بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:15:46 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 2280 0


    حلم بلون الليل

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الحميد بن هدوقة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     طلقات بندقية الصيد هي التي كادت تقضي عليك، لا الغارة الجوية، ساقك وحدها التي أصيبت أثناء الغارة..".

    لم أعِ بالضبط أين أنا، ولا ماذا وقع لي، فتحت عيني لكن لم أسمع إلا الصوت. ثم شيئاً فشيئاً تضخمت كلمة "طلقات بندقية الصيد" في رأسي حتى لكأنه أصبح مغارة، تضيئها شمس سوداء، وتردد جدرانها الصخرية الكلمات والطلقات!‏

    " اقتله أفضل من أن يعيقنا في انسحابنا..."‏

    " تموت هكذا خير لك من تعذيب الطاغوت.."‏

    أرى بندقية صيد توجه نحوي بمنخارين أسودين، تضخما حتى صارا مغارتين متسامتتين!‏

    أحسست أن الجبل اخترق رأسي لا الطلقات! أرى زوجة الأفغاني، الممرضة، الطبيب، اختلطت جثثهم وأصواتهم بجثتي وصوتي، وتدحرجنا إلى هاويه لا قرار لها، بها شمس سوداء تمتصنا امتصاصاً في تدحرجنا كثقْب أسود رهيب!‏

    وانتهى كل شيء..‏

    " أنت الآن بالمستشفى العسكري منذ أسبوع، كنت في غيبوبة عندما حملت إلى هنا، لقد نجوت الآن..".‏

    الكلمات بلغة فرنسية خالية من كل لكنه، أنا في فرنسا إذن! لكن ماذا أعمل في فرنسا! شيئاً فشيئاً أخذت تتشكل أمامي صورة رجل ببلوزة بيضاء، أسمر اللون، أوهكذا بدا لي، إلى جانبه ممرضة، واقفين أمام السرير..‏

    "لندعه الآن"‏

    قال ذلك للمرضة، والتفت إليّ :" ابق هادئاً، لا تجهد نفسك، ولا تتكلم، أصابتك خطيرة للغاية.. لكنك نجوت.."‏

    أنا الآن بالمستشفى العسكري... بندقية صيد... غارة جوية... جثث تتدحرج إلى هاوية...‏

    كراس المذكرات يعيد إلى ذهني صور الأيام التي أوصلتني إلى المستشفى العسكري...‏

    كنا نقيم في مغارة تتسع لأكثر من ثلاثمائة شخص، لكن عدد المجموعات التي كانت تنشط في تلك النواحي لا يتجاوز السبعين مسلحاً، بعض المجموعات لايعود إلى المعسكر- المغارة، الا يوماً أو يومين في الأسبوع، أما للراحة، أولاجتماع مجلس الشورى. " الأمير" المسؤول العام على تلك المجموعات لايقيم بالمعسكر، هو موظف كبير، فيماعلمت، بإحدى الوزرات الحساسة!‏

    الذين يقيمون بمعسكر - المغارة، أو يعودون إليها كل مساء هم : المهندس الكيميائي المتخصص في صنع المتفجرات، الميكانيكي، كان اصلاً يعمل في ورشة لتصليح السيارات، ثم انتقل نهائياً إلى الجبل بعد ما انكشف أمره بالمدينة، يتقن فن التسجيل على أشرطة الفيديو والراديو، راقن على الآلة الكاتبة، مزدوج اللغة، يقوم في نفس الوقت بالترجمة وبتشغيل جهاز الارسال والالتقاط، طبيب جراح، امام مفتي، يقوم أيضاً بتعليم القرآن ومبادئ الفقه للذين لا يقرؤون.‏

    أكثر المسلحين لا يعرفون القراءة والكتابة، هم أقسى رجال المجموعة المسلحة واشدهم جرأة وصبراً. يقيم أيضاً بالمغارة ثلاث نسوة، أعمارهن تتراوح بين الأربعين والستين، تطوعن " للجهاد" في سبيل الله!‏

    يدير المركز شاب في الثلاثين من العمر، متخرج من كلية الحقوق..‏

    كل الأجهزة الموجودة بالمغارة، سواء الطبية منها أو الأخرى، حديثة، وصلت إلى المعسكر قبل مجيئي بأسابيع قليلة..‏

