أحد "الأبناء" الجالسين هناك راح يعد قطرات المصل النازل من الزجاجة إلى الأنبوب البلاستيكي المثبت بذراع المريض. أحد الأطباء يراقب خريطة النبض على جهاز بغرفة الإنعاش.
الأجهزة الطبية على أهبة للتدخل في أيّ لحظة لتقدم للمريض مايحتاجه من عون.
المريض ينظر إلى الزجاجة نظر الميت، لاخفقة، لارعشة، على شفتيه ابتسامة حوّلتها رغوة السيروم إلى اصفرار ساخر.
إنه حيٌّ بكل ذرات روحه، لكنه لا يستطيع الكلام، لا يستطيع الحركة.
"الابن " الأول في عينيه دمعتان تلمعان يقول في نفسه: "لو انقطع السيروم عن تغذية هذا الجسم - الهيكل لانتهى الأمر !"
"الابن" الآخر يفكر : " إنه حتى لو بقي بلا سيروم لما مات! لأنه هكذا هو، يتحدى الموت دائماً، لايموت! ".
"الابن " الثالث تنغصه قضية الوصية، تشغل كل خواطره، "المأساة، لو لم ينطق، يموت قبل كتابة الوصية!"
"الابن " الرابع في المرحاض...
"الابن" الخامس بالمطبخ يطارد إحدى العاملات!
"الابن " السادس يغط في نومه، إنه يرى في المنام عزرائيل ملك الموت قد جاء لقبض روح الأب، لكنه غلط، فقبض روحه هو بدل الأب!، إنه في كابوسه، ذاك يحاول الخلاص!
"الابن " السابع يسبح - على الطريقة العربية - في مسبحة من ذهب...
"الابن " الثامن : "لا يموت! يريد أن يبقى وصياً علينا إلى الأبد !"
"الابن " .....
المريض ينظر إلى الزجاجة، الزجاجة تتحوّل إلى ثريا ضخمة منيرة بجامع الأزهر، على ضوئها تتشكل حلقة من الطلاب المسلمين، يتوسطها أستاذ أزهري في عمامته وجلبابه الطويل.
ملامحه تشع ذكاء وحيوية، أخذ يقرأ قصيدة من الشعر الحر، قدمها له الطالب (المريض).
الشيخ يقرأ على الطلبة القصيدة، بعدما قرأها لنفسه:
" أقسو على نفسي ،
أهجر اولادي وبيتي..
أهجر زوجتي
أنسى حبي الكبير وأنا صغير
أهجر خمري وملذاتي
أحيي ليالي في خلوتي
أحادث نفسي بالأغنية الجديدة،
بالحياة الجديدة.
حيث الأفق والشاطئ يتعانقان،
بأذرع وردية - لازوردية!
حيث الخبز والحرية يتضاحكان
على شفتي فتاة عربية.
هي الحب صار أغنية!
"أقسو على نفسي،
أفتش في متاهات ضميري،
في أقاصي وجودي،
في ذارت دمى،
عن نقاط جديدة،
لأغنية جديدة
حيث الأفق والشاطئ يتهامسان،
بالكلمة الجديدة،
حيث الخبز والحرية يتناجيان،
بأسماء جديدة،
في أرضي الجديدة."
البسمة- الحلم تغمر وجه المريض. أحد الأبناء يلاحظ انبساط وجه المريض :لا يموت، إنه يسخر منا، يمكن أن يبقى هكذا إلى مالا نهاية!"
الابن الأول، لا ينظر إلى الوجه، ينظر إلى الزجاجة التي تطلق قطراتها في مهل، يتساءل : "ماقيمة الحياة إذا تحولت إلى أجهزة خارجية، ليست هي أجهزة الجسم؟"
المريض يستمع إلى الصوت العذب، :" بحيرا - الأزهري" يقول له:
" أنت يابني لن تكون كشمعة الشمع، تضيء على الناس باحتراقها، أنت شمعة من كهرباء! هاها ها!"
يضحك الشيخ الأزهري. لقد وجد الكلمة! شمعة من كهرباء في الأزهر البحث كله عن الكلمة! الكون كلمة! رسالات الأنبياء كلمة! أحكام الجلادين كلمة! الحب كلمة!....
" أنت شمعة من كهرباء تضيء ولا تذوب ! هاهاها!..."
الطلبة يضحكون، الطالب - الشاعر لا يضحك، يستمع، يفكر في الإضاءة بلا احتراق! : " بحيرا الأزهري مصيب. أقسو على نفسي ..... لا أحترق..."
