أيها الفرح مازلت نائياً.. كنا نراك في عيون الأطفال وغدائر النساء.. كنا نلمحك كل ربيع ونسمع صوتك في الهزيع الأخير من الليل.. لم غادرتنا وتركتنا على أرصفة الزمن الرديء؟
كان أبو العلاء يناجي مزق الغيوم المتناثرة.. ذيولها تفر مسرعة كأسماك مروّعة، ثم تتلاشى لتتكدس من جديد، فساءل نفسه: هل ستكون وابلاً أم ستمزقها الريح ثانية؟ لم يعد يدرك الحقيقة جيداً.. صديقه كان يقول له دائماً: الغيوم الداكنة لا توحي إلا بالمطر والمطر دموع الفرح..
ياله من غبي وساذج.. وغبي ساذج كل من يلهث وراء الفرح الكامن في الدموع..
ها هو يناديني بصوت عال.. ماذا يريد مني؟! كان لا يندبني إلا إلى المهام الصعبة..
فأية مهمة تنتظرني؟ كان كلما أرسلني إلى مكان ما يلامس برفق شريطيه المتهالكين على ساعده الضامر، فأبتسم لأوامره ابتسامة ساخرة ولا أراه يختلف كثيراً عن الذين يأمرون وينهون..
- أبا العلاء.. خذ سلاحك واجلب أبا السلاس.
وقف أبو العلاء بلا حراك.. القلب يخفق باضطراب، والهواجس تتجلى أشباحاً مخيفة.. نوع من التعب يثقل كاهله.. عيناه نصف مغمضتين.. بذل جهداً كبيراً ليفتح عينيه، وطاف بنظره في أرجاء المكان لكن رؤيته كانت مضطربة لم يميز بين البرهة الحاضرة وبين السابقة.. بين ما هو حلم وما هو حقيقة، وفجأة هزّه هزة قوية:
- أبا العلاء.. ألم تذهب بعد؟! هل أنت خائف؟؟ حسناً سأرسل معك أبا الفتح، وحذار أن يفلت منكما..
سار أبو العلاء متثاقلاً وأبو الفتح يتبعه، وأكثر من عشرين طفلاً يلهثون وراءهما حتى وصلا إلى بيت متصدع يرقد في أحضان مستنقع قذر..
الطرقات تهز الباب بعنف تقوض أحلام الصباح بهمجية.. القلب خريفي واجف، وأذيال الغيوم الممزقة مازالت تفر مسرعة إلى ملاذ متجهم..
بصق أبو العلاء على الباب القصديري المهترئ، وأخذ ينظف بعناية ماعلق بلباسه من أوساخ فانتابته نوبة سعال حادة لعن من جرائها الدخان وقضايا أخرى..
تملك سعدى الوجوم عندما فتحت الباب.. تأملها أبو العلاء مبتسماً..
كان عمرها بدراً.. في وجهها امتلاء ونضارة، وفي عينيها جمال هادئ وديع.. شفتاها المرتجفتان تصنعان دائرة للرغبة ينبثق منها شعاع هاتف بأكثر من سؤال.. تضع في عنقها عقداً من الخرز يضيء بشرتها النحاسية، وكان صدرها ممالك للنور والفراش، وتدخر في جسمها فاكهة لكل المواسم ودفئاً لليل الشتاء..
- صباح الخير يا سعدى.
- صباح النور.. تفضل..
- شكراً.. أبو السلاس موجود؟
- إنه نائم.
- أيقظيه على الفور.
- حرام عليكم.. اتقوا الله في عذابه..
- الأمر مهم يا سعدى.. أرجوك..
حدقت سعدى إلى عينيه طويلاً، وارتجفت ارتجافة مريعة.. همّ أبو العلاء بالحديث لكنها تراجعت مذعورة ثم أدارت له ظهرها وهرولت.
تأملت وجه زوجها.. كان يحلم ويئن.. دمعت عيناها، ولامست بطنها برفق، ورفعت يديها إلى السماء متضرعة.. يارب ارزقه الولد الصالح ولا تحرمه رؤيته.