    بالمغارة ايضاً مكتبة تشتمل على حوالي مائة وخمسين كتاباً في الإسلاميات السنية والشيعية ومجموعة من تسجيلات الفيديو والصوت.‏

    توجد بالمغارة كذلك صناديق للذخيرة، وخزانة ملابس جنود، ودرك وشرطة، من ملابس القوات الجزائرية. ولحى اصطناعية، وقبعات، وأغطية رؤوس سوداء للتنكر.‏

    باختصار، هذه المغارة عبارة عن ثكنة - مسجد- مركز للتدريب والتوعية!‏

    النساء يقمن بإعداد الأكل، الذي هو غالباً مايكون : "الكسرة"، " الكسكسى"، "الغرايف"، "الشخشوخة"، .... كما يعددن "الروينة" للمسلحين الذين يذهبون في عمليات نائية، الروينة هي دقيق مقلي مخلوط بالزيت والتمر المجفف المسحوق.‏

    لكل واحدة من هؤلاء " المجاهدات" قصة. المجاهدة ربيحة، حكت لي ذات يوم سبب التحاقها "بمجاهدي الاسلام"، (هي تفرق بين مجاهدي الاستقلال ومجاهدي الاسلام.) : " زدت في اليوم اللي راح فيه بابا للحرب، في سنة 40، كنا نسكن في دشرة قريبة من مدينة خراطة، لما عاد بابا من الحرب مالقى حتى واحد غيري، امي وجدة وعمي عيسى قتلتهم فرنسا، في مايو 45.الطيارت ضربت الدشرة، بيتنا تحرقت، كنت صغيرة، أخذتني خالة لعندها، ولما بدأت الثورة، بابا طلع للجبل، في سنة 57، قتلو العسكر، كنت مخطوبة لواحد مجاهد من دشرتنا كنا نتاج في العمر، كان يجي للدشرة ساعة على ساعة، في سنة 60 انجرح من ذراعو، ارجع للدشرة، تزوجنا، لما برا من ذراعو، عاود طلع للجبل، زادت عندي طفلة، في الاستقلال راح للدّزاير، وتزوج بوحدة أخرى، وسكن ثمة، وخلاني أنا وبنتي، هي الآن متزوجة، وعندها ثلث أولاد، زوجي صار ضابط كبير في الجيش. طلّقني، بدون ماتلاقينا وتحدثنا وفهّمني علاش طلّقني .جاتني ورقة الطلاقة للبيت، الاستقلال كان خير علىالناس ماهوش عليّ، يكثرّ خير أهل الخير. ما عاودت تزوجت لحتان تزوجت بنتي، وفي سنة 80، تزوجت بالجيلالي الله يرحمه، مات في أفغانستان سنة 85، ومن هذاك الوقت لا يموني الخاوة... وجابوني لهذا الجبل، عندي الآن أربع سنين وأنا هنا. الحمد لله، هنا ماخصنا والو. نخدمو في سبيل الله، نعاونو أخوانا المجاهدين، وانشا الله نبنو دولة اسلامية تحكم في الدنيا اكّل، هذا هو.."‏

    لم أقرأ قصة في حياتي أبلغ ولا أخصر مما حكته لي بعبارتها الشعبية البسيطة، بالأبيض والأسود، كوثيقة لحياة امرأة، يمكن أن تكون رمزاً لمعاناة النساء في هذه المجتمعات البائسة.كانت تتكلم وهي تعجن الخبز، والعرق يتصبب من جبينها ثم يتجمع في خطين عموديين، يسيلان على صدغيها، الفينة بعد الأخرى ترفع أحد كتفيها لمسح العرق. مابقي من جمالها لم يتكشف لي لأول رؤية. سنها، ملابسها، حياة الشظف التي تعيش فيها، وتضرسات الماضي الكادح الكالح الذي عاشته، أخفى ما يمكن أن يكون بقايا جمال. لهجتها البربرية تعطي مسحة من سحر فريد لعربيتها الشعبية، عندما تقول " بابا " أحياناً تستدرك قائلة :" أبي".كذلك عندما تقول "يما" تتعقبها بلفظة "أمي"، يبدو أن ذلك من جراء تأثير الامام الذي لا ينفك يصحح تعابير كل متكلم، كما لو أنه يحاول توحيد كل شيء وصبه في قالب واحد! أحياناً يضجر من ذلك بعض رجال الجماعة، لكنهم يعبرون عن ذلك بالامتعاض، أو بمغادرة المكان. إنه لا ينفك يردد أمام كل سامع: " إن الجهل ومخالفة النهج الاسلامي الصحيح هو الذي أدّى بالناس إلى ذلك الانحراف اللغوي، ولاسيما في عهد حكم الاشتراكية الكافر الظالم".‏

    يقول دائماً:" العربية هي لغة القرآن ولغة الرسول ولغة أهل الجنة." قال له مرة أحد المسلحين مازحاً : " ولغة أهل النار ماهي؟ " أجابه بآية قرآنية : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" ( الآية 63- الفرقان).‏

    طبعاً، أفراد المجموعة المسلحة كانوا متفاوتين في اقتراب لهجاتهم من العربية الفصيحة، ومختلفين في النطق بها، تبعاً للمناطق التي ينتمون إليها.‏

    كان هذا الامام يردد دائماً في دروسه الوعظية :" حافظوا على الوحدات الثلاث: وحدة العقيدة ووحدة اللغة ووحدة القيادة.." لم يكن يقول ذلك عبثاً، لأن من بين أفراد المجموعات هناك من اعتنق ولو صورياً المذهب الشيعي، وهناك أيضاً من لا يريد التنازل عن لغته البربرية، رغم الذّب الشديد عن الاسلام. وهناك من يدعو إلى استقلالية القيادات العسكرية عن القيادة السياسية، لضرورات معينة، أو لغايات مبهمة. بعض أفراد المجموعات من الذين عاشوا فترى في باكستان أو إيران أو أفغانستان، كانوا ينادونه : " الوحدات الثلاث"، بل أحياناً يسخر الواحد منهم فيثلث بالصليب، لكنه كان أكبرهم ثقافة واطلاعاً بلا منازع..‏

    في هذه الفترة التي قضيتها بالمغارة اكتشفت أن ماصار يربط بين مختلف أفراد المجموعات هو حياتهم الجبلية، أمام " العدو" المشترك، أكثر من قضيتهم. ان اختلافاتهم المذهبية، ولو كانت صورية، كقبض اليدين أو اطلاقهما في الصلاة، وكرفعهما مع كل تكبيرة، أو عدم فعل ذلك كان يؤدي بالبعض منهم إلى اتهام الآخرين بالخروج عن الإسلام، لكن الإمام كان رجلاً قوي الحجة.متدرب على الجدال والنقاش، ماعدا مع الشيعيين، وهم قلة، فلم يكن يحاورهم ولا يحاورونه في مسائل الدين. حظر ذلك على الجميع الأمير الكبير، مسؤول الناحية، بعد ماوصل إليه ماوقع بينهم وبين الإمام من نزاع في إحدى المرات، إلى درجة اتهام كل طرف للآخر بالكفر! بل أحد الشيعة أطلق فعلاً الرصاص على الامام، لكن مسلحاً كان إلى جانبه دفعه أثناء الطلقة فلم يصب الامام.‏

    في الحقيقة، لم أكن أميل كثيراً إلى الامام، كان سريع الاكفار، متعصباً للمذهب المالكي، ولعله كان شعوراً متبادلاً بيننا! لقد كان يحذر مني كمن يحذر من وباء، لكن مهمتي حتمت عليّ السيطرة على عواطفي، فليس من المصلحة معاداته ولا منازعاته، ماعدا الذي وقع بيننا في حوار طويل حول قضايا سياسية ودينية، سيأتي التعرض إليها في حينها، لأن ذلك كان من بين المهام التي تندرج ضمن مهمتي.‏

    اعتقد أنه كان يميل إلى السيدة ربيحة، زوجة " الأفغاني"، كما ينادونها في المعسكر، هي المرأة التي كنت منذ حين تعرضت إلى حكايتها، تقدم إليها فعلاً طالباً يدها فرفضت رفضاً قاطعاً، هو في الواقع متزوج، ترك زوجته وأولاده بالقرية، كبعض رجال المجموعات الآخرين، جميع سكان القرية يعرفونه، على ماسمعت، إذ كان بها اماما قبل أن يدخل الميدان السياسي..‏

    لم يكن الامام وحده الذي خطب زوجة الأفغاني، أفراد المجموعة الشيعية أيضاً، عرضوا عليها زواج المتعة بواحد منهم، حاولوا افهامها أن في ذلك صوناً لها ولهم من نوازع الشيطان، لكنها رفضت، بل هددت بمغادرة المركز، إذا لم يتركوها وشأنها، لما بلغ ذلك الأمير الكبير جمع مجلس الشورى خصيصاً لمعالجة تلك القضية، وتم الاتفاق على أن لا يتعرض لها أحد منذ ذلك اليوم بأيّ مضايقة من ذلك القبيل.‏

    إن هذه المرأة ملأت ذكرياتي ومذكراتي الجبلية، هي نموذج كامل لامرأة أصيلة، متجذرة في الزمن، لكن للأسف، قتلت أثناء الغارة، خسارة‍! إنها هي التي عرفتني بكل من له صلة بالمغارة. المرأتان الأخريان كانتا أقل شخصية منها، احداهما تدعى الحاجة زوينة، والثانية اسمها مبروكة، لست أدري إن كان ذلك اسميهما الحقيقيين؟ مبروكة قتل لها الجيش ولدين شاركا في الهجوم على ثكنة "بوغزول" كثيراً ما تتطوع للقيام بمهمات استطلاعية أو تجسسية، أو تقوم بتمرير أسلحة، لكن إقامتها الرسمية كانت بالمغارة _ المركز، لا تتحدث كثيراً، يبدو أن حزنها على ولديها تحوّل إلى حقد لاحد له، أما الحاجة زوينة فهي أصلاً ممرضة، وهي نفس المهنة التي تمارسها بالمغارة، يقال إنها مطلقة، زوجها كان مديراً لإحدى الشركات، اكتشفت ذات يوم أنه على علاقة مع كاتبته فطلبت منه الطلاق، لم يكن لها أولاد معه، بعد ذلك ذهبت إلى الحج، ثم التحقت بصفوف الجبهة الاسلامية للإنقاذ، ولما تكثفت الأعمال المسلحة، احتيج إليها في الجبل، هي الوحيدة التي قبلت زواج المتعة، كما ذكرت لي زوجة الأفغاني، كانت أقل من الآخرين سناً، حياتها المدينية لم تفقدها نضارتها ونعومة بشرتها.‏

    الطبيب، الراقن - المترجم، مدير المعسكر، لا أعرف عنهم الكثير كانوا بالإضافة إلى مهامهم بالمركز والحراسة يشاركون حيناً بعد آخر في العمليات الكبيرة.لم أكن أعرف أن بالمغارة سجناً، ذات يوم جيء بضابط في الجيش برتبة نقيب مقيداً، قال أمير المجموعة الطبيب ضعه بالسجن، أزاح الطبيب حزمة من خشب إلى جانب مدخل المغارة ثم رفع غطاء خشبياً ضخماً، وأنزل السجين إلى مخبأ تحت الأرض، دخلت إليه ذات يوم فإذا هو خندق واسع، مستطيل، له كوات صغيرة حفرت في الصخر للتهوية.يقال إنه كان من مخابئ جيش التحرير الجزائري. من الخارج لا ترى تلك الكوات، تبدو كحفر صغيرة في الصخر غير نافذة، لما أحيط بها من تمويه.‏

    ***‏

    فكرت أن أعرف رأي مدير المركز - المغارة، في الظروف التي تمت فيها الانتخابات البلدية سنة 1990، وأقص عليه ماحكاه لي صحافي جزائري عنها، التقيت به ببرلين سنة 1991، قلت : قال لي صحافي جزائري عن الانتخابات البلدية التي جرت سنة 1990، والتي كان الفوز الساحق فيها للجبهة الاسلامية للإنقاذ:‏

    " ان " الفيس" استحوذ على البلديات بواسطة الانتخابات، أقول " استحوذ" ولا أقول نجح .لأن الظروف التي أحاطت بتلك الانتخابات كانت كلها في صالحه: البطالة، ارتفاع الاسعار الفاحش، انخفاض القدرة الشرائية بسبب التضخم، نقص المواد الغذائية والاستهلاكية الأخرى، أزمة السكن الحادة، بروز قصور وفيلات ضخمة بالتوازي مع ازدياد المدن القصديرية، النمو الديموغرافي، تفكك الحزب الحاكم وانتقاله في فترة الانتخابات من مقره بقصر الحكومة الحالي إلى قصر زيغزت يوسف، مع ما تبع ذلك من فوضى وضياع الملفات واختلاط المكاتب والمصالح التابعة له، تذمر مسؤولي تلك المصالح والمكاتب، الذين أخذوا يشعرون بأفول نجمهم أمام الحكم الذي ساندوه، أكثر من ربع قرن، وأمام الشعب الذي أصبح يرى فيهم تجسد الرشوة والفساد، دعايات الأحزاب التي كان زعماؤها في يوم من الأيام مسؤولين في نفس الحزب الواحد، وهجوماتهم عليه إلى درجة أن أصبح الناس يرون في مسؤوليه كل الكوارث التي حلت بهم، وأنهم جبابرة، ملكوا السلطة على الشعب بالحديد والتعسف، فخنقوا أنفاسه سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وزيفوا كل ماكان ثميناً لدى الشعب، فجعلوا الدين ملكاً لهم، مسخوا كل مالا يخدمهم تاريخياً، سيطروا على المحاضر، احتكروا المستقبل لهم ولأولادهم، إلى آخره...‏

    بواسطة هذه النتائج من الحملات أخذ الشعب يتذكر المهازل التي كان يحيا فيها، وجد نفسه بعد عشرية واحدة من اليقظة الحالمة تحت شعار " من أجل حياة أفضل" وجد نفسه تحت كابوس رهيب. تذكر ماكان يقال له من أن الجزائر ستصل إلى مستوى إسبانيا، اقتصادياً واجتماعياً وصناعياً، في الثمانينات، وستفوقها بأشوط في التسعينات ‍ كان الحلم هو السيد وكان الغباء لسانه... وهكذا فقدت السلطة كلية ثقة الشعب، وفقدت ثورة التحرير التي كان لها ذلك الرواء العظيم في العالم، كل قيمة ومصداقية. أصبح لدى الناس كل بديل، مهما كان، محموداً. بلغ الشك في السلطة إلى درجة رهيبة، أصبح الناس لا يصدقون حتى مايرونه محققاً أمامهم، المكتسبات الاجتماعية، التعليم، البنيات التحتية التي شيدت، المؤسسات المختلفة التي أنشئت، المعامل ... كل شيء صار في أعين الناس سلبياً.‏

    في هذه الظروف لم يكن أيّ مشروع قادراً على استهواء الناس واستجلابهم وتجنيدهم. كل الكلمات فقدت مضامينها، اصبح الشك في كل شيء ماعدا في الدين.‏

    وكانت حملات رجال الدين، في فترة الحلم وفترة اليقظة الكابوسية، تعمل عملها الذريع بالمدرسة، بالجامعة، بالمسجد، بالادارة. اختلطت المفاهيم، أصبح الدين، الهوية، اللغة، الثقافة، خليطاً غريباً‍! كل حزب يصنع منه "برنامجاً" هذا يجعل الوطن هو الدين.‏

    ذاك يجعل اللغة هي الوطن، ذلك يجعل الأرض هي الوطن والهوية...‏

    في هذه الظروف الغريبة كان كل شيء مهيأ خصباً لغرس أحلام لم يعرفها حتى أبطال القصص المجنحة. حلت الجبهة الاسلامية للانقاذ مشاكل الهوية، مشاكل مستقبل شعب بكامله بكلمة: " الله أكبر"! أكبر من الوطن، من اللغة، من السلطة، من المستقبل، الله أكبر، أصبح هو الخبز، هو العمل، هو البناء، هو ماكان ومايكون! ليس هذا فحسب، أضيفت إلى الدين مميزات مادية تقولب مجتمعاً جديداً، نساؤه يلبسن السواد، رجاله يطلقون اللحى، يرتدون قمصاناً خليجية - باكستانية، بيضاء، ينتعلون نعالاً صحراوية، رؤوسهم مغطاة بقلانس بيضاء صيفية متشابهة! تغيّر الشارع الجزائري بين يوم وليلة، وفقد الناس الزمان والمكان!‏

    في هذا الجو المشحون بالغضب على الحكم، المبشر بالنعيم الأبدي في الدارين، كان الخيار ليس بين حزب وحزب، ولكن بين "الله" و"الشيطان"!..‏

    قاطعني مدير المركز - المغارة : "يكذب، يكذب! لعنة الله عليه!"‏

    قلت له : من فضلك، دعني أتمم لك الحكاية، وبعدئذ، إذا شئت، وضّح لي الحقيقة كما هي أو كما تراها أنت، سكت، فاستأنفت قصة الصحافي:‏

    " أتريد أن تعرف نماذج مما قامت به هذه البلديات؟ بدأت بهدم الشعارت"، من الشعب وإلى الشعب، المكتوبة فوق مداخل البلديات، ووضعت مكانها "بلدية إسلامية"، بدون أيّ اعتبار للقوانين الجاري بها العمل، كما لو أنه يكفي أن يغيّر الشعار لتتغير الأوضاع! وهذا يعني أن البلديات التي ليس مكتوباً فوق مداخلها "بلدية إسلامية" هي لغير المسلمين! وأن الذين يلبسون البدلات والبرانس عوض القمصان والقلانس والنعال ليسوا مسلمين، بدأت إذن بتفريق الشعب وبذر الشقاق والفتنة بين صفوفه.‏

    والسلطة أمام كل ذلك لم تحرك ساكناً، كما لو أنها كانت متواطئة مع "الفيس"!‏

    عندها شرعت تلك البلديات " الإسلامية" في العمل كوّنت شرطة "إسلامية" وصادف أن كان فصل الصيف على الأبواب، فإذا برواد الشواطئ يصبحون عرضة للمضايقات، تمنع في البداية النساء من ارتدء ثياب الصيف، ثم تمنع نهائياً من ارتياد الشواطئ، في حين يمنع الرجال من لبس السراويل القصيرة التي لا تتجاوز الركبتين بخمس سنتمترت! ففي مدينة تيبازا مثلاً كانت الشرطة "الاسلامية" تكيل طول السراويل بالمتر في الشوارع!‏

    كما منعت النساء من ارتداء كل ملبس لا يغطي سائرالجسم باستثناء الوجه والكفين! وشرعت مليشيات الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الهجوم على المراكز الثقافية والفنية وتخريبها، وجمع الكتب غير "الإسلامية" من المكتبات لتدميرها، وعادت مشاهد بغداد عند دخول المغول إليها تمر أمام أعين المثقف الجزائري!‏

    والسلطة القائمة أمام كل ذلك تتفرج!‏

    والشعب أمام كل ذلك يتخدر أكثر ويتجند، مقتنعاً أو طامعاً أو منتقماً من السلطة، فتعددت ألسنة " الفيس"، إلى درجة أن " اللازيز" كتب كلمة " الله" فوق رأس عباسي مدني وعلى بلحاج ومن معهما بملعب خمسة جويلية أثناء عقد اجتماع لهذا الحزب هناك! لقد أصبح الناس يرون بعيونهم المجردة "الله" في "خمسة جويلية"!‏

    طبعاً لانجاح مشروع " الدولة الإسلامية" كل شيء يجوز، حتى العلوم والتكنولوجيا الغربية إذا ساعدت على ذلك فمرحبا بها، لايهم مصدر "المعجزة" إنما المعجزة نفسها كما يتلقاها الشعب البسيط!‏

    أتريد أن تعرف كيف كانت تحل مشاكل الناس في البلديات؟ أحكي لك قصة طريفة سمعتها من لدن شخص أعرفه ولا أشك في صدقه، وهو لا يهمه من يحكم البلاد، قال :‏

    " بعدما أصبحت بلديتنا تابعة " لفيس" ظننت أن مشكلتي السكنية ستحل عما قريب.طلبت مقابلة شيخ البلدية فاستقبلني في الحال، قلت في نفسي هذه علامة خير، لاموعد ولا مماطلة، فتحت الباب، حييتو، رد عليّ التحية، وقال لي " اجلس"، جلست، كان وجهه عليه النور، هكذا بان لي، قال لي في أدب: "سامحني لحظة نكمل هذا العمل ونشتغل بيك :" كان بين يديه ملف ضخم، راح يقلب في أوراقه، ومرة بعد مرة، يعلّم على سطر بقلم، ويهز رأسه ويقول : " سبحان الله العظيم! مايخافوش ربي هذا الناس، ماهومش مسلمين! "‏

    بعد قليل طوى الملف والتفت إليّ وهو يبتسّم:‏

    "أهلاً وسهلاً، واش حبيت؟"‏

    " ياسيدي جيتك على جال السكنى".‏

    " السكنى! الناس مساكن تعذّبو،كلهم يجرو على السكنى، عندك ملف هنا في البلدية والا لا؟ "‏

    " عندي ملفات! في كل مرة يتبدل رئيس البلدية نشكى لو حالي يطلب مني تقديم ملف"‏

    "وماجاوبوك حتى على شيء؟."‏

    " لا في كل مرة نسأل، يقولو لي: ما زالت وصلتش دالتك".‏

    " سبحان الله، لا حول ولا قوة إلا بالله! وين تسكن الآن؟"‏

    " في كوخ قزدير يا سيدي ..."‏

    " طيب، تحب شقة نتاع بيتين والا ثلاثة؟"‏

    " اللي جايا سيدي، اثنين والاثلاثة، الحاصل، اللي كان.."‏

    "كم عندك أولاد..؟"‏

    " ستة، وأنا وأمهم..".‏

    "يا حسراه! يلزم لك بالأقل شقة نتاع أربعة أو خمسة بيوت .."‏

    حسيت لماقال لي: " أربعة أو خمسة بيوت" القدر نشق علي! بديت نتصور في نفسي أنا وأولادي ساكنين في شقة واسعة في عمارة من هذه العمارات التي كل يوم تخرج من الأرض، وماصحّ لي منها والو، لحد الآن!‏

    طلب مني نقدم ملف كالعادة وعقد الزواج وورقة الحالة المدنية للأولاد وتوصيل الكهرباء ومبلغ عشرين ألف دينار. كنت عارف من قبل واش يطلبو، قدمتلو الملف كلو في الحال، أعطى لي توصيل على المبلغ المالي مكتوب فيه : "تسبيق على شقة بأربعة غرف " ...‏

    وانتظرت، وانتظرت، وتطورت الأحداث ...."‏

    قال محدثي بعد ما انتهى من حكاية الرجل الشعبي :‏

    " كذا كانت الوعود تقدم للشعب! لقد استعمل " الفيس" كل أساليب الترغيب والترهيب لجلب الشعب إليه، وكوّن الآلاف من الجمعيات الخيرية عبر التراب الوطني، لتقوم في الظاهربمساعدة المحتاج في الميادين المحددة لها، بينما هي في الحقيقة كانت مهمتها الأولى هي تأطير الشعب وتجنيده لليوم الموعود. الذي يظن أن "الفيس" كان حزباً مخطئ، لقد كان أربعين ألف جميعة "خيرية"! وكان اثني عشر ألف مسجد! وكان لسانه آلاف الصحف المتفرقة في البلاد العربية والاسلامية والغربية.‏

    نسج شبكة من العلاقات والروابط مع كل من له مصلحة في جعل الجزائر "مخبرا" لتجربة حكم جديد، تقوم على أنقاض الشيوعية، لمواجهة الديمقراطية في العالم النامي.".‏

    هذه هي شهادة الصحافي كما حكاها لي، لم أزد فيهاحرفاً، ماعدا الصياغة، ماذا تقول فيها؟‏

    " ماذا تقول أنت ؟!"‏

    " أنا رأيي لم يكتمل بعد، أنقل ماأسمع"‏

    " إنها شهادة زور، تلك هي دعاية أعداء الإسلام، في سنة 1990، لم تجد بلديات " من الشعب وإلى الشعب" ووجدنا بلديات " من العائلة إلى العائلة "! ما يسمى بالمراكز الثقافية كان مراكز دعارة ومخدرات وانحرافات، المكتبات التي ذكرت، كانت مكتبات بوليس وجنس وبورنوغرافيا من النوع الساقط الرخيص، هذا الصحافي الذي حدّثك - كما قلت - هو وأمثاله، إذا كانوا مسلمين فلماذايخافون الدولة الإسلامية. نترك الشعب الجزائري يحكم: هل يريد أن يكون كما كان دائماً عربياً مسلماً بربرياً، أم يريد أن يكون شيئاً آخر؟ إنهم لم يقبلوا حكم الشعب واختياره، يقولون: " إن الشعب غير واع، وإن الحزب الذي حكمه منذ الاستقلال عزله عن كل قضية مصيرية.. ونحن أيضاً نقول : إن الحزب الواحد الذي حكم البلاد منذ الاستقلال حرم الشعب من التعبير عن إرادته، ونقول كذلك : ولما تمكن الشعب الجزائري من التعبير الحر عن إرادته اختار...‏

    ماذا تقول في أناس يتهمون دولة قبل أن توجدّ؟ دعونا نقم الدولة الإسلامية وانظروا من بعد ... لا، لا يريدون رأي الشعب إذا لم يكن في خدمة مصالحهم، يقارنون الجزائر بأفغانستان وإيران والسودان صحيح، كلنا مسلمون، لكن ظروف كل بلد تختلف عن الآخر، الجزائر لها خصوصيات ومقوّمات وتاريخ طويل ورجال... فلماذا يصبون الناس في قالب واحد؟‏

    يمكن أن نكون قد ارتكبنا أخطاء، لسنا معصومين، لكن تجربتنا لم تبدأ بعد، قضوا عليها في المعهد، فكيف يحكمون في بلديات بالكذب والوعود الحالمة؟‏

    أنت مثقف، باحث وصحافي قدير، تجولت في عدة أقطار، حاول أن تستخلص النتيجة، وحدك، قارن بين انسجام مسعانا وتناقض أقوالهم ومساراتهم، هم يريدون إقامة دولة مصالح ملائكية، بلا شعب. ونحن نريد إقامة دولة إسلامية في أرض إسلامية لشعب مسلم. هذا هو الفرق الجوهري بيننا وبينهم. نحن نستمد قوتنا من الله ثم من الشعب، وهم يستمدون قوتهم من الغرب، ليس كل الغرب، بل الغرب الاستعماري الذي استعبدهم... أما الغرب الواعي، العارف فيدرك أن الدولة لا تقام بلا شعب، وعلى غير هوية وتاريخ، إنهم يستعملون مفاهيم لايدركونها، أو يدلسون على الشعب، عندما نقول نحن، نريد بناء دولة إسلامية فذلك يعني أن برنامجنا السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، يستمد روحه من القرآن والسنة النبوية الشريفة، فهو برنامج واضح متكامل، متجانس، يندرج ضمن مسار تاريخي وتطور حضاري طبيعي. أما هم فيقولون : نريد بناء دولة عصرية.... لقد أقاموا دولتهم العصرية منذ الاستقلال إلى اليوم، فما هي النتيجة؟ إنها أمامك... وإذا لم تكن دولتهم هذه عصرية، فماهي؟ إنهم يدلسون، ويجهلون مفهوم الدولة العصرية! في الغرب الذي أنت منه لم تقم الدولة العصرية هكذا طفرة من العدم، بل كانت نتيجة طبيعية لصراعات سياسية ودينية وفلسفية واقتصادية... فهل يمكن أن تجتث هذه الدولة العصرية من تربتها ومحيطها وجذورها وتغرس في أيّ مكان من العالم؟ نحن لا نقول ذلك. لأننا نرى كل تربة تنبت نباتها".‏

    هذا ما أجاب به مدير المركز - المغارة، يقال، إنه منذ أن كان طالباً بكلية الحقوق كان من الدعاة السياسيين المشهوريين " للجبهة الاسلامية للانقاذ " قبل بروزها السياسي الشرعي إلى الوجود.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()