الشيخ الأزهري فتحت نفسه القصيدة إلى الحديث:
" كنت كثيراً أرغب بالالتحاق بالجندية، تعتريني في بعض المرات حالات لا أستطيع تصويرها لكم! أتمثل نفسي ضابطاً، أرى الناس صغاراً أمامي، أمام فوهة بندقيتي، صغاراً بشكل غريب! وأروح أحلم، ملتذاً بالقوة التي أعطتني إياها البندقية والبذلة العسكرية.وعندما يعود أبي في المساء من عمله بمزرعة الباشا - كانت مصر كلها مزارع للباشوات، حتى خان الخليلي - عندما يعود أبي قلت، أعرض عليه رغبتي فيرفض، وأروح أحاول تحسين حياة الجندية له، أصور جوانبها المضيئة، أزوقها بكل الألوان التي يسعفني بها خيالي، لتبدو له جميلة، جذابة، لكنه لا ينثني. خلق لبناء الأهرام كأجداده! يقول لي: " كل شيء ولا الجندية! عاطفته "البوصيرية" طاغية على مشاعره وأفكاره، حاولت إقناعه عن طريق الدين، قلت له: " إن الدنيا هي الطريق السريع إلى الجنة! كل أفكاره، حاولت إقناعه عن طريق الدين، قلت له: إن الجندية هي الطريق السريع إلى الجنة! كل الفاتحين هم الآن في الجنة!، أجابني : "هل الباشا كان جندياً؟ هل جده كان جندياً؟ رأيته في المنام في الجنة، ناولني لبنا أشربه من واد بالجنة!" حاولت إفهامه أن وادي اللبن رمز، قلت له : "إن حرمانك وعملك ببستان الباشا هو الذي أراك جنته، علينا نحن أن نبني جنتنا.
الجندية هي الطريق..." لكن كما قلت لكم: هو من بناة الأهرام، يبنيها للباشوات!"
" أما خالي فشيء آخر، كان دائماً يقول : الذي يريد صنع مستقبله في بلدنا عليه أن يلتحق بالثكنة، لا بالمدرسة!"
الطالب - الشاعر يعي كل ذلك، يبتسم : " الجنة تحت ظلال السيوف"، لا في أروقة الأزهر! الحلم ليس دخاناً يعرج إلى السماء، هو سيف مضيء!"
الجانب الفارغ في الزجاجة أشد ضوءاً من الجانب الممتلئ، ومع ذلك فالجنة تحت ظلال السيوف!، والبندقية في البلدان الملعونة طريق إلى السيادة! الشيخ الأزهري لم تمنعه العمامة من الرؤية البعيدة!
المصل يقطر على مهل، في استطاعة الموت أن ينتظر، في استطاعة الحياة أن تتمدد، الحلم يختلط بالشعر وبالموت:" أقسو على نفسي، أفتش في متاهات ضميري، في ذارت دمي عن نقاط جديدة، عن حروف جديدة، عن أغنية جديدة...."
يختلط كل شيء في ذهن المريض، الحياة المرضية صيّرت الذكريات بلا زمن، بلا فضاء.
المسكنات أزالت جوانب العنف والمرارة من حياته الماضية، كل الأشياء التي عاشها من قبل هاهي ذي تتحرك في خياله بلا أصوات!...
انسحب الأبناء من الغرفة ماعدا الابن الأول، الزجاجة توشك أن تلفظ من فمها آخر قطرة، ينظر إلى وجه المريض، تستولي عليه الحيرة والذعر!، يتأهب ليصرخ، لكن الكلمات كانت أثقل من حركات الممرضة التي خرزت الإبرة في الزجاجة الجديدة، بمجرد أن لاحظت انتهاء السابقة.تساءل وهو يشاهد المريض أغمض عينيه؟ طمأنته الممرضة: إغفاءة عادية تشبه النوم وليس نوماً "..
فكر في أن الوصية التي هي مثار جدل بين الأخوة لا معنى لها، الحياة التي تربط نهايتها في أحسن الأحوال بزجاجة سيروم، لا تستحق وصية، القانون واضح: يأخذ كل ذي حق حقه، فلمّ الوصية؟
المريض يفتح عينيه ينظر إلى الابن الباقي بالقرب منه، ينظر إلى الزجاجة. يحس بنشاط ذهني، تبرز في نفسه قصيدته القديمة، يوم أن كانت أحلامه أكبر من رأسه، الشيخ الأزهري يثني عليه: "أنت شمعة من كهرباء!...." مسكين ذلك الشيخ! شمعة من الكهرباء عندما تحترق لا تضيء على أحد، الباشوات يخرجون في الظلام، عندما تحترق الشموع! خان الخليلي ليس ملكاً للأزهر، بل للصاغة. مسجد الحسين يصلى فيه الصاغة والباشوات، أما الفقراء فينامون حواليه بالعراء! لن أكتب وصية! كلهم .... لكن أنا الذي عبّدت لهم طريق القساوة!