جلست عند رأسه، ومسحت دموعه المنسابة من زوايا عينيه، وطبعت على جبينه قبلة.. فتح عينيه بتكاسل وابتسم..
- يا أبا السلاسل أسرع لقد تأخرنا.
ضحك صايل من هذه الكنية التي لازمته منذ أن تزوج سعدى، فهي الزوجة الثالثة لكن سعدى كانت تشتم كل الغرباء الذين يحولون الثاء سيناً.
- ماذا يريد مني أبو العلاء؟!
- هل ارتكبت إثماً يا صايل؟
- لا والله أبداً.
- إذن اذهب معه.
عباءة الصمت تجلل الطريق.. تنهد صايل بعمق، وسار معهما بصمت.. كان يدور في خلده أكثر من سؤال يدفعه إلى تقليب كل الأحجار ومناقشة حتى البديهيات لكنه الآن يهادن الصمت، ويدير وجهه إلى الناحية الأخرى كلما رأى شيئاً لا يعجبه.. تأمل خلسة أبا العلاء. رآه شارداً.. عيناه ترنوان بقلق إلى فلول الغيوم المهزومة من صراخ الريح.. تنحنح بهدوء وتمتم: أبا العلاء.. أبا العلاء..
- نعم.
- هل من تهمة جديدة؟
- ستعرف بعد قليل، فالقاضي ورئيس ديوان المحكمة مجتمعان الآن مع مدير الناحية.
- ماذا تقول؟
- أقول الحقيقة.
- ماذا يعني ذلك؟.
- ربما كانت دعوتك استكمالاً للتحقيق السابق.
- لا .. لا ..
صرخ صايل بعصبية، وقد امتقع وجهه، وتغير لونه، وشردت عيناه لدى سماعه كلمة تحقيق..
فالتحقيق في مخفر الناحية ضرب على الرجلين وسياط على الجسد.. إنه يتذكر جيداً كم مرة خضع للتحقيق، فآثار السياط تدمي نفسه وجسده.. تاه في دوامة من القلق.. تراءت له القضبان الحديدية كأنها حراب مسمومة تتغلغل في عظامه، والمجرمون الذين تكدسوا في زنزانته وحوشاً ضارية تود الانقضاض عليه كل هنيهة، ووقع أقدام السجان مطارق قوية تنهال بهمجية على رأسه وكل مشاعره وأحاسيسه..
شريط من الذكرى الأليمة مازالت بصماتها محفورة في ذاكرته.. لم يستطع نسيان الماضي ولا الآلام التي كابدتها نفسه أشهراً طويلة حتى تكشفت براءته.. كان يتمتم بأسى كلمات الاستغفار، ويزفر الآهات حرى.
تلفت أبو العلاء نحوه متسائلاً:
- أين كنت البارحة يا صايل؟
- أقسم لك بالله لم أغادر البيت منذ يومين.. ألا ترى رأسي؟ ونزع صايل غطاء رأسه بعصبية. تأمل أبو العلاء وجه صايل مشفقاً.. كانت جبهته متورمة ومزرقة..
- ما هذا ؟
- لقد وقعت على الرحى.
- لن يصدقوك يا صايل، ولن يكون التحقيق معك هذه المرة سهلاً.
***
عينا مدير الناحية تقدحان بالشرر تفيضان بالتساؤل، وقد زادها تورم جفنيه صرامة وبأساً.. لم يستطع صايل أن يطيل النظر فيهما لأنهما توحيان له بالتحقيق، فنكس رأسه محدقاً ببلاهة في نسيج سجادة مهترئة غطت معظم أرض الغرفة.. أخذ يعدّ ألوانها الباهتة بصعوبة، ويرنو بأسف إلى ما أصابها من تآكل.. لاحظ اقتراب قدمي الضابط نحوه.. كان حذاؤه الأسود يلمع بشدة، فانقبضت أنفاسه، وقبل أن يتمتم بالدعاء امتدت يد الضابط لترفع رأسه برفق:
- أصبحت تختفي هذه الأيام يا صايل!
- أقسم لك بالله يا سيدي لم أغادر البيت منذ يومين.
