بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:32:54 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 2350 0


    شجرة الغَرَب

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ابراهيم الخليل | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كانت القرية من قرى ذلك الزمان بيوتاً تتناثر ضمن دائرة السور الأثري القديم، متلاصقة حيناً ومتباعدة أحياناً، أبوابها ونوافذها ذات أشكال بسيطة، وأرضها من الجصّ وقد بُنيتْ منازلها من الطين والفخار الأحمر الذي نهبه الأهالي من السور، وبنوا به فوق خرائب المدينة الأثرية القديمة، ولا رقابة أو سلطة لحكومة آنذاك سوى سلطة "المخفر" وهو مخفر للدرك الخيالة قام على تل مشرف خارج السور، وظيفته منع تعديات البدو على القوافل المسافرة في برّ الجزيرة الفراتية، ثم أحدثت بعض الدوائر الرسمية الصغيرة، لتسيير شؤون السكان المحليين ومراقبة بعض المنفيين من المغضوب عليهم من معارضي الحكومة أو قادة الأحزاب السياسية المشاغبة.‏

    وكان أهل القرية ميالين للمهادنة والسلم، يحبون الغريب ويتقاسمون في الأزمات وسنوات الغلاء الخبز والبرغل والتتن والحكايات الشعبية والأحزان والابتسامات.‏

    أمّا سقوف تلك القرية المفتوحة على بعضها وكأنها بيت واحد بعشرات الغرف، فكانت من التراب الذي جاء به الأهلون من البرية، لذا ما إن يهلّ الربيع حتى تتحول السطوح المتلاصقة إلى حدائق معلّقة من العشب البري والنرجس والأقحوان وكأنها بابل جديدة، بلوحاتها الإلهية وروائحها العبقة التي تدخل الأنوف والثياب والبيوت وأعشاش الخطّاف والدوري وحجارة السور القديم في مهرجان فاتن للون والعبق.‏

    وكنا- يومها- صغاراً، أبالسة صغاراً، لا نهدأ ولا نعرف معنى السكينه، نندفع قطيعاً من التياتل الصغيرة، أو الجراء الهرّاشة المرحة، نصعد طلل السور القديم الذي بناه المنصور، ومن أعلى برج فيه، برج هجرته الثعالب والأرانب والحمام البري والثعابين هرباً منا، نستطلع المكان الذي ينبسط أمامنا كصحن واسع، مكسر الأطراف والحوافي، فإلى جانبنا مباشرة يقف باب بغداد الأثري جليلاً باذخاً تفوح من آجره الأحمر رائحة القوافل العابرة ومواكب الرشيد، وتحت قدميه المغروستين في الأرض والعشب، يمتد سهل واسع أخضر حتى الفرات القريب، تقوم في طرفه الأيمن مطحنة للحبوب وسط عراء من شوك العاقول يحرسها من تعدياتنا بإبره الطويلة التي تعرف الطريق جيداً إلى أرجلنا الحافية، وقد جاء إليها الرجال من كل مكان يدفعون أمامهم حميرهم المثقلة بأكياس الحنطة ثم يجلسون حلقات حلقات في الباحة ينتظرون دورهم وهم يثرثرون ويدخنون، تفوح نهم رائحة العرق والتعب.‏

    وعلى اليسار تقوم المقبرة، مساحة مستوية من الأكوام الحجرية ذات شواهد تسمى قبوراً، ولا بناء فيها سوى قبه من الطين أقامها أحد الزوار الغرباء على مقام سيدنا" أويس القربي" تبرعاً لوجه الله، وقد اختلطت قبور الأهالي بقبور من بقي معروفاً قبره من قتلى معركة صفين كعمار بن ياسر وابي بن كعب، وإلى جانب قبة المقام المطلية بالجصّ تقف شجرتنا، شجرة الغرب، عملاقة جبارة بألف ذراع، تذهب بعيداً في الفضاء، وتمدّ أغصانها المتينة وكأنها كائن خرافي يوشك أن يطير إلى عالم سحري آخر غير عالمنا البسيط الذي لا يغري كثيراً في البقاء فيه.‏

    شجرتنا التي كنا نعبدها بطريقة غريبة وقاسية وغير معقولة، تتناسب مع عقولنا وتتفق مع رغباتنا وغرائزنا نحن المبللين بماء الفرات، المعجونين مع طينه ورمله وحراشف شبابيطه.‏