أقسو على نفسي، أهجر أولادي وبيتي. أهجر زوجتي.."
تبرز صافية في ذهنه صورة الزوجة الجميلة :" كم هي جميلة! نور برز في حياتي المظلمة، عطرٍ ملأ كوني شذاء، حقيقة جعلت لحقيقتي غاية! يا لجمالها! أحببتها...كم أحبها! ها أنذا أتركها لأزواج آخرين..!"
الغربة سيذوقها كل إنسان.... غربة الموت..!
الزجاجة لابد أن تفرغ..
" هل أحبتني هي؟ أوصي بمن تتزوج بعدي، لا، لن يكون!، لا أوصي لزوجتي بأحد، لتتزوج هي حرة، كماتريد! أنا أرغمتها على الزواج، لكنها في النهاية أحبتني! قالت : " أحببتك لأنك لا تتكلم ." هل أحبتني حقيقة؟ أنا شمعة من كهرباء، إذا احترقت احترقت..."
أقسو على نفسي،
أهجر أولادي وبيتي،
أهجر زوجتي ..."
" راعي قريتنا كان متزوجاً أغناماً! "الخوجة" هو الوحيد الذي كان يملك أغناماً، ضرب أحد القرويين بسوطه، قال له القروي :" لا تضربني، أنا ابن عمك" أنهال عليه بقساوة وهو يضحك: "خذ ياابن عمي !" أيام اللعنة!"
ود أن يقوم على هذه الذكرى المؤلمة، لكنه وجد نفسه، قد فقد التصرف في أعضائه. امتلكه الغضب، أحس بسحابة كثيفة تغطى الجوانب المضيئة في نفسه: "لو يتزوجها بعدي خوجة!:
" خذ يابن عمي! هاها ها!..."
تزداد السحابة تكثفاً، تصير ظلاماً صلباً!
تقوم في نفسه خاطرة مضيئة، ترتفع إلى حيز العقل:" أبناؤها لا يقبلون! يمنعونها من كل خوجة وخواجة!"
أبناؤها...
الابن السابع يسبح بمسبحة من ذهب..
الابن السادس خائف من عزرائيل..
الابن الثامن مغرم بالاستماع إلى إذاعات الخارج ليعرف مايجري في الداخل!
الابن التاسع يشرب " جوني".....
الابن العاشر يدخن "هافانا"...
" لا أوصي .... هل أنا أذكى من نبي ؟"
الابن الخامس بالمطبخ مغضباً: " لاشك أنها لمن هو أقوى مني !" أغضبته العاملة المنزلية العروب، حاصرها في إحدى زوايا المطبخ، التصق بها، وقبل أن يقبلها فاضت المغلاة على الموقد تخلصت منه، " اللعينة، لها عشيق، أطردها لأعرف... أخرجي من هنا اللحظة! اخرجي كلك، بنهديك، بخصرك، بعينيك، بشفتيك، بسنواتك الثماني عشرة، اللحظة!".
الممرضة تخرز الإبرة، المريض يقول في نفسه: " خذ ياابن عمي !"
الأبناء يدخلون الغرفة، يسألونه عن حاله، لا يجيب، لا يستطيع الإجابة، ينظر إليهم واحداً واحداً، يبتسمون له، يلتفت أحدهم إلى رئيس المشرفين على العلاج.... الجواب هوهو: " حالته مستقرة" - " هل يمكن الحديث معه؟" - " لايستطيع الإجابة " - "أليست هناك وسيلة لانطاقه؟"..
- " ليست هناك وسيلة" -" لو كتبنا إليه أسئلة وطلبنا إليه أن يجيب بنعم أو بلا ؟"
- " لايستطيع". "لو طلبنا إليه أن يجيب إشارة؟" _ " ذلك ممكن".