- وما هذه الكدمة التي على جبينك؟
- إنها السبب.. لقد وقعت على حافة الرحى حين انقطاع التيار الكهربائي، فخلّفت في رأسي دواراً غريباً.
- ومن يشهد على صحة كلامك؟
- الله يشهد وسعدى تشهد أيضاً.. أرجوك يا سيدي أن تصدقني.. لم أرتكب إثماً يغضب الله أو الحكومة...
وقف القاضي فجأة، وأصلح من وضع بنطاله العريض ليغطي كرشه المندلق، وأطلق تثاؤبة طويلة كشفت بوضوح أسنانه المهدمة، وأخرج من جيبه مظروفاً، وتقدم نحو صايل، ولامس بسبابته جبهته المتورمة قائلاً:
- أما زلتم تستخدمون الرحى يا صايل؟
- الرحى هي كل ما ورثته عن أمي لذلك اعتز بها، واعتبر كل مكروه يصيبني بسببها خيراً.
- بارك الله فيك.. لن يصيبك إن شاء الله إلا الخير.. خذ.
- ما هذا يا سيدي؟
- بعض المال لتستعين به على ضرورات الحياة.
- الله هو المستعان يا سيدي.
تنحنح رئيس الديوان بقوة، وقذف في جوف منديله كتلة من البلغم، ثم نظف شفتيه وذقنه بإتقان قائلاً: خذه يا صايل مكافأة لك كي تدلنا على موقع النبع.
- أدلكم على الموقع دون مكافأة.
صاح مدير الناحية غاضباً:
- خذ المال واذهب إلى بيتك، وتعال إلى هنا بعد نصف ساعة، وإياك أن تتأخر.
- لن أتأخر يا سيدي...
***
الرؤى تنسج للغيم أردية من سواد، وعواصف اللوعة تفتق القلب المضمد بالنزف.. يا نوارس الروح حوّمي في وجع الصحراء، واسكبي للريح حفنة من زبد وفيضاً من رجوم، فشمس من الأرجوان ستذوّب لسعدى حقول الغمام، وتكشف لها تلويحة اليمام..
الطريق طويلة تحف بها الأشواك، والصحراء فضاء رحب وسماء بلا نهاية..
جلس صايل بجانب السائق يشير له كل آونة إلى الطريق، ثم التفت إلى القاضي، وقال متنهداً:
- سيدي لم حكمت علي بالسجن وأنا بريء؟
- يا بني قلتها لك مراراً، إن وجود الصندوق في بيتك دليل إثبات.
- لكني أقسمت لك بالله ثلاثاً أنني بريء، وأن الصندوق وجدته مصادفة في فجوة الجبل.
- القضاء يا بني يحكم بالأدلة والقرائن.
تنحنح السائق وقال بعصبيته:
- كلكم تحلفون بالله كذباً ولولا العصا لما كشفت الجرائم..
أمسك صايل كتف السائق وهزه بقوة قائلاً:
- لكن صايل لا يحلف بالله كذباً.. أفهمت؟
تدخل القاضي ملاطفاً: اتركه يا صايل لئلا تعرض نفسك إلى تحقيق نحن شهوده..
ارتجف صايل، وحوّل بصره لتسرح الأحداق في حقول الحنطة والشعير ومناطق أخرى للرعي تنوس بأعشابها ونوارها، فهدأت أعصابه. تململ رئيس الديوان بعد لأي قائلاً:
- قل لي يا صايل لم تزوجت ثلاث مرات وأنت رجل فقير؟
- الزوجة الأولى يا سيدي هي ابنة عمي حبيبة قلبي لكنها للأسف الشديد لم تنجب لي ذرية، والثانية ابنة خالي نور عيني لم تنجب لي -سامحها الله- سوى البنات، فتزوجت الثالثة أملاً بولد يحمل اسمي ويساعدني على شقاء الدنيا.
- وهل أنجبت لك سعدى ذكوراً؟
- إنها حامل وأملي بالله كبير.
لم تغفل عينا صايل عن الطريق، فكان ينبه السائق من آونة لأخرى بإشارة من يده أو بلكزة من مرفقه..
