغ الصبر، يهادنه، يسايره، علّه يعجل بالمجئ.
- ولكن.. كيف ستعرفني.. وكيف سأعرفك؟..
- ارتدي ثوباً أزرق بلون البحر، فأنا أحبُّ الأزرق وسأحمل بيدي قرنفلة حمراء.
- وأين سيكون الملتقى؟
- عند حديقة " المحبّة"، في تمام السّابعة مساءً... موافقة؟..
- موافقة.
" سألبس ثوباً أزرق.. أزرق.. أزرق..."
طارت كفراشة.. رقصت.. غنّت، ونسيت كلّ شيء ما عدا الغد.
في فسحة الوقت الموعود، وقبل الساعة المتّفقّ عليها ببرهة، نهضت إلى خزانتها العامرة، قلّبت ما فيها تريد الرداء الذي طلب..
اكتشفت أنّها لاتملك ثوباً بهذا اللون.. ارتبكت.. انزعجت:
" ماذا سأفعل؟.. كيف سأتصرّف؟.."
اتصلت بصديقتها " منى" سألتها على عجل:
- ألو.. منى.. هل لديك" فستان" أزرق؟..
-لا... لماذا؟...
لم تجب.. أغلقت السّماعة على الفور.. فاللحظات حاسمة، ولا تحتمل الأخذ والردّ.
آلمها الموقف، حزّفي نفسها. اتصلت به لتقول له أن يغيّر رأيه في اللون الذي اختاره، فلم تجده..
احتارت بأمرها.. لكنّها سرعان ما مسحت الموضوع فارتدت ثوباً قرمزيّاً، ثمّ فتحت باب الدار وخرجت.
في الطريق إليها.. تذّكر أيضاً أنهّ لم يأت بالقرنفلة الحمراء. شعر بحزن كثيف يتوسّد أعماقه:
- ما الذي أصابني؟. وكيف نسيت؟
فتش هنا وهناك يطلب النجدة. هداه تفكيره إلى قطف زهرة- لاعلى التعيين- من إحدى الجزر الصغيرة المزروعة وسط الشارع المؤدّي إلى مكان الموعد... وما أن مدّ أصابعه إليها، حتىّ جاءته صرخة الحارس قويّة مؤنبّة:
- ابتعد.. ابتعد..
رجع وجلاً، وهو يتلفّت كأنّه الطفل الحيران..
فلم يعد في جعبة الوقت أي مجال. لقد شارفت الساعة على السابعة، وهاهما يجدان نفسيهما قرب بوّابة الحديقة المختارة.
ويالضحكة الزمن يفترّ عن ثغر منضّد اللآلئ.
ويالفرحة الرجل الذي تيّمه الصوت، فغدت أذنه من العاشقات.
ويالبهجة المرأة تستنشق من المدى فوح من أحبّت، وتشعر بوجوده قبل أن تفئ إلى عينيه.. فقد ازدادت شوقاً، واترع صبابة.
اندفع نحوها..
اندفعت نحوه..
قال:
- أهلاً فاتن.
ردّت:
- أهلاً أسامة.
دخلا الحديقة، وفي قلبيهما إحساس فيّاض بالحب يقول:
" لقد عرفنا بعضنا..
دون فساتين زرق،
دون قرنفل أحمر."