يتقدم صاحب المسبحة ووراءه الآخرون: " نرجو لك طول العمر. نرجو لك استعادة صحتك ونشاطك. بدونك لسنا شيئاً، أنت أبونا، أنت الذي جعلت منا العظيم عظيماً والوجيه وجيهاً. يدك عليا، العمال ينتظرون منا الرد على كثير من المسائل، نحن لم نصل فيما بيننا حتى الآن إلى حل. نرجو لك طول العمر، جاوبنا إشارة:
- " من يحلب البقر؟ "
المريض ينظر إلى السائل، لا يرفع بصره ولا يخفضه.
_ " من يمسك البندقية؟"
المريض لا يجيب.
- " من يسيّر معمل "البيرة" ؟"
المريض لا يجيب ..
- " من يأخذ مصنع الزجاج؟"
المريض لا يحرك ساكناً:
- "من يتولى المزرعة وديونها؟ "
المريض لا يجيب:
- " من يلبس برنس الذهب؟ "..
المريض لايجيب :
- " من يذهب إلى الحج؟ "
يتدخل رئيس المشرفين على العلاج، يلاحظ أن الجواب على كل تلك الأسئلة يتعب المريض، الأسئلة وحدها تتعبه..
يتساءلون : ماذا يفعلون؟ المريض ينظر إليهم، لا يخفض بصره ولا يرفعه، على شفتيه يشع باستمرار ذلك اللمعان الذي يشبه البسمة والسخرية والوعيد!
لاحظ الابن الثامن أن الأسئلة لم تكن صياغتها صالحة، لا يمكن الجواب عليها بنعم أو بلا.
كان الأفضل في نظره أن يكون السؤال هكذا: يتقدم أحدهم يسأل المريض هل فلان يأخذ كذا؟ الخ.. أجابه صاحب المسبحة : "لو اتفقنا على تقديم واحد منا إلى شيء معيّن لما احتجنا إلى أجوبة المريض! نحن اضطررنا إلى سؤاله لأننا مختلفون -" ومع ذلك فالأسئلة فاسدة"، - في الواقع الأمر يتعلق بشيئين فقط: البندقية والبرنس، إذا شئتم، نصطف أمامه، ويضع كل واحد منا يده على صدره، وعند ذكر السؤال، فإن خفص بصره عند وضع أحد منا يده على صدره فمعنى ذلك أنه وافق، وإن رفع بصره فهو غير موافق" - لكن أن لم يرفع ولم يخفض بصره، ماذا نفعل ؟" - إذا رآنا مصطفين لابد أن يفعل !"
تقدموا من جديد إلى الأب، وأفهمه الابن السابع الطريقة التي اتفقوا عليها، وقال له: " ينبغي أن تجيب، ياطويل العمر، لا ترهق نفسك، نحن نود أن تحيا، أن تبقى لنا سنداً وسيداً، لكن مع ذلك، نحن في حاجة إلى جوابك: من يأخذ البندقية؟"
يضع الأبناء أيديهم على صدورهم ويتقدمون الواحد تلو الآخر، لكن المريض لا يرفع بصره ولا يخفضه!
يتقدم الابن السابع من جديد: " يا سيدنا، يا رقيق القلب! (يريد أن يقول: ياقاسي)، يامن أحبنا وأعزنا وصمد للزوابع من أجلنا: من يأخذ البرنس ؟"
يصطف الأبناء من جديد، ويتقدمون الواحد تلو الآخر... لاجواب! المريض لايرفع ولا يخفض بصره، نظراته يشع منها الزجاج لا العاطفة!
يحتار الأبناء : "مالعمل ؟".
يتكلم الابن الأول : " لو أجلنا هذا الأمر ...".
يقاطعه السابع: " لو أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم، لما ذبح الحسين!"
- " ومايدريك؟ "..
المريض سمع الحديث، عيناه اتجهتا إلى زجاجة السيروم، رئيس المشرفين على العلاج يرجوهم أن يخرجوا إلى الغرفة الأخرى ويتحاوروا هناك.
في الغرفة الأخرى جرى بينهم، الحديث التالي : - " إنه يعاني من آلامه، ألم تبق في قلوبنا ذرة من رحمة ؟" - لو عملتم برأيي لما وصلنا إلى هنا". - القرعة تعتبرها رأي! " - " ولم لا ؟.." -" لماذا لا نذهب إلى ضريح سيدي عبد القادر...." - " سيدك عبد القادر لا يستطيع شيئاً. الميت لا يقضي بين الأحياء. - إذن كل الشرائع لايحق لها أن تقضي بين الأحياء في نظرك !"
