ها هو ذا السائق يدور مبدداً بقايا عتمة الليل. بمصباحيّ "البوسطة"، مطلقاً صوت بوقها بين حين وآخر. يتوقف أمام هذا المنزل وذاك، ليجمع أولئك الذي أبلغوا معاونه منذ مساء البارحة، عن عزمهم على السفر، يأخذهم من بيوتهم، ويوصل كلاً منهم إلى بيته.
عادة ربما تفردت بها هذه القرية، ولعلّ السبب أنها ذات شوارع عريضة مستقيمة، وليس فيها حارات وأزقة يصعب دخولها، فقد بنيت على هذا الأساس، ولم تعرف تجاوزات أو أبنية عشوائية. وما أن ينتهي جمع الركاب، حتى تعود إلى ساحة السوق، فيصعد إليها من تجمع فيها ممن لم يُعلموا عن سفرهم، أو أولئك الذين نزلوا من قراهم الجبلية التي لا طرق إليها. وفي الخامسة والنصف، أو السادسة إلا ربعاً على أبعد تقدير، تمضي متمهلة خارجة من القرية، مطلقة عنان بوقها بزفرةٍ طو..يلة، وصمت شامل يلف الركاب.
- أما زال بعضهم يكبت خوفاً من ركوب البوسطة؟. ألا يتشوق بعضهم للحظة الوصول ليرى ذلك الحلم.. الوهم، الذي طالما داعب خياله، وهو يسