بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:45:36 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1300 0


    الصك الأزرق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أبو العيد دودو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    أخيراً جمعت قصائدي وقدمتها إلى دار النشر.. والنشر حلم كل كلمة قلقة! وكنت قد كتبتها بدماء قلبي.. بجراحه، وبآلامي من أجل حبيبة أهينت مدة طويلة.. أطول من الطول في مشاعري نحوها! اخترت لها أجمل الألفاظ وأعذبها.. أغناها وأكثرها إيحاءً وعنفاً وثورةً. وشخصت من خلالها ما في تلك الحبيبة من فتنة وجمال وثروة وثورة وعطاء. فقد كانت على الدوام خَلْجة النفس وخَطْرة القلب، ونْفَثة الوجدان، ووثْبَة الروح، وتغنيت بها جرحاً راعفاً، وحُلماً مُتعباً. لم أدعْ شيئاً فيها لم أتخذه رمزاً، صورةً، لحناً، مُنْطَلقاً وهديراً!‏

    وانتظرت يوم صدور ديواني بفروع صبر.. لأني كنت أريد أن يعرف الناس ما قلته في حبيبتي، ما مجَّدتها به عبر أوتار جوانحي خلال سنوات عديدة. وكان العُمْقُ فيَّ يَوَدُّ أن يدخل عالم المؤلفين.. وأيةُ فرحة تعادل فرحة مؤلف يرى فكرهُ ووجدانه وعصارة أعصابه، بل صَفْو دموعه، وصافيَ فرحته بين يدي حبيبته الغالية؟ آه! لكم كنت أحلم باليوم الذي أضم فيه ديواني بين يدي!‏

    وها هي أمنيتي تتحقق أخيراً.. وها هم أطفالي حولي كقصائدي! حين رأوا ديوان أبيهم تفتحت عيونهم كعباد الشمس! ها هو ديواني بين يدي. يا للونه الأزرق! إنه لون عيون حبيبتي. وبدأت أقلب أوراقه، أتلمس صفحاته بأنامل فرحةٍ نَشْوى. إن كلماتي وألفاظي لتشرئب تحت عيني.. بديعةً فاتنةً نيرةً زاهرةً. فهي تجسم حبيبتي في أجمل ثوب ارتدته مدى حياتها كلها، حياتها التي امتدت عبر الزمان والمكان. كان الزمان والمكان صِنْوين لها، وكنت أنا بين صحوها وامتدادها عبر الزمان.. كنت لها طائراً مُتْعباً يُجِهد جناحيه نحو هدفه.‏

    واستمرت فرحتي به أياماً وأياماً، لم أفكر أثناءها في شيء سواه.. فلم يكن لسواه وجود! كنت أعيش نشوةً تفوق نشوة المتصوفة! حتى أعمالي الوظيفية كنت أهملها أحياناً.. وكيف لا أفعل ذلك وقد كنت أشعر على نحو خاشع أنَّ كلماتي بدأت رحلتها عَبْرَ الزمان والمكان تَنُوب عني في تقديم هويتي ووظيفتي؟ ولم ترتبط فرحتي في البداية بأي شيء يباعد بيني وبين نشوتي هذه. وأخذت أوزع النسخ القليلة، التي استلمتها من دار النشر، على أصدقائي من أصحاب الذوق الرفيع.. وممن كنت أعرف فيهم هذه الصفة، ليشاركوني في فرحتي وفي نشوة الكلمة. فقد كانوا يشاطرونني في حب حبيبتي ويعرفون أنني جعلت لها قلبي سكناً أبدياً!‏

