وعندما كان يتمدد، إلى جوار الحائط الشرقي للدار، يغمض عينيه، ولا يعير انتباهاً لأي كائن، وكان هذا الأمر يثير، غضب أخيه الكبير، الذي يحاول عبثاً، جره إلى داخل الدار. غير أن يحيى، كان يرفض كل، تلك المحاولات.
ذات مرة، صرّح للعجوز سلمى: "أنه ينبسط كثيراً، من هذه الاسترخاءة، وأنه حالما يغمض عينيه، يتخيل نفسه مسافراً إلى سمخ. وأنه بلحظة واحدة، يتخيل نفسه يقف أمام، الكرنتينا وشجر الكينا والمدرسة الابتدائية. وأنه وهو مغمض العينين، يفتح الخرائط من جديد، خرائط البلاد ويبسطها أمامه".
مرة أخرى، قال للعجوز سلمى، وهو يتباسط معها، في حديث الذكريات، انه يرى شاطىء بحيرة طبريا، في تلك الاسترخاءة، ينبسط ويرتمي أمامه، وأنه كثيراً ما يحبس الصرخة، كيلا تصطدم قدماه، بأمواج البحيرة التي تبدو له، وأنه يكاد يحرّك قدميه، ويخوض في مياه الشاطىء، وسط السابحات والسابحين.
مرة ثالثة، قال للعجوز سلمى، وعمق صوته رنة أسى وحزن عميق: "ضاع كل شيء" وان الدمع لا يخنقه الآن إلا لأن الحياة لم تصر بعد حياة. أين هي روائح الرشاد من فيق وكفر حارب؟".
مرات كثيرة، وهو يترك نفسه للاسترخاءة، يتذكر طلقات الرصاص، تدوَّي في الفضاء. هو يعي أنه، ألقى بالبندقية، بعد أن أحس، بوخزة حادة في خاصرته اليسرى. ويذكر أنهم حملوه، إلى داخل دار، وظلت عيون النساء، معلقة، به، والأطفال يقتربون منه. وجاء العم موسى بالقماش والماء الساخن وملقط حديدي. اقترب منه، قلب القميص إلى أعلى، كشف عن خاصرته، رأى مكان الرصاصة. غمس القماشة في الماء الساخن، ومسح بها الدم، ثم ضمّد الجرح لفترة. أدار وجهه نحو الحائط، يحس بالخدر يتحول إلى ألم، كان يعرف ما سيفعله العم موسى، الذي أمسك بالملقط من وسطه وثبت رأسه الحادة، على جانب الجرح، ضغط نحو الداخل، ودفع إلى أعلى، أخرج الرصاصة، فوق رأس الملقط. وجسد يحيى يهتز. لم يصرخ. رأت عيون النساء، صرخته المكتومة، وهو يعضّ على شفتيه، كان الأطفال ينظرون، إلى رعب عيني يحيى، كان العم موسى، يحشو حفرة الجرح، بالفلفل الأحمر، بعد أن جلب ملقطاً آخر، محمّى بالنار. وضع العم موسى، الملقط المحمي، على مكان الجرح. صرخ يحيى.. وبعد فترة، ضمد العم موسى الخاصرة بقماش نظيف، ثم أنزل القميص بعد، أن رأى الدم، يكاد يتوقف عن النزيف، ثم جلب رجل أسمر اللون، طويل القامة، طاسة مليئة بحساء.
قال العم موسى:
- اشرب!
- لا أقدر! قال يحيى.
- اشرب !حتى تعوض الدم، الذي ضاع!
- لا أريد أن أشرب.
- اشرب يا رجل! قال العم موسى بلهجة آمرة.
- قل لي، ما هو الوضع في الخارج؟ سأل يحيى.
- اطمئن. حاول أن تنام وترتاح. المعركة لصالحنا. لقد سقطت الثكنة بأيدي الشباب!
ذات صباح ربيعي مشمس، طلبت العجوز سلمى من يحيى أن يصحبها إلى الكنيسة في طرف القرية.
انطلقا، وكان هواء الصباح الرطب ، يصلهما ندياً ومتلامعاً. عبرا المقبرة، وعند الباب الشرقي للكنيسة استقبلهما راهب عجوز، مربوع القامة، لحيته البيضاء، تبعث على الطمأنينة رحب بهما، انحنت العجوز سلمى، تهم بتقبيل يده، قال:
"باركك الله يا ابنتي! وليكن المسيح معك".