-" لم أقل هذا" أخشى أن لا يموت وينتقم منا! " - " لابد أن يموت، لابد.." - لماذا لابد؟" - لأن الموت حق"، أخشى أن يكون له أبناء آخرون! - " أبناء آخرون ؟". -"أين هم." - " نحن نعرف حياته بعد ميلادنا لا قبل ".. -"هل كانت له حياة سابقة ؟" - بالطبع، مادام هو أبونا !" - " حديثك ينغّص" - "لذلك لم أتكلم".
المريض ينظر إلى الزجاجة. الزجاجة تقطر في توان ورتابة، لا تعرف لم تقطر ولمن تقطر؟ لاتسأل إن كان مايخرج منها حياة تسر، أو موتاً يحزن. قد يكون كل مافي الكون يتصرف بنفس الأسلوب، بالمصادفة والعفوية الكامنة فيه، أما الإنسان فحمقه أو همه أن كل شيء وجد، من أجله !
الزجاجة لا تعرف المريض، لا تدري أن حياته مهمة جداً. هو يعرف ذلك. يعرف ذلك منذ اللحظة التي رمى فيها العمامة الأزهرية، ليسلك طريق البندقية! الفلاح الجزائري في اللحظة الحاسمة رمى العمامة، عرّى رأسه! عندما تصير البنادق هي الأقلام والألسنة، ينبغي للعمائم أن تستريح، في القديم، كانت العمامة رمزاً للرجولة، لكن الدنيا تغيرت، العمامة لم تعد رمزاً ترتاح إليه النفس. الرؤوس كبرت مطامحها!
حذره بعض زملائه الطلاب من خطورة المغامرة، لكن حكاية الشيخ الأزهري حسمت في نفسه كل تردد :" الذي يريد صنع مستقبله، عليه أن يلتحق بالثكنة لا بالمدرسة !..." حقاً، أمام البندقية، يصغُرُ الرجال ويعظم آخرون! آلاف النساء أخذن سبايا أيام الفتح، أمام أعين آبائهن أو أزواجهن، الخيزران أنجبت هارون الرشيد، والبربرية الأخرى أنجبت عبد الرحمن الداخل، ولكن التاريخ لم يحفل بهما، لم يحفل بالسبايا، حفل بدهيا البربرية، لا التاريخ ولا مزوّره استطاعوا زحزحته عن موقع العظمة الذي تبوّأته بين قومها! البندقية، كتبت أسماء بنور أزلي في مسيرة التاريخ، لتنير الطريق إلى عشاق البنادق في كل زمان ومكان! تاريخ الملوكية الطويل أوقفته في لحظة دبابة، هنا أوهناك! قرون الاستعمار والغطرسة والأحذية الثقيلة، التي داست كرامات الشعوب أوقفتها عصي الرعاة وفؤوس الفلاحين! الطريق مضيء إذن أمام الطالب الأزهري!
ثم تعسر الحياة وتعذب، تتعقد وتسترسل، ثم تغيب الشمس حتى لا تكاد تشرق، ويطول الشتاء والليل، ويتعانق الأمل والألم تعانق هيام مقدس، تهون الغوالي، تصغر أشياء الحياة ويصغر معها الرجال، تبقى البندقية وحدها قائمة،، تمثل القيّم والشرف، وتعبر وحدها عن أمل المداسين والمحرومين!
وتلك المرأة الجميلة، فاتنة الرجال وقاتلة الرجال!، تحنو على الطالب الأزهري فتنيله منها ما أنالته غيره، من عشاق الذرى! ثم تعنف به يوماً، وتلين له أياماً، تدفعه إلى حبها في يأس وعن حبها في أمل، تتكشف له شيئاً فشيئاً أحابيلها ومحاسنها معاً، تعطيه من ثغر واحد، الحب والمرارة! تغض الطرف عن عيوبه، الريفية والأزهرية، تحدثه عن ماضيها المثقل بالأمجاد واللعنات، تحدثه عن المستقبل الذي تعود لها فيه عذريتها وطهارتها. تعده، تمنيه. ثم تعده، حتى ليرى المستقبل أمامه، ويراها عذراء! آه، من جمالها وشقائها! آه، من وعدها ووعيدها! لكن حبها يملأ عينيه، فلا يرى سوى حبها، فتقول له: "حذار، /الحب لا يلد أكثر من الشعر. البنادق هي التي تلد القادة، " يحدثها في منلوغ شفاف ملتهب: "من جداول أحلامي أروي ظمأك، من ألحان راعي قريتنا الصغيرة، أكتب لك أغنية، أغسل وجهك بحفنة من أشعة الفجر، أكسو روحك بالشفق تنسجه بندقيتي، أكتب لك شعراً كضحكات الأطفال براءة، كثغاء الخراف وداعة، كعطور الزهور شذاء، أصعد كل صباح إلى أعلى سماء وأنادي في الكون باسمك، حتى تصيري أنت الكون، كم أحبك، وأنا أتألم! كم أحبك وأنا أحلم! إني لأرى ذلك المستقبل الذي حدثتني عنه ذات سحر، وأراك تخطرين في ثوب من أشعة الفجر!