    كنا نصعد إليها كزوبعة، فتفرّ عصافيرها مذعورة، وتستسلم لأكفنا الطرية وقلوبنا الحجرية أعشاشها وبيوضها وفراخها، فننثر الأعشاش في الهواء ونتضارب بالبيوض فتسيل الحياة الصفراء على وجوهنا القاسية خجولة خرساء، ونرمي بالفراخ في المياه الضحلة التي تتجمع في حوض وكأن قوة قاهرة حفرته لتستمر حية شجرتنا، فالغرب لا يحيا بدون الماء، وبعد هذه الغزوة البربرية، نتساقط كثمار فجة من بين أغصانها، وبقطع حديدية أو حجرية نفتح ندوباً في صدرها العريض، فيسيل الدم والحليب والأنين السري، ثم نقصف ما تدلى من أغصانها على الماء، ليقيم صلاته السرية التي لا يعرفها سوى شجر الغرب.‏

    كنا وحوشاً، برابرة صغاراً، يعجب بنا الآباء، ويسخر من افعالنا الأجداد، يهزون رؤوسهم، وينفضون عباءاتهم الحائلة اللون بنزق... ويقولون:‏

    - نحن براء من هذا الجيل الشيطاني.‏

    فيردّ الآباء:‏

    - يكبرون ويعقلون.‏

    - ويل لكم من عقولهم.‏

    ويسكت الطرفان، يعلنان هدنة مؤقته، بينما نكون انطلقنا ساحبين خلفنا ذيلاً من الغبار باتجاه ساقية قريبة اقامها أحد مزارعي القطن ليروي مشروعه الزراعي، بواسطة مضخات حديثة تدار بالمحروقات، وهو الأول من نوعه في البلد،وهناك نتعرى من ثيابنا عرياً كاملاً، وما أن تدبّ برودة الماء في جلودنا حتى تستيقظ كل الشرور في نفوسنا، فننطلق وسط زوبعة من الصياح والعجاج إلى حقل البطيخ القريب، نفتح في ثماره الخضراء ثقوباً ندخل فيها أعضاءنا الصغيرة وأصابعنا وبعدها تبدأ المجزرة، ويتحول الحقل إلى ساحة حرب نحن جنرالاتها، وسلاحنا تلك الثمار المسكينه، التي تملأ أشلاؤها الحقل وتسيل دماؤها الحمراء على جلودنا، دبقة لزجة، ثم نفرّ بعد ذلك لنترك مسافة طويلة بيننا وبين صاحب الحقل الذي يكون بالتأكيد في طريقه إلينا، ليشهد نكبته.‏

    ولم يأمن الرجل شرّنا، إلا حين اشترى كلباً قرباطياً شرساً وسريعاً يدركنا بثوان، وقد هزمنا في كل معاركنا معه، فرضينا بالانسحاب من المعركة إلى الأبد.ولأننا خسرنا حربنا مع صاحب الحقل وكلبه، توجهنا بكل قواتنا الجهنمية نحو شجرتنا، ننتقم،منها ومن جماعة الكراكي،التي كانت جموعها تقف على ساق واحدة في الماء الضحل. فعرفت حجارتنا طريقها إلى الأجساد والسيقان الطويلة وابتهجنا بأصوات الشكوى الحزينة.‏

    كان أجدادنا يقولون وهم يهزون رؤوساً أثقلتها الدنيا بحملها، وسكنتها الوساوس، والأهواء، وأخلاق الآباء:‏

    - هذه الشجرة مباركة، لا شرقية ولا غربية، حرست قبور الصحابة يوم هجر الناس خوفاً من الحناشل والأوغاد، وأوت الفارين من السفر برلك والوجع والجوع من كل الملل والنحل، صلى تحتها العابد، وناجاها العاشق، وسمعت شكاة المحروم، هذه الشجرة كنا نودع تحتها ما يزيد على حاجتنا من متاع حين نرحل في الربيع مع أغنامنا طلباً للكلآ ومساقط الماء ،وحين نعود نجد الأمانة كما تركناها دون نقصان، رغم أن قيّم المقام كان يرحل معنا، تاركاً مقام سيده، ونذور الزائرين في حراسة الشجرة، فالبلد يقفر ولا طعام لديه يمكن أن يقيم أوده.‏

    وكان أباؤنا يقولون بحب ينبع من القلب:‏

    -شجرتنا من الجنة، وإلا لما تركت النهر، ووقفت حرسة على البلد المهجور تحمي روحه من التلف والسوس، وبين أغصانها تتجاور أعشاش البواشق واليمام والدوري، ويأوي إليها الهدهد والخضّر والخطاف، بينما تتبرد الكراكي المقدسه في بركة الماء تحتها.‏

    وتقول جداتنا بإيمان صوفي:‏

    - من علقت خصلة من شعرها على غصن من اغصان شجرة الغربّ نالت مناها وتحقق لها ما تريد.‏

    وتقول أمهاتنا الشابات:‏

    - الشجرة ؟‍!‏

    ثم يتهامسن بخبث:‏

    - هنيئاً لمن يجمع بين رأسين في الحلال.‏

    وتقول الصبايا لأكبر مناسباً ممن ذقن الحليب، وعرفن سرّ البروق التي تهيج في أمسيات القيظ، فتومض وتشلش النزل:‏

    - الشجرة؟؟!‏

    وتتلمظ الألسن كحيات مسلوخة، ثم يردفن ضاحكات بلؤم يليق بقمر الشتاء الذي يخفي تحت معطفه المطر والرعد وسحاب الله القادم من المجهول.‏

    - أمّ الأسرار لا تبوح ولا تفضح.‏

    ويقول الغجر القادمون في مواسم الحنطة والحصاد، يدفعون كلابهم ونسوتهم المدربات طلباً للصيد، حيث تفوح في البلد كمية هائلة من عرق وعطر غريب وضحكات غامضة ونداءات لحوح، تعلن عن فسق كمين، وخطايا لا بدّ منها لتستمر الحياة في القيظ:‏

    - الشجرة ؟! هذه الساحرة لا يمكن لأحد أن يفكَّ طلاسمها، إنها رصد ملعون.‏

    ويوم الجمعه، بعد صلاة الصبح.‏

    تتجمع العذارى وقد جّمشنَ خدودهن، فطفر الدم من الوجنات ذبيحاً، بينما برق غامض موشى بالرغبات يظلل العيون المثقلة بالكحل الأسود، يفصح عن كلام كثير وأمنيات محرمة، لا تفهمها سوى أغصان شجرتنا وحجارة اللبن في المقام، وحين ينطلقن موكباً من ساحرات بابل يقف الصباح وحيداً امام البهجة وتثور زوابع صغيرة وراء خطواتهن وتتردّد أناشيدهن الغامضة في الفضاء البلّوري.‏

    إنها صلاة بكاء ضاحك، يفرد أجنحته خائفاً وراءحدود البال، يعلن عن نفسه، وهناك تحت الشجرة تبدأ شعائر طويلة، وتهويمات حرّة من عيون منداة بالدمع، عيون كثيرة:‏

    - سيدي لك ما شئت شرط أن يكون الذي في بالي هو.‏

    - مللت يا سيدي، واليوم لا يمرّ إلا بطلوع الروح.‏

    - ومن لي غيرك يا شيخي؟.‏

    - شفاعتك يا ابن خالة النبي.‏

    - الله... الله بنا‏

    ثم ينصرفن بعد ذلك إلى هدوء أشبه بالصلاة وكل ما حولهن صامت، القبور والنهر القريب والساقية، والطاحونه وقبور الموتى الهادئةهدوء الحطب الجاف.‏

    كنا برابرة من اسلاك وشغب‏

    جنرالات حرب أعلناها على كل شيء، الناس والشجر وحجارة السور وغيران الجرابيع والفئران، والقطط والكلاب، تسري في عروقنا دماء أجداد قتلة نصف رعاة نصف مجانين، ويوم أحسسنا بالبروق تبثّ إشاراتها وبرسائل غامضة تبعث البهجة والنار في نصفنا الأسفل أسرفنا في الشتائم نكيلها بسبب أو بدون للأمهات والأخوات، وحين نجد فسحة من الوقت نوجهها إلى الحجر أو الربّ.‏

