تشمّني داخلاً .. وخارجاً، وتزمّ أنفها قرفاً مهما كنت نظيفاً.. وواثقاً، ثم تطلب مني تغيير ملابسي، لأنني حين أجلس مع الآخرين سيشتمونها، ويلومونها، ويقولون : (تلك القذرة لا تلتفت إلى زوجها)، ويقولون أشياء أخرى ليست مرغمة على سماعها.. هكذا كانت تردّ على احتجاجي دائماً !.
أقول لها : بالله عليك دعيني وشأني، فلست جزّاراً ولا حوذياً لأكون كما تظنين.
تذهب توسلاتي سدىً، ولا يفيدني نزقي وتذمري.. بل هي تقطع ثورتي عليها بالقول: إفعل بي ما شئت، ولكن إخلع عنك ثيابك، فقد تحملتك طوال البارحة .
أذعن مقهوراً، وفي نفسي رضىً لا يوصف على غيرتها المتأججة، واهتمامها البالغ بي.
عشر سنين روضتني خلالها (بالحسنى)، فبتّ أقلّ احتجاجاً وأكثر طاعة لأوامرها (الرقيقة)، حتى وجدتني أسألها قبل أن أغادر البيت: أي ثياب يمكنني أن أرتديها في نهاري هذا أيتها الشرطية ؟!.
تبتسم بعذوبة، وتردّ عليّ بإجابتها الجاهزة: لا تتثاقل.. ليس إلى هذه الدرجة . فأنني أحبّك كيفما تكون ..
أبتسم معها، وأخرج لمواجهة يومي المتكرر.
*
لم أكن في سفري، وبعدي عنها أكثر راحة، وتحررّاً، إذ تطاردني بهاتفها اليومي أنّى حللت، حتى زرعت في نفسي هلعاً لايبارحني كلما هممت بالخروج، فحين أبدأ بارتداء ملابسي تراني أتلفّت حوالي، وألوذ بمنأى عن مراقبتها، فأزررّ قميصي على عجلٍ، وأخرج مسرعاً، كطفل أتى فعلاً مشيناً، وفرّ من عقاب والديه.
*
عملي مقرون بالأسفار، فما أكاد أحطّ رحالي حتى أطير ثانية، وبين حلّي وترحالي يستبدّ بي شوق إلى مشاكستها، فأعود لأجدها كما هي... متأهبة.. متحفّزة، فما غيّرت فيها السنون كثيراً، حتى بعد أن امتلأ بيتنا بالبنات، وزادت المتاعب والهموم.. خلتها ستنشغل بهنّ، فآخذ قسطاً من الحرية، وألبس ما أشتهي، ولكن..هيهات.
*
تفرّ الأيام سريعة، وتتعاقب الفصول، وأنا ألهث خلف هيولى تتطاول.. وتستدير، وتارة تتلون كبقعة زيت على سطح الماء. أبحث عن هدفٍ أجهل كنهه، ولكن بي رغبة عارمة للوصول إليه، وفي غمرة لهاثي المحموم أحسّ بشيء يجفّ في داخلي، ويتيبس، حتى أكاد أسمع هسيسه، فأظنها أعراض مرضٍ يتسلل إلى جسدي الواهن في غفلة مني وسرعان ما تزول، ولكنها توغل وتتفاقم، فأشعر بشيء من القلق يلازمني في الأماسي الهادئة، وفي خلوة رسمتها مع نفسي ذات يوم.. جلست أمام المرأة لأحاسب نفسي كما لم أفعل من قبل، وقررّت -لحظتها- أن أكون حازماً وأميناً، لأعرف دائي تماماً، فأنفض عني غبار القلق.. فرأيت، ويا لهول ما رأيت!!.. خارطة من التجاعيد تداخلت حدودها على مساحة وجهي، فغيّرت ملامحه، واستبدّ الشيب بما تبقّى من خصلات شعري الأشقر النحاسي، فأيقنت بأنني قد انزلقت إلى مسالك الشيخوخة دون أن أدري.ليس هذا ما أخافني أبداً، ولا الغمامة التي تغشي عيني فأضعفت من قدرتي على الإبصار، فما أخافني- حقاً - هو ذلك الشيء الذي راح يجفّ في داخلي، فيؤرقني هسيسه، وقد عرفته لتوّي بعد أن عذبني أعواماً طويلة، وخفت أكثر إذ لاحظت بأن وجوه البنات اللواتي أتوق إليهن أكثر من أي شيء آخر في الدنيا.. ووجهها أيضاً.. بدأت تتلاشى ملامحها في الذاكرة، أو لاتبين!!.
*
الزمن كالعاصفة، لاشيء يقف أمام أيامه، ولياليه.. سنينه تعبر كالسيل، وتجرف أمامها ما تشاء
وفي مسيرة الزمن العارمة تتسع الحياة إلى مداها، وتتبدّل الكائنات.. يولد أناس، ويندثر آخرون .. تكبر الصحارى وتتبخرّ المحيطات، و.. هذا يعني أن العالم بخير، ومازال ينبض نبض الحياة.
إذن ..أنا بخير-كذلك -، فهذا الخافق في داخلي يبحث عن مداراته الشاسعة، وروحي تفتّش عن مرفأ آمن لتلقي بمرساتها على رصيفه، وتستريح.
أيتها الدروب اللعينة.. امنحيني السكينة كي استريح. أنصبي في وجهي سدّاً منيعاً... انعطفي إلى نقطة البدء،ـ كي أعود طفلاً مفعماً بالنقاء.. أسبح في فلكي، ثم أعود إلى مداري وحين أهجع في المساء أجد كفّاً تداعب شعري.. تهدهدني، وأغفو على قصص الصغار.
في الصباح أستعد جيداً للحصار المضروب حولي، ومواجهة الحواس الشرسة.. (ترى هل تقصد زوجتي رائحة ملابسي
- فعلاً -؟!.. أم داعبت أنفها رائحة تشبه الغدر فساورتها الشكوك؟!!).
حريق يدبّ حولي. يصل مشارف حقولي. يجتاح سنابلي يلسعني، فأفزع، وأشعر بحاجة إلى من يعينني على إخماد حرائقي، ويبلل ريقي.
لم يخطر ببالي مثل هذا الأمر من قبل . ولكن تلك المرآة البائسة حفزّت في نفسي الكوامن، وزرعت في رأسي هاجساً يزعق بي ليل.. نهار، أنّ العمر يفرّ مني كما يفرّ الماء من بين الأصابع، فعشش في رأسي ما يشبه القرار.. أن أرشّ حقولي بالندى لتعود إليها نضارتها. أن ألج ممالك الأنس الحلال، وأبحث عمن تدكّ عرش صمتي، وتبددّ بضجيجها وحشة المكان.
(لِمَ لا؟!.. إن كانت قادرة أن تبرؤني من سقم زرعته الأسفار بقلبي، وأنا في تلك اللحظة - أضعف من زهرة فل في صيف قائظ)
آهٍ.. من وجع الأسفار، وأشواق الأهل، وتلويح الأيدي الغضّة.
آهٍ.. من طول الصمت، وأحزان القلب، ووحشة روحي. إذن، سأتطهر من عذاباتي، وليكن ما يكون!!.
*
فعلتها بصمت، وخشية .. قلّة هم الذين عرفوا بما أقدمت عليه.. انقسم القلّة فيما بينهم، ولكن لاجدوى من اختلافهم . أصبح عالمي أكثر صخباً، وأقلّ وحشة، وما عدت معذباً في الذهاب والإياب كما من قبل، ولكني صرت طريد الحواس في حلّي وترحالي. غدت رحلتي بين أنفٍ لايملّ من شمّي - وإن بدا أقلَ حماساً-، ولسان لايكفّ عن الدوران .. يحاصرني بآلاف الأسئلة، ولاينتظر إجابتي...
لابأس!!..إنها البدايات الصعبة، ولم يقع مالم يكن في الحسبان. إنني. فقط أحتاج إلى قليل من المهارة، وكثير من (ضبط النفس) للإفلات من الحصار المضروب حواليّ باحكام. .
هذا الحصار الذي يفرضه قلب الأنثى الرقيق حين يغشاه الشك والقلق، وروحها المتوثبة التي تستشعر عن بعدما يجري في أقصى تلافيف رأسي من أفكار، فأشعر بالذنب حتى وأنا أفلت من شرك أوشك أن يمسك بتلابيبي.
ياللورطة!!..حصار ما كنت متهيئاً لاختراقه. أنف يشمّني بحنان، ولسان ينضح عذوبة. يخرجانني عن صمتي، فتفوح مني رائحة الندم..
(ما أصعب الإختيار بين وردتين!!..)
