بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:20:58 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1474 0


    الأب - البندقية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الحميد بن هدوقة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    قال الأب: " هل أنا أبوكم أم لا؟ طبعاً، أنا أبوكم، إذن لا يمكن أن أتخلى عنكم، الولد لا يكبر مادام أبوه حياً، عندما أموت، نعم، تصيرون كباراً أحراراً، كل منكم له عمره، وله رأيه، أما الآن فلا، أنتم صغار مهما تقدمت بكم السن! لست أنا الذي اخترت أن أكون أكبركم، هي طبيعة الأشياء! طاعة الوالدين من طاعة الله، وطاعة الله هي التي خلق من أجلها البشر:"وماخلقت الجن والإنس إلاليعبدون.".‏

    أول خطوة في العبادة هي الطاعة... لست أنا الذي قلت هذا، إذن عليكم بطاعتي! لا أمنعكم من التفكير فيما لا أفكر، لكن مايدور في رؤوسكم دعوه في رؤوسكم! ثم إنني لست طاغية، أنا أب، أحدب عليكم، أسهر على راحتكم، أحميكم، أخطط لمستقبلكم.أخطط حتى لمستقبل اولادكم! الأبوة من مسائل الأبد التي لا تناقش. هل الأب يريد الشر لأبنائه؟ طبعاً لا. إذن،، كل منكم يقوم بالعمل المطلوب منه، ليس إلا، أما غير ذلك فلا يهمكم، لكن أحذركم : من ركب منكم رأسه لا يلوم إلا نفسه! الدار لا تتسع لرأيين! "الرشد الذي تتحدثون عنه سخافة، خرافة! الأب لا يمكن أن يكون أصغر من أبنائه! الأب أب، وهو دائماً الأكبر! الأفكار المستوردة عملة لا أقبلها. أبي قال له أبوه، وأبوه قال له أبوه، إلى آدم: " أن الأب أب والابن ابن" آدم لم يقتل أحد ابنيه، الأخ هو الذي قتل آخاه! أليس في ذلك عبرة لكم؟ أرأيتم لو كان آدم حاضراً هل كان يقع ماوقع؟ طبعاً لا. أعرف أن مدرس التاريخ سرد عليكم الوقائع، لم يستخلص لكم العبر! فكروا جيداً في كلماتي: عندما يكبر الصغير ويصغر الكبير تختل الأمور، هذا ناموس الطبيعة، ليبق إذن كل واحد في مكانه. الكبير كبير، والصغير صغير! فكروا في هذا جيداً، انصرفوا إلى أعمالكم الآن.بالعمل تحققون ذواتكم، ورسالتكم في هذه الحياة، بالعمل تشبعون وتنعمون بالحياة، وبالطاعة تضمنون لأنفسكم الأمن وراحة البال. الذين ضللوكم وسيضللونكم - إن لم تعوا كلامي - هم كسالى ، لا يحبون العمل، ولا يعملون! العامل الجاد لا يتسع وقته للتفكير في التفاهات، مثل : " لماذا في الدنيا كبير وصغير .." ماقالوه لكم خرافة، بل حماقة من حماقات الحالمين. يريدون أن يعظموا بصغر نفوسهم، وفشل أيديهم. يتحدثون عن التاريخ ولا يدرون أنهم يطحنونه ولايجدون في أحواض رحيّهم سوى الأحلام، بل الكوابيس! يتحدثون عن تمايز الطبقات وهم في الأسفل، من أين يعرفون العلو وهم في السفل؟ نحن نعرفهم، نراهم من علونا، يعيشون من صدقاتنا ويسبون طبقتنا! أليس هذا هوالنزق بعينه؟‏

    انصرفوا إلى أعمالكم، انزعوا من رؤوسكم أدخنة المقاهي والشوارع القذرة، اسمعواوعوا وأطيعوا. العمل يشغلكم بالنهار وينيمكم بالليل."‏