    ومع مرور الأيام وتوالي الساعات أخذت أشعر بالحرج، فقد كان عدد الأصدقاء أكثر من عدد النسخ.. من تلك النسخ الزرقاء، فاشتريت نسخاً أخرى بما لي لإهدائها إلى عدد آخر منهم. لقد كان يهمني أن أعرف رأيهم في ديواني.. في حبي لحبيبتي! اشتريت خلال أسبوع واحد خمسين نسخة من حُرِّ ما لي.. رغم إني كنت في ضائقة مالية.. وكنت أقول لنفسي.. لا تهتمي، يا نفس! سنسترد هذا المال من حقوق كلماتي.. من ثورتها العارمة في حب الحبيبة! لم تكن لي أية حقوق حين نشرتها في الجرائد والمجلات أول مرة.. في أيام الغربة، ولكن لي حقوقاً في ديواني سآخذها من دار النشر!‏

    وما إن عرفت من أصدقائي ومن غير أصدقائي بطريقة شفوية لا غير.. أن لكلماتي قيمة فنية وفكرية كبيرة، ولم يحسن بعضهم التعبير عن هذه القيمة فأعرب عنها بسيل من.. لا بأس به، لا بأس، والله لا بأس به- ما إن عرفت ذلك حتى بدأت أشعر بقيمتي الأدبية.. وبأن ديواني فوق القيمة التي أعطيته أنا إياها. وشجعني ذلك على شراء نسخ أخرى، اشتريت خمسين نسخة بعد الخمسين الأولى. لقد تكاثر المحبون لشعري والمعجبون بديواني.. حتى من باب الكلام! وسرعان ما نفد ما اشتريته أيضاً.. انتهى بعد حين.. حل محل الورد عند الزيارات العائلية، فهو أبقى من الورد! وقد سببت لي سرعة التوزيع اضطراباً.. أربك حماستي لديواني وملأ قلبي غماً.. فالأيدي لا تزال تمتد نحوي تطلب ديواني!‏

    وعز علي بعدئذ أن أترك أولادي من غير خبز.. وأنا لما أزل في منتصف الشهر. فعزمت على الاتصال بدار النشر. لابد أن يكون بيني وبينها حسابُ.. حقوقٍ! هذا ما جرت به العادة في دور النشر في جميع أنحاء العالم.. وإن اختلفت صور المعاملة بين دار وأخرى في هذا البلد أو ذاك. فكل يتعامل على أساس ما يفهمه من المصلحة بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى المؤلف أو بالنسبة إلى كليهما معاً.. تلك هي الأصول!‏

    واتصلتُ فعلاً بمدير النشر، وحين دخلت عليه في مكتبه الفخم، وضع نظارة سوداء فوق عينيه، وقام يرحب بي، فصافحته بحرارة وأنا أتساءل في أعماقي عما إذا كانت شمسي قد بهرت عينيه أو كسوفي! وسألني مبتسماً في تلطف:‏