    ولأننا جنرالات حرب موتورون ومدربون وقادرين ومنتصرون في معظم غزواتنا بدأنا نرسم خططاً للتسلل كي نراه. هذا الذي يثيراً اسمه فينا البروق، ونكثر منه في شتائمنا، ووجدنا الخطة، فمعظم أبواب الغرف من الخشب الذي تركت فيه حرارة الشمس شقوقاً، ومعظم البيوت بلا حمامات، تغتسل النسوة في عتبة الدر، من هنا تفتقت في عقولنا نحن الجنرالات خطتنا فكنا نتسلل، قططاً محاربة ومستفزة وباحثة عن تلك القطعة من اللحم التي يزينها الزغب الأسود أو الأشقر كخيوط من أسلاك هاتف علوي.‏

    كنا ننحني وننظر من خلال الشقوق إلى الصبايا وهن في لحظات حميمة في طشت الحمام المعدني، ويغرقن في الماء والصابون واللهاث الإلهي المتصاعد من الصدور والأثداء والأعناق الممتلكات المبعثرة في فوضى.‏

    كنا نواطير الكروم المحرمة ولصوصها، صانعي خمرها في ليالي اللهاث المحموم ولا شاهد علينا سوى القمر أوطين النهر، هذا الطين الذي نصنع منه دمى وآلهة نفسق فيها بأصابعنا الطرية، نهتك لحمها الغضاري بوحشية وكنت أنا والليل نغرق في ليل لاحدود له، ولاحدّ لجناياته، ليل الحرمل البري والماء وكلاب الحراسة والخرنوب، وحين أتعرى وحيداً، أتلمس أعضائي بلذة، فأود لو تتحول الأرض امرأة، التلال امرأة، الشجرامرأة، النهر امرأة، لو تتحول المدينة امرأة، فأوقظ كل التباريح، فأحضّ إلى وجع وخالق، وفتنة وحشية، وأمدّ براثن الذئب الفتى إلى دغل القلب بحثاً عن أفراس النهر وكائناته.‏

    كنا نحس رائحة، وحكايات وحكايات، ولم نكن نعلم كم كان أهلونا بسطاء ماكرين، أقاموا بلداً من فخار وحكايات خرافية، كنا نحس بالحيرة أحياناً أمام هذه الوجوه التي تتورد، وتتلون وتحكي، وتحاول أن تؤثل من الهباء أمثولة، ومن الخواء ملحمة، وكانت ليالينا من مياه عكرة حاربناها بأكف ملوثة بالطين والقش.‏

    ...‏

    -من لا يملك نهراً سيموت عشطاً.‏

    - ومن لا يملك امرأة سيموت حزناً.‏

    - ومن لا يملك جنة فهو يملك ناراً.‏

    قالها لي بطريقة بسيطة صديق سبقنا إلى العشق ثم اردف بعد ذلك:‏

    - كل حرف يكتب في غير الحب لا يساوي فلساً، ولا معنى له، فالمدن والجبال والأنهار ماء وطين ولا يخلق من الماء والطين شيئاً عبقرياً إلا أصابع العاشق.‏

    لذا يوم عشقنا كانت حبيبتنا جميعاً امرأة واحدة.‏

    وشاركنا عشقها كل رجال الحارة، سميناها الأميرة، واخترنا للمرة الأولى لقباً متواضعاً «رعايا الأميرة» وكان أن اطلقنا اسمها على كل ما يحيط بنا، الجسر وشجرة الغرب والحارة والعصافير وبستان البلدية ويوماً بعد يوم أصبح كل شيء ملكاً للأميرة، وكل ما تملكه الأميرة مقدس حتى منزلها المتواضع كنا نراه قصراً من البلور.‏

    وكانت أميرتنا امرأة شابة، لا أحد يعرف من أين جاءت؟ فذات يوم عادي من أيام حارتنا دخلها رجل وامرأة، كان الرجل اسود كالفحم ضخم الجثة بشاربين مفتولين، وكانت المرأة فارعة كالرمح رشيقة يتلجلج بياضها كالفضة، سكناً معاً في بيت مؤلف من غرفتين ومطبخ ومنذ اللحظة الأولى شعرت نسوة الحارة بغيرة وعداء تجاه أميرتنا فقد كانت الأجمل، والأرشق، والأعذب حديثاً، تخرج ضحكتها من قاع حلقها صافية عذبة كنا فورة ماء، هذه الضحكة هي التي سحرتنا كما سحرت رجال الحارة.‏

    وكان لأميرتنا شامة سوداء تحت شفتها السفلى، وقرطاً ذهبياً يزيدها فتنة حين ينعكس على صفحة وجهها البدري، وهذا ما زاد في خجلنا فكنا نجلس على الرصيف نرقب باب دارها من بعيد ننتظر خروج «عنتر وهو الاسم الذي أطلقناه على عبدها. فنحن نرفض أن نسميها زوجته، وكان عادة في الصباح الباكر يحمل دلة القهوة المرة، يمرّ بها على الدكاكين يصبّ لأصحابها، ويجودون عليه بما يتيسر وهي مهنة غريبة على البلد آنذاك.‏

    وبدأت الشائعات تتسرب في الحارة لتزيد في ذبول الرجال وتنمرّ النساء فأميرتنا كانت تعشق أسودها حتى العبادة، ومع ذلك كان لا يأبه بها، فكل مساء يجده الرجال في نزل الغجر يغني لهم ويرقص برشاقة غريبة وساحرة تفتن النساء، ويظل إلى أخر الليل ثم يؤوب مطفأ الروح والجسد، ليسقط إلى جانبها جثة هامدة.‏

    وكي نتأكد صعدنا السطح المقابل ورحنا نرقب من الظلام ،حيث لا يبدو منا سوى عيون ملتهبة بالشوق، وقلوب تكاد تقفز من الصدور، لقد غادرنا الذبول فجأة، وسرت الحياة في عروقنا حين رأينا اميرتنا في غلاله ورديه شفافة تنتظر أسودها، فتصاعد لهاثنا وصممنا على الانتظار ونحن نقاوم النوم حتى دخل الأسود بقامته الضخمة التي ملأت المكان وشاربه المفتول، فطارت إلى لقياه أميرتنا مفتونه، قادته من يده إلى الفراش، فارتمى كجذع نخلة سحوق، فبدأت طقوسها الليلة لكي تشعل في رماده النار دون جدوى، فقد غرق في نوم عميق وتعالى شخيره، بينما وقفت أميرتنا أمامه تنظر إليه بعشق مفتون.‏

    وبعد تلك الليلة ازداد إحساسنا بالعداء للأسود، كما ازداد ذبولنا، فأصابنا الضعف ولم نعد إلى حروبنا المقدسة، فافتقدت الحارة كل ذلك، وكنا نفكر جدياً بطريقة للقضاء عليه، فاختطافه من قبلنا مستحيل فهو أقوى من ثور، ومواجهته في معركة مفتوحة سنكون فيها خاسرين بالـتأكيد.‏

    وتوالت الأحداث سريعاً، فذات ليلة، جاء الأسود اللعين مخموراً طينة وبرفقته إحدى الغجريات، قادها إلى الفراش بوقاحة وقحه غريبة، وكانت أميرتنا بانتظاره كمعتاد أمرها، فما إن رأت المشهد، وأين على فراشها المقدس؟ تحولت إلى نمرة وركضت إلى المطبخ مثل لبوة، جاءت بالسكين، وأمام عيون الغجرية المصعوقه مزقت جثة الرجل فسال الدم يغرق الفراش وهمدت الجثة إلى الأبد، وأسدل الستار على فصل من فصول الدم في حارتنا وبدأ فصل آخر من فصول حياتنا.‏

    وظل الناس يكبرون ويشيخون ثم يموتون.‏

    ظلت الكراكي والخضر والخُطّاف، والحمام والنسور، تزور شجرتنا وقد تعود أسرابها وقد لا تعود ،وظلت معبودتنا وحدها صامدة، شجرتنا التي نعرفها جيداً، كبرنا وانقطعت السبل، وربما جاء جيل بعدنا لا أعرفه، وتوسعت القرية الصغيرة، امتدت واستطالت فأكلت كل المساحات الخالية، قامت بيوت جديدة، لا تنمو على سطوحها الحدائق البرية، لأنها من الإسمنت المسلح، وجاء أناس جدد، وسافرت لأكمل دراستي في الهندسة وليس في حقيبتي سوى دفتر اشعار استوحيت معظم قصائده تحت شجرتنا، وليس في بالي سوى صورة واحدة، لفتاة ترتدي عباءة سوداء من الحَبَر الناعم، وتمد ذراعاً بضة لتمسح دمعه سطقت من عينيها الواسعتين عفواً، سافرت ودعوات امي تلاحقني:‏