    ***‏

    حيرة الأبناء لم يزدها كلام هذا " الأب" إلا تغلغلاً واستمساكاً بنفوسهم. هم أخوة حقاً، تساووا في كثير من الحاجات والرغبات والامكانات، لكنهم لم يتساووا في الأحلام. هم أخوة حقاً لكن لكل منهم شخصيته. هم في حاجة إلى حريتهم الفردية في إطار حريتهم الجماعية.لا يريدون أن يكونوا نسخاً لأصل لايعرفونهّ! " أبوهم " هو الذي قال لهم انه أبوهم! المحيط الذي تربوا فيه هوالذي أشاع ذلك، لم ير أحد منهم حقيقته، منذ التكوين الأول إلى الولادة، إلا عن طريق السمع! ثم ليفترض أنه أبوهم، أليس الأب الحقيقي هو الذي يريد لأبنائه أن يكبروا وهو حي؟ أن يرى شخصياتهم مكتملة، قائمة كل واحدة منها بذاتها، لا ظلالاً لشخصيات أخرى وهمية، أوحقيقية؟‏

    هناك سر في الموضوع لاشك في ذلك. هو يطلب منهم أن يعملوا فقط، وأن لا يفكروا. صحيح، العمل مهم، يحقق الذات في المجتمع وفي النفس، لكن أيّ عمل! ولمن؟ هو يريد أن يعملوا له، وأن يتصدق عليهم بما تكسبه أيديهم، أن يتصرف فيما يأكلون ومايشربون، أن يتولى التصرف فيما يملكون ومالايملكون، أن يكون هو الكل وهم الأجزاء المبعثرة التي لاحقيقة لأيّ جزء منها منفرداً، هو يريد ويريد.... وهم ليس لهم - في نظره- أن يريدوا... عليهم أن يطيعوا ليس إلاّ! ليست هذه هي المرة الأولى التي يجمعهم فيها ويعظهم. مرات عديدة مضت، أسمعهم فيها ماشاء من وعظ! إنهم يتذكرون مثلاً ماأسمعهم ذات مرة، مما يسميه: "نفاذ البصيرة" وقد كان في حالة انبساط:" إن البندقية هي أساس الحكم، هي السعادة في الآخرة للشهيد، والنصر في الدنيا لعشاق السيادة!"‏

    ومرة أخرى قال لهم، متفلسفاً في الدين: " أقول لكم رأيي - وأطلب من الله المغفرة، إن أخطأت - المعجزة النبوية ليست في القرآن، هي في فتح مكة! وفي تحطيم تلك الأصنام القائم منها والماشي على رجلين... هاها ها!"‏

    لم يجرؤ أحد أن يرد عليه، كان عنيفاً بالمخالف،سكتوا على مضض.‏

    إن الحياة التي يريدها لهم ليست هي التي يريدونها لأنفسهم، كل يوم يمضي يزدادون له كرهاً، ولآرائه مقتاً. إنهم يشعرون في أعماقهم أن هذا الرجل الذي يزعم أنه أبوهم ليس أباهم، عندما يخلون لأنفسهم كل واحد منهم يتحدث عن شعوره نحو هذا الرجل الذي يزعم أنه أبوهم، بأنه " أبوهم بالبندقية"! ومن الغد عندما يتلاقون ويتحدث كل واحد عن شعوره، يجدون أنفسهم متطابقين في الشعور: بأنه أبوهم بالبندقية! لكن ماذا في وسعهم عمله؟ أيغادرون الدار؟ هو نفسه قال لهم : كم من مرة : " من لم يرض برأيه وحكمه وأبوته عليه أن يخرج من الدار!"‏

    لايستطيعون أيضاً أن يقفوا في وجهه ويصارحونه بمشاعرهم نحوه، حاشيته، خدمه، عملاؤه، يمنعونهم من كل حركة تخالف الخط الذي سطره لهم.‏

    إن أبّوته لا ينزعها أحد من راسه، هونفسه يؤمن بها، يؤمن أيضاً بأن أغلاطه أصلح لهم من صلاحهم! يؤمن كذلك أن البندقية قادت العالم منذ ان عرف العالم نفسه، وهو يملك البندقية، إنها بندقية محلية خاصة بالاستهلاك الداخلي، من أجله وجدت، يربي بها أبناءه الضالين والمنحرفين.‏

    قال لهم ذات يوم :" بعدي، افعلوا ماتشاؤون. اتفقوا أو اختلفوا، كوّنوا ديمقراطية أو ديكتاتورية ،كل ذلك لا يهمني، لست مسؤولاً عنكم بعد أن أموت، أنا لست نبياً، ولستم مطالبين بالطاعة بعد غيابي من هذه الحياة الفانية التي ملأت عقولكم بالأحلام السخيفة. لكن، وأنا حي، فلا..لا يمكن لرؤوسكم أن تصل إلى منكبي، أنا كالسماء، كلما حاولتم الصعود ازددت أنا علوا. أنا أبوكم وقائدكم، التاريخ قرر ذلك، البندقية أيضاً..."‏

    خضع الأبناء. لم يكن لهم رأي واحد يقاومون به "أباهم". كانوا في كل مرة يحاولون القيام لمواجهته يسدد لهم البندقية فتختلف آراؤهم، هو يسددها فقط في اتجاههم، لأن البندقية حتى لو ضربت لا تقتل الجماعة مرة واحدة! وهكذا .. لم يكن أمامهم في اعتقادهم سوى الرضوخ!‏

    ومضى زمان وزمان، وولد الآباء الأبناء، وذلك "الأب" الكبير متربع على عرش "الأبوة"، ثم جاء زمن آخر فضج أبناء الأبناء. قرروا أن يتحدثوا إليه فحاول آباؤهم منعهم، لكن قرارهم كان أقوى من معارضة الآباء!‏

    استقبلهم " الأب - الأبدي" كما يسمونه، تحدث إليهم كما يتحدث إلى أطفال رضّع!‏

    تحدث هو. لم يرد أن يستمع إليهم، ولم يكن يدري أن الزمان يسير، وأن أشياء الحياة تتغير. خاطبهم بالكلمات القديمة التي خاطب بها آباءهم من قبل. لم يقتنعوا، قالوا له: "إن الزمان قد تغير" قال لهم : " من أين أتى هذا التغيير؟ أما وأنا حيّ فلم يتغير شيء، ولن يتغير شيء، " قالوا له : " أنت الزمان الماضي"، تزعزع لهذا الرد! شعر بمزيج من الغضب والخوف، ذرع القاعة بخطى شداد غلاظ، ثم التفت إليهم، تراؤوا له أصغر من أن يصلوا حتى إلى ركبته فقال لهم باستخفاف:‏

    " أنا التاريخ" قالوا له : "أنت التاريخ الذي مضى"، لم يتمالك من الغضب، أحس أن الدنيا اهتزت تحت قدميه وأن أذنيه طعنتا بخناجر. لم يسمع أبداً كلمات بهذه الحدة وهذا النفاذ وهذا الايلام! قال لهم بقسوة وغضب: " اخرجوا من هذا المكان! اخرجوا من هذه الأرض إنها لي وحدي! " قالوا له : "..." وضع إصبعيه في أذنيه، لم يتحمل مواصلة الحوار، هو متعود على القول لا على الاستماع، أخذ البندقية وسددها إليهم، لكن كل واحد كان يعرف أنها لن تستطيع قتلهم جميعاً مرة واحدة، لم يتزعزعوا ولم يكترثوا ببندقيته، تقدموا نحوه، وقد بدا الزيغ والخوف في عينيه، صرخ فيهم:‏

    " إن الموت أمامكم!" واصلوا تقدمهم وقالوا له : " أنت الموت الذي نرى حقاً، لكننا نحن الحياة: " أخذوا منه البندقية، سقط مغشياً عليه.‏

    شاع الخبر : تناقلته الألسن، حتى إلى أقاصي البلد: سقطت البندقية، سقطت البندقية !"

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()