    - كيف حالك مع ديوانك؟‏

    فأجبته ضاحكاً دونما رغبة في الضحك:‏

    - أصبحت أنا نفسي ديواناً!‏

    فعدل من نظارته فوق عينيه وقال في شبه استغراب:‏

    - أصبحت ديواناً؟‏

    قلت وأنا أركز نظري في نظارته السوداء:‏

    - نعم، ولكني ديوانٌ لا شِعْرَ فيه!‏

    أسند ظهره إلى أريكته، وتثاءب كالقط، ثم قال ضاحكاً:‏

    - ظننتك جئتني بديوان جديد!‏

    فقلت له:‏

    - فلننته أولاً من هذه الباكورة الأولى ونتذوق حلاوتها.‏

    قال وهو يَهزُّ حاجبيه:‏

    - الباكورة الأولى انتهينا منها وذقناها!‏

    قلت بنبرة جادة:‏

    - أظن أن هناك جانباً فيها لم ننته منه بعد!‏

    سألني:‏

    - وما هو يا ترى؟‏

    قلت بكل بساطة:‏

    - هو ما ينتظره المؤلف من نشر إنتاج له عزيز عليه!‏

    مال فوق أريكته في الجهة الأخرى منها وقال:‏

    - الديوان معروض للبيع.. قد تساعد شهرتك على رواج الكتاب!‏

    رددت عليه قائلاً:‏

    - لا أحمل لهذا هماً الآن. لست أعني هذا.‏

    فأسرع يسألني:‏

    - ماذا تعني إذن؟‏

    أجبته قائلاً:‏

    - إني أتحدث عن الحقوق.. حقوقي بصفتي مؤلفاً.‏

    قال برزانة ظاهرة:‏

    - الحقوق محفوظة!‏

    قلت له:‏

    - أعرف هذا، ولكن لمن؟‏

    ابتسم ليقول:‏

    - لنا.. للدار طبعاً!‏

    سألته:‏

    - لكن فقط؟ أنا لا أفهم كثيراً في هذه الأمور.. فقد طبعتم الديوان على نفقتكم! اختفت ابتسامته حين رن الهاتف، وقال لي وهو يمد يده إلى السماعة:‏

    - ولك أيضاً.. بالطبع!‏

    وعرفت من حديثه أنه يتكلم مع شخص ما عن كتاب نشرته الدار، ولكنه لم يوزع في مناطق كثيرة من البلاد، وسمعته ينفي عن نفسه أية مسؤولية في ذلك، ويؤكد له أن الأمر يتعلق بقسم التوزيع. وسد خط الهاتف بقوة، والتفت إلي، فبادرته متسائلاً:‏

    - فأين حقوقي إذن؟‏

    قال مطمئناً إياي:‏

    - حقوقك ستصلك قريباً.‏

    وعدت أسأله:‏

    - عن أي طريق؟‏

    تناول غليونه، وراح ينفخ فيه، ثم قال لي:‏

    - سنرسل لك صكاً.‏

    قلت:‏

    - الصك يتأخر!‏

    أجاب:‏

    - وماذا نفعل؟ ليس هناك حل آخر. نحن لا ندفع الحقوق يداً بيد. لابد من الصبر. عليك بالانتظار كباقي المؤلفين.‏

    وشعرت بحركة في صدري عندما سمعت كلمة المؤلفين ، لقد صرت إذن مع البقية! وسألته:‏

    - الانتظار مدة طويلة؟‏

    قال لي:‏

    - بعد الانتهاء من الجرد.‏

    قلت:‏

    - ومتى يكون الانتهاء منه؟‏

    وأشعل غليونه، وسحب دخانه ثلاث مرات، ثم قال:‏

    - قد يكون قريباً.‏

    ابتسمت رغماً عني، وقلت:‏

    - قد يكون..‏

    ونشر فوق أريكته سحابة كثيفة من الدخان، وأجابني قائلاً:‏

    - قد يكون فعلاً!‏

    وتذكرت القط حين تثاءب من جديد، فقمت ومددت يدي أصافحه، فصافحني دون أن يتحرك في أريكته. وخرجت من عنده وأنا على يقين بأن ذلك لن يتم خلال الأيام القليلة القادمة. وشعرت أن عليَّ أن أستدين من أحد أصدقائي.. من المعجبين بديواني، لأتغلب على نصف الشهر المتبقي. سآخذُ.. من أحدهم ألف دينار.. على حساب حقوقي التي لابد أن تكون محترمة.. ما دام ديواني عملاً محترماً بشهادة مدير النشر و.. بشهادة الأصدقاء وغير الأصدقاء ممن أتيح لي أن أجتمع بهم في مناسبة من المناسبات القليلة قلة النسخ التي يتسلمها المبدع من دار النشر!‏

    وأخذت في الطريق الطويل أطمئن نفسي.. قد لا يكون القريب بعيداً. وقد تسمح الظروف بإنجازه. وعندئذ تتولى الحقوق.. حقوق كلماتي دفع ديوني كلها.. أو بعضها على الأقل. فمن الضروري أن أحتفظ بشيء منها لأطفالي..! لابد أن يأكلوا ويلبسوا شيئاً من فكر أبيهم، من قصائده، من شعره، من ذوبان أعصابه وسهر لياليه العصيبة.. من شروده في عوالم لا تصل إليها الآن مداركهم، ومن ألفاظه التي تلدها في لحظةٍ ما دموعُ عجزه ويأسه!‏