    - مودّع الله. يا عمود بيتي.‏

    سنوات طويلة مرّت‏

    أخذتني الجامعة في أحضانها، وجرفني تيار الحياة الجديدة، عرفت بشراً ومدناً وأشجاراً، ونسوة كثيرات، فتقلّمت براثن الجرو الصغير وتقاعد جنرال الحرب المشاكس.‏

    وحين عدت تم تعييني مهندساً في البلدية.‏

    وكان سؤالي الأول عن فتاتي، فعرفت أنها تزوجت بعد رحيلي فلم أحزن كثيراً، ونسيت شجرتنا، كيف غابت عن بالي؟! لا أعلم حتى استدعاني رئيسي في العمل، ليكلفني بمهمة وهي الإشراف على تنفيذ مجمع ضخم يضم مسجداً ومدرسة كبيرة، ومرافق لهما، وحين سألت عن المكان، ردّ مرافقي:‏

    - مكان المقرة القديمة:‏

    - والقبور؟!‏

    صرخت كالملسوع، فردّ بهدوء بارد:‏

    - نقلت إلى مكان آخر ،ولم يبق سوى مقام سيدنا عمار بن ياسر وأويس القرني.‏

    وتذكرت شجرتنا، فلم أجرؤ على السؤال عنها، حتى لا تظن بي الطنون فمضيت إلى غرفتي أجهزّ نفسي وأوراقي للذهاب في اليوم التالي إلى المشروع.‏

    ....‏

    حين خرجت في الصباح الباكر كنت مرحاً.‏

    وكأنني على موعد مع صديقة العمر، كيف لا؟ وسوف أرى اليوم شجرتنا من جديد، بعد كل هذا البعد، وكنت واثقاً ثقة أكيدة من أنني سأراها، مررت على بعض مواقع العمل الذي كان في بدايته، فاستغرقني ذلك فترة ليست وجيزة، ثم توجهت إلى مقام سيدنا أويس القرني الذي حجبته عن عيني تلة من الركام، فدرت حولها وقد وصل إلى سمعي هدير آلية جبارة تعمل، ويالهول ما رأيت.‏

    واجهتني شجرتنا، وهي تهتزّ وتئن تحت ضربات الذراع الحديديه الجبارة للآلية، أردت أن أصيح:‏

    - توقفوا يا أولاد الزواني.‏

    لكن صوتي اختنق، تسمرت للحظة وأنا أرى شجرتنا تنحني بكبرياء ملكة متوجة بالغار والخضرة، وتكابر، تعاند لتقف من جديد وكأنها رأتني فأرادت أن تقول:‏

    - تأخرت كثيراً يا صديقي.‏

    وركضت كالمجنون، لكن صوت انكسارها المريع دوّى كقنبله فصدّع قلبي، أذهلني، فقصّرت خطواتي وكأنني أسير في موكب جنائزي، وحين وصلت، كان السائق يوقف هدير الآلية الجبارة وهو يسب ويلعن تلك الشجرة التي لم يصادف في حياته الطويلة أقوى واصلب منها،وهو الذي ظنها في البداية مجرد شجرة عجوز وفارغة، سوف تنهار مع أول ضربة.. ثم قال:‏

    - أستاذ هذه الشجرة مسكونة بألف عفريت. ابعد عنها وإلاّ أصابك الشر.‏

    ولم أردّ عليه تقدمت وسط دهشته من الجسد المسجى وأنا أسمع أنين الشجرة المحتضرة، كان ثمة شكوى من ظلم ما، من أناس ما ... عاملتهم بكل الحب فخانوها:‏

    - يا أمي.. من يعلم أولادنا غداً بعد رحيلك ؟! من يعلمهم الحياة ؟! همست بتبتل وغام أمام ناظري كل شيء، حجبته الدموع بينما تفجر صوت ناي حزين وبعيد

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()