ثم أخذهما، من درب جانبي، كانت صلبان القبور، الحجرية البيضاء، مبللة بآثار ندى الصباح، وكانت الأعشاب النامية، تغطي جزءاً من الأسماء المحفورة عليها.
اقتربت العجوز سلمى، من الراهب العجوز، الذي خففّ من سيره.. همست في أذنه:
-"أبونا! جئت بيحيى لتقرأ له"..
قال الراهب:
- "يا ابنتي قال المعلم.
"يا لعازر قم.. فأمامك الحياة...
الإله لا يحمي الجبناء، ولا يسكن في قلوب الهاربين. يا ابنتي! يحيى خاض تجربة شريفة.. وهو برىء، وليس مهبولاً، كما يقول بعض رعيتنا! سامحهم الله!".
ثم توجه نحو باب الكنيسة.. تبعته العجوز سلمى، ويحيى الذي لاذ بالصمت، وهو يتفرج على قبة الكنيسة، الضخمة تعكس الائتلاف البهي، بين المحدود واللامحدود، تشمخ وكأنها تطمح للوصول إلى السماء، ثم ما تلبث أن تشدها انحناءة الأحجار في القنطرة، أحجار تنحني بورع واستسلام، يفيض منها الجمال والهدوء.
داخل الكنيسة، كان السقف مرتفعاً وكان المصلوب، على صليبه الذهبي، في الوسط. وإيقونات العذراء والقديسين، تتوزع على الجدار الأمامي، والشموع مغروسة في رجل أجران تقوم على قوائم نحاسية لها مخالب أسود.
بعد خروجهما من الكنيسة، أثار فيه منظر الفلاحات اللواتي، كن يعدن، من الحقول القريبة، وهن محملات بأكياس الخبيزة، والبابونج، والرشاد، إحساساً جميلاً بالحياة، نساء يرتدين الملابس السوداء، الطويلة، والصبايا يتبادلن الهمسات، ويقرقرن بالضحكات، كعصافير الدوري، وهن يعبرن بالقرب، من العجوز سلمى ويحيى، ويتغامزن ووجوههن الموردة تنعكس عليها ظلال الأشجار.
وفي إحدى الحارات، كانت تنبعث شجارات عادية، والرجال يحاولون ألا يتدخلوا فيها، رغم كلمات السباب التي كانت تطلقها بعض النساء الواقفات أمام بيوتهن، أو مطلات برؤوسهن، من وراء الأبواب الخشبية المرصعة بالمسامير الكبيرة. وكان باعة الملح الأعراب يقودون حميرهم. وغجريان يعرضان الغرابيل للبيع.
كان يحيى يسير، إلى جانب العجوز سلمى، وبين الفترة والأخرى، يخرج لفافة تبغ من العلبة، يشعلها ويرتشف عميقاً، الدخان الذي مس قعر رئتيه.
جعرت به العجوز سلمى:
- "لا تدخّن قبل تناول الفطور"!
- "ماذا يهم الآن؟! إن المرء سيموت، في يوم ما، سواء دخّن أم لم يدخّن!".
قال يحيى مستهزئاً.
عندما عاد إلى الدار، شعر أنه بارد. حاول أن ينام، ولكنه لم يستطع. وكأن شيئاً في داخله يمنعه من النوم. كان قلقاً، شعر أن شيئاً غريباً يتحرك في قلبه، ويجعله يدق سريعاً، ويمنعه من الاسترخاء والنوم.
هاجمه هاجس مرير: "لماذا ترفضه فريزة؟ هو بكامل قواه العقلية وليس مهبولاً كما يقولون. لماذا؟" أحس بمرارة السؤال في أعماقه، ذلك السؤال الذي اكتسب ثقلاً، ويحس به يربض فوق روحه.
في كل مرة، كان يود مواجهتها، كان يشعر بالضعف، وتتحطم جرأته، أمام برودتها اللعينة. هو على يقين، بأنها تريده، ولكنها تدير معه، معركة يحس أن مواقعه، فيها ضعيفة ومكشوفة. لذلك فإنه يدور حولها، مستكيناً، معللاً النفس أنها لابد أن تقتنع بوجهة نظره. استراح لذلك الخاطر وهو يخوض عالم النوم.