أقول لنفسي : فلأنقّل روحي بينهما، وأسعد بأيامي الباقية.
هذا شتاء مختلف!!..
لم يبارحني الدفء خلاله، ولم يفارقني القلق!!..
في هذا الوقت -تماماً - من كل عام، ونحن في جوف الشتاء، وغلوائه . أجدني مضطرباً.. أضيق بكل ما حولي، وقد سألت الطبيب ذات يوم عن سرّ قلقي هذا، فنصحني( بالتأمل والتغيير) لأخرج روحي من قفرها، وتعود لقلبي نضارته.. لم أفهم -وقتها- ماكان يعنيه الطبيب، ولكني - رغم ذلك- حاولت (التأمل) بعض الوقت، ولم (أغيرّ)، فصحّت مشورته، وفهمت ماكان يعنيه تماماً.
كبرت على هذا، وجريت على عادتي زمناً طويلاً، قانعاً بالنتائج الضئيلة التي حصدتها جرّاء (تأملي)، ثم.. كان زواجي الأول ومارافقه من شهور العسل اللذيذ الذي تذوقته- آنذاك - قبل أن يصير أنفها شرطياً يطاردني في أركان البيت، ثم يمسكني متلبساً بالنزاهة، فأفلت من تهمة الشبهات منتشياً بالبراءة لأبدأ.. يوماً جديداً من الترقب، والرصد المحموم بانتظار عقوبة طالما ستحلّ عليّ عاجلاً أم أجلاً
وذات الشتاء (المختلف)، والمشورة نفسها جعلا (تأملي) أكثر نضجاً، وشهوة (التغيير) تطاردني لاتمام النصيحة، ما قادني إلى منعطفٍ خطير ولجته بجرأة أخذتني إلى ناصية القرار. إنه زواجي الثاني، ولايمكنني أن أجزم بما سأبوح به، بل كل ما أستطيع قوله: إنه.. قرارمريع، ولكن فيه من المتعة والمغامرة ما يشغلني عن القلق الشتوي الذي ينتابني كل عام، ويصرف عني لسعات البرد المتسللة إلى جسدي النحيل كلما نمت وحيداً في بيتي الرطب، وسرى الألم في مفاصلي الهشة حين ينزاح دثاري.
دوّامة من الأسئلة الشائكة تتناهبني، وأنا لا أستقرّ على قرارٍ يمتّعني بالطمأنينة والرضا..
أيهما أقوى؟!.. أنف جميل يلتقط النوايا من ثنايا ملابسي؟
أم لسان عذب يغويني بسحره، فأتبعه إلى مزالق الاعتراف؟!
= إنه هذا .,. وذلك!!
- وماذا عن الحواس الأخرى؟.
= ..ولكنها لاتهمّني في تلك اللحظة القلقة، المكتظة بالشك.
-والمكان.. ؟
-(آهٍ،ما أصعب الاختيار بين وردتين!!).
حيرتي لا تطول كثيراً، إذ أدركت خطأ السؤال، فقررت أن أعيد صياغته من جديد.
-ماذا يحدث لو اعترفت لها ليتعايشا (سلما) بين جدران قلبي؟!.
= بئس الوساوس يا رجل، فمامن عاقل يقدم على فعل طائش كهذا.
- إذن، سأبوح بسّري لعزيزٍ يحمل عنّي بعض حيرتي، ويأخذ بيدي كي يخرجني من هذا الطمي اللزج .
= لن يفعل.. وسيفضي بسرّك للآخرين، أو يبتعد عنك مهرولاً خشية العدوى، ...وأمام تللك الحيرة الشائكة، وحصار القلق الثقيل، لم يتبق لي سوى الصمت، والاذعان. أخشى أن آتي فعلاً يدكّ عالمي المسيّج بالسكينة، ثم أنا لست أول سارق يتمرّد على نواميس الوفاء، ويستسلم لإغراء الإلفة المباحة.. إنني واحد من أولئك الذين راهنوا بأن القلب فسيح يتسع لهنّ جميعاً، فأخطأ الحساب، أم عساني قد أصبت، ولم أدر..
المهم ..أنني قد فعلتها،وكفى!!. فلتقتسماه كيفما شاءتا، ولكل منهما بطينها، وأذينها، وأبهرها، وبعض الدماء التي تجري في شرايينه. هذا ما أستطيع فعله، ولاأملك دفعاً لما جرى، فلتقتسماه برفق، أو فإن لهما حرية الاختيار