تسلقت السيارة مرتفعاً خطراً اشرأبت له الأعناق، وهبطت بحذر إلى منحدر مريع أخمد الأنفاس.. الطريق صخري ضيق له نتوءات كالسكاكين، وفيه حفر كبيرة وصغيرة. على الجانب الأيسر منه هوّة عميقة جحظت لهولها عينا السائق الذي أمسك المقود بقوة وقد تصبب العرق غزيراً من وجهه اللحيم ورقبته الغليظة وهو يتمتم بقصار السور. أما القاضي ورئيس الديوان فقد تصلبت رقبتاهما وخرست الكلمات على شفاههما ..
- هل الطريق كله بهذه الخطورة يا صايل؟
- الطريق الذي نسلكه يا سيدي كحكم القضاء عندنا فكيف تراه؟.
عجب القاضي من جواب صايل، وأيقن أنه يغمز به، فابتسم قائلاً:
- وهل المسافة المتبقية إلى الموقع طويلة؟
- لا يا سيدي إنها بعد منحدرين خطرين
ذعر السائق وارتجفت أوصاله، فتلفت صايل إلى القاضي فرآه مغمض العينين، أما رئيس الديوان فكانت عيناه تتحركان يمنة ويسرة بهلع كأرنب مذعور..
السيارة تسير متمايلة متنقلة من مرتفع إلى منحدر، وهي في انحدارها أكثر خطراً منها في تسلقها، والسائق ملق انتباهه إلى كل صخرة أمامه واجف راجف.
تنفس الجميع الصعداء، وتمايلت الأعناق عندما بدا موقع النبع قريباً منهم.. بساط أخضر وخيام متناثرة عند أقدام جبل تنهمر المياه من ثناياه على جدول يعدو طليقاً في الوهاد.. خيول تهز أعرافها نشوة، وأغنام يثير ثغاؤها البهجة..
العيون ظمأى تنوس أمام فتنة الصحراء، والشفاه الرخوة تتدلى لتهزأ بالمحال..
لا سراب أمام الحقيقة، ولا رياح أمام هدأة النفوس.. ماؤك قراح أيها الوطن المصلوب، وترابك تبر وعسجد.. ها هي ذي الحقيقة غريبة نائية تحف بها المخاطر ويلفها السراب..
تلفت صايل قائلاً:
- أتصدق يا سيدي أننا في قلب البادية ؟
- قل في قلب الحقيقة يا بني.
- لكن الحقيقة غريبة يا سيدي
- الحقيقة لا تعرف الغربة إلا في زمن الضياع.
- لم أفهم ما تقوله يا سيدي؟
- ولن تفهم يا صايل مادمت تعيش الغربة مثل الكثيرين.
أشار صايل إلى السائق بسبابة مرتعشة نحو خيمة سباعية مشرعة..
-من صاحب هذه الخيمة يا صايل؟
- عارفة البادية وحكيمها الشيخ منديل يا سيدي..
- لم أسمع به أبداً
- ومن أين لك أن تسمع به وأنت تعيش الغربة؟
- بدأت تفهم يا صايل ما أقول
- الحب والأمل علماني أموراً كثيرة.
- وهل تأتي إليه كثيراً؟
- كلما ضاقت بي السبل.. إنه لا يرد سائلاً.
هلل الشيخ بالضيوف، وعانقهم بحرارة، وقال مستغرباً:
- لم جئت بهم يا صايل على هذا الطريق الخطر المهجور؟ أما تعرف الطريق الثاني؟
- أعرفه جيداً يا شيخ، وقد تعمدت السير بهم عليه ليعرفوا أنه لا ملجأ إلا إلى الله وليس إلى الأدلة والقرائن.
- ما هذا الذي تقوله يا صايل؟
- يا عماه.. حلفت لهم بالله ثلاثاً أنني بريء فلم يصدقوني وصدقوا الأدلة.
ضحك الجميع طويلاً، ثم ربت القاضي على كتف صايل قائلاً:
- سنصدقك بدون دليل شريطة ألا ترجعنا إلى الطريق نفسها.
كبّر صايل ثلاثاً، وأشهد الشيخ والحاضرين على كلام القاضي.