أحس بألم شديد، في خاصرته اليسرى، مد أصابعه يتحسس مواقع الألم، فأحس من جديد بعمق الألم، رفع قميصه، ومد يده اليمنى، يتحسس مكان الألم، ولشد دهشته فقد لامست أصابعه شيئاً لزجاً، وعندما بسط يده كانت أصابعه مبللة بدم أحمر قانٍ.
ما أن أغلق، الحكيم أبو سعيد باب غرفة المعاينة، بناء على طلب يحيى، الذي اقتحم عليه لحظاته المبكرة في ذلك الصباح، وبعد أن استأذنه الجلوس، وقبل أن يقول أبو سعيد شيئاً مما يقتضيه موقف من مثل هذه المفاجآت، حتى بادره يحيى بكلام يقطر منه الحزن والخوف.. قال دون مقدمات:
- كان حلماً يا حكيم! حلم أغرب من الخيال.. كان كابوساً". وأُسقط في يد الحكيم، فقد كان يتوقع، كل شيء إلا أن يجيء هذا الصامت الأبدي، في صباح مبكر، لكي يحدثه عن حلم! أن يجيء ويحدثه عن تعسر ولادة امرأة، أو حتى بقرة، أمر مفهوم ومعقول! أما عن حلم! فتلك هي الغرابة! ضبط أعصابه، ثم تابع تحديقه إلى وجه يحيى، الذي عبرت سيماء وجهه سحابة ألم وتابع:
- "كنت قد وضعت رأسي على الوسادة لأنام. وكنت آنذاك، وكما يبدو، أمتلك عقلي، ولا أعرف كيف بدأت تتجمع الصور، أمام عينيّ، مجموعة من الجنود الصهاينة، مجموعة تقطر، أنيابها سماً، وهي في طريقها إليّ وأنا أحرس المستشفى، وكان عليّ أن أواجههم، بكل ما منحت من قوة، إلا أن مهاجماً واحداً، كان أسرعهم جميعاً ، وأقربهم إليّ. كان بحجم عجل، وفمه الواسع، المفتوح يتوعدني، وتربصت به، وما أن أصبح قريباً مني حتى وثبت عليه، بل انقضضت عليه، وبرشقة واحدة، كان يرتمي أمامي كثور ذبيح".
تنفس يحيى بعمق، وكان الحكيم مازال، يتابع كلامه، وهو يتطلع إلى وجهه، والحيرة تلبسه، ثم مد يحيى يده إلى خاصرته وتابع:
- "في لحظة، كان المهاجمون، جميعاً في طريقهم إليّ وقد أحاطوني من كل جهة، وجهاً لوجه، وفجأة انتشروا بسبب رمايات استهدفتهم وأوقعت بينهم خسائر عديدة، وبعد أن انجلى الموقف، وأنا ألهث لهاث، من تقطعت أنفاسه، تبينت أنه لم يبق أحد منهم، فقد قُتلوا جراء تلك الرمايات..
وأنا أزحف لاتخاذ موقع أفضل من موقعي السابق، أحسستُ وكأن سيخ نار، قد انغرز، في خاصرتي هنا.
وأشار يحيى، إلى خاصرته اليسرى، ثم تابع حديثه: "سمعت شيئاً يتحطم، كانت أضلاعي تتحطم، كقطع زجاج تدوسه بقدميك".
ثم صمت يحيى، وهو يتحسس خاصرته، والحكيم يحدق إلى وجهه، وقد علته دهشة، غير أن يحيى تابع:
- "إن الألم الذي يقودني إليك هو فوق ما أحتمل، ولو سمحت لأريتك، آثار الجرح".
ورفع يحيى أطراف قميصه، إلى أعلى وتابع:
- "انظر.. آه.. هنا".
وعندما ألقى الحكيم نظرة على خاصرة يحيى، تيقن أن شيئاً مما يتكلم عنه يحيى لا يبدو، لم يكن هناك، أي أثر لما يتكلم عنه، ورغم ذلك تحسس الحكيم، خاصرة يحيى وتوقفت، أنامله حيث أشار له.
عندما انصرف يحيى على أمل العودة من جديد لأخذ دواء، كان الحكيم أبو سعيد، يتحسس أصابعه.. وأحس أن شيئاً لزجاً كان يعلق برؤوس أنامله، وعندما بسط يده، بدت له أصابعه مبللة بدم أحمر قانٍ.