تحتضنه، تقبله، تذوب عطفاً عليه وعلى جسمه النحيل الهزيل الذي يضم تلك الإرادة العالية، تود لو استطاعت أن تجمع له كل جداول حبها السائلة في الماضي البعيد ليزداد عزماً وإصراراً ...
يمشي في مهمته، يسير إلى مستقبله بخطى ثابتة ليصطاد النجوم والأشعة!
تصطف الدبابات في صفوف طويلة لتحجب النهار.
تغير الطائرات في غطاء كثيف لتمنع الضوء من الوصول إلى الأرض.
تضيء الأرض بنورها الكامن في أحشّائها.
والمرأة الجميلة تتفرج!
إنها لا تخاف الليل وقد غازلت القمر!
ويتقلص المكان فيصير غرفة، ويتجمد الحلم فيصيرزجاجة معلقة في قضيب من حديد!
وتشتد رغبة الأبناء في معرفة الوصية :
- " ترى ماذا سيقول أبي في الوصية ؟"
- " ترى ماذا يترك لنا في نهاية الأمر؟.."
- " وإذا كان له أولاد آخرون؟..."
يدخلون الغرفة من جديد، ينظرون إليه، ينظر إليهم. يتقدم الابن السابع:
- " أيها العزيز الذي احترمناه وأحببناه..."
الابن الرابع : " أيها العزيز الذي نحترمه ونحبه ..."
الابن السابع: " أوصِ كما أوصى أبو بكر ..."
الابن الرابع: " أوصِ كما أوصى عمر .."
الابن الأول : " كن رسولاً!"
يتدخل المشرف على العلاج: " من فضلكم، إنه في حالة إرهاق شديد!"
يخرجون مرة أخرى إلى الغرفة المجاورة.
كلماتهم للمريض بقيت ضائعة في الغرفة، لم تصل مباشرة إلى وعي المريض ماعدا الكلمة الأخيرة :" كن رسولاً" يتحدث المريض بإجهاد إلى نفسه: " أكون رسولاً؟ رسول من؟ أنا عاشق! "
تتخذ ملامح الزوجة الحبيبة في خياله وجوداً قوياً: يسمع صوتها يحدثه، يحذره، ينبهه: :" لاتكن غبياً. أنا لم أخلق لواحد، لست كباقي النساء، أحب من أحبني، لكن لا يمحو حب اللاحق حب السابق! لست ملكاً لأحد، أنا من نمط آخر، حبي أوسع من أن ينحصر في واحد، خذ مني ما أمنحك، أرو شبابك ونهمك، كن كعابر سبيل يتّلوى ظمأ فوجد عيناً ماؤها ثجاج.... لا تسأل "من شرب قبلك، ولا من يشرب بعدك!"
"المريض يروعه هذا المنطق الصارم : " يا إلاهي! ما أصغر حبي، وأنا لا أدري!"
" لاتسأل : من شرب قبلك ولا من يشرب بعدك.." تتلاشى الكلمات، وترتسم زجاجة المصل فوق رأسه، وتتجمع بقايا كلمات في ذرات وعيه القاصي:" أنا شمعة من كهرباء، تتكسر، تتحطم، ويبقى النور في الخيوط، النور لا يحترق. شمعة أخرى وينطلق النور!، لست أنا مصدر النور، لم أكن سوى شمعة لبعض الوقت، لا براز القليل القليل من النور... لم تكن الخيوط دائماً صالحة، العواصف تأتي على أصلب الأعمدة، ينبغي لاستمرار النور أعمدة كثيرة، وشمعات كثيرة! يدخل الابن الأول :" يحدث أباه بهدوء: " أيها الرحيم، قل لأبنائك ان سألوك:" لم أترك لكم سوى أم، فهل تقسم الأمهات؟".
ينظر إليه المريض ملياً مبتسماً، يقبله بنظراته، يودعه، يغمض عينيه!