بعد جولة قام بها الحاضرون على الموقع لملم القاضي أوراقه، ونهض مودعاً، فاعترضه الشيخ قائلاً:
- والله لن يغادر أحدكم الموقع قبل أن تتناولوا غداءكم.
- أرجوك يا شيخ أن تسمح لنا فالطريق طويل.
- أقسمت بالله فهل بعد الله من شيء يا صايل؟
- القضاة يا شيخ لا يحكمون إلا بالأدلة والقرائن؟
ضحك الشيخ طويلاً، وقال: سنأتي لهم بعد قليل بالأدلة و(القرون) يا صايل ولن ندع للقضاة حجة.
الوقت يمر ثقيلاً كأنه كابوس يجثم على الصدور فيخمد الأنفاس.. العيون حيرى ذابلة أطفأ شعلتها وهج الظهيرة.. الحديث عن الغربة والحقيقة أرّق رأس صايل، فأخذ يخط بعصاه على الأرض خطوطاً لامعنى لها..
القلق أخذ يعبث بعيني الشيخ وهو يستطلع الأفق كل هنيهة، وكلما تقدم منه أحد ليهمس في أذنيه يرفع رأسه بعصبية رافضاً.
قبيل الغروب أكل الشيخ مع ضيوفه لقيمات مغموسة بالهم والحزن.. يصطنع الابتسامة وقلبه يتمزق.. الدماء هجرت وجهه اللحيم فبانت غضون وجهه نافرة، وارتجفت شفتاه الغليظتان.. قال عند وداع ضيوفه معتذراً: لقد خانت القرون دليلها هذه المرة ولكن يجب أن تعودوا ثانية.. عند أول منحدر توقفت السيارة فجأة.. فتح السائق الباب وهرول نحو مكان خفي وقد اعتصر كرشه بكلتا يديه.
بدا موقع النبع من أعلى المنحدر ساحراً وهو يغازل شمس الأصيل برقة وهيام.. نسائم الخريف تدغدغ الأجفان نشوة..
قال القاضي متنهداً: ليتني عرفت هذا المكان من قبل.. لكن سبابة صايل كانت تنتصب متشنجة وهو يشير ذاهلاً إلى خيمة الشيخ منديل..
- رباه!! ماذا حدث؟
كان تجمع الرجال يثير الدهشة، وتحلق النساء يبعث على القلق.. الأصوات أخذت تمزق السكون بهمجية لتمتزج بدماء شمس الأصيل المنهزمة أمام جحافل الظلام..
السيارة ترجع مجللة بالكآبة، والعيون ذاهلة حيرى، وعلى الشفاه أكثر من سؤال..
- ماذا حدث للشيخ؟ قالها القاضي لرجل آيب من الخيمة.
- وحيده قتل
- متى وكيف؟
- قتل منذ الظهيرة عندما أرسله والده ليجلب عدداً من خراف قطيعه غداء لضيوفه.. لقد كبا جواده، فدقت عنقه، ومات على الفور؟
-ولماذا لم يخبرنا بالحادث ونحن عنده؟
- كي لا يحرم نفسه شرف استضافتكم
- أمعقول هذا؟!
- أجل يا سيدي.. فأنت لا تعرف جيداً من هو الشيخ منديل..
الدوار يعصف بالرؤوس، والعيون منكسة ذاوية، والشفاه متهدلة راجفة..
هو الحزن وشم على الروح.. أرجوحة من أنين، وسحابة من ضنين، واضمامة من ضرام.. هي الحسرة أمواج من زفرات، ووهج من ذهول..
اعتصر القاضي صدغيه وقد تساقطت من عينيه دموع الآه وتمتم بحزن:
الآن أدركت سر ما قلته أيها الشيخ الجليل.. لقد خانت القرون دليلها، وها نحن نعود إليك، والأسى يغمر نفوسنا المتعبة..
القبلات الشاحبة انهالت على وجنتي الشيخ الصامد، والكلمات تفر كل هنيهة من شفتيه الغليظتين: صاحب الأمانة استرد أمانته، وأنا مؤمن بعدالته..
كان رد صايل سريعاً: لولا إيماننا يا عماه لأذلتنا القرائن وأهلكنا التحقيق