    وعدت إلى بيتي.. والصك بين عيني يعرض نفسه ستراً لديوني. كنت أول وهلة أتصوره مجرد تصور، ثم شعرت أن يديَّ تقتربان منه.. أنهما تلمسانه. سيكون أيضاً أزرق.. وربما قزحياً، من ألوانه زرقة عيني الحبيبة، وشفق شفتيها، وخضرة ثوبها، وبياض بسمتها، وصفرة شالها! وجعلتني أتصور كل هذه الألوان وغيرها في صورته.. صورة الصك، الذي سيجبر الخاطر الأسيف ويمسح الدين المقيم!‏

    وحدثت أطفالي عن الصك، وأخبرتهم بفخر أنه لن يكون شيئاً آخر غير ألفاظ أبيهم.. غير كلماته الأنيقة، تحولت إلى صك أزرق ومنه أوراق نقدية زرقاء. ذلك ما سيحدث قريباً، وأخذت ديواني الأزرق ورحت أقرأ عليهم قصائده، وأتنقل بهم من هذه إلى تلك. وكانت الحاجة إلى المال تدفعني إلى أن أُقوِّم قصائدي في ذهني وأنا بصدد شرحها لهم، وأضع لها أسعاراً.. وأتجاوز ذلك وأقول لهم.. هذه تساوي كذا، وهذه أغلى منها على قصرها.. لو وجدت من يضع لها السعر الحقيقي! كانت الحاجة في تلك اللحظة تجعل لكل قصيدة أو مقطوعة ثمناً مناسباً.. والحاجة أم البضائع والأسعار!‏

    ووجدتني في النهاية قد وصلت إلى مبلغ محترم.. يفي بالديون وزيادة. وتصورت أن ثمة عطراً ما يتصاعد من ديواني.. ما هو إلاعطر حبيبته. وسيكون لأم الأولاد عطرها منه! هذا العطر سيبعد عني مصاعبي المالية إلى حين وجيز!‏

    وعدت ذات مساء من عملي، فوجدت فوق مائدة غرفة الأكل رسالة، اهتز لها شعر رأسي بشكل خفي تقريباً.. وهذا حين قرأت فوقها، فوق غلافها اسم دار النشر. لم أصدق حينها عينيَّ، وأخذتها بين يدي، وبسطت راحتي فوقها، وضغطتها إلى فمي، ثم إلى قلبي، ورحت أعيش فرحتها قبل أن أفتحها، وشعرت أن ثقل الديون يزايل عاتقي مَدْحُوراً وصارت أنفاسي تتصاعد في صدري حرةً طلقةً!‏

    وفي النهاية شعرت برغبة عارمة في فتحها، فالقلب لم يعد يحتمل الإطالة ولا اليدان والعينان.. لابد من الاحتفاء بالآتي فعلاً! كنت أريد أن أعرف المبلغ الذي يتضمنه الصك. وقرأت الرسالة قبل أن أقرأ الصك الأزرق. وفرحت.. ها هو مدير النشر يتحدث عن حسابي وحقوقي.. ثمة اعتراف لي بحقوق! وقرأت المبلغ في الرسالة أيضاً.. وأنا أقول في نفسي.. هذه مزحة ولابد! وتأكدت في ثوان معدودة من المبلغ وأنا أرتجف.. خمسون ديناراً ولا شيء غيرها! وتراءى لي قمر حزين يصب أشعته الباهتة في عيني عاشق حزين!‏

    وازداد جسمي ارتجافاً ودبدبة وأنا أسجل عنوان دار النشر فوق ظرف أزرق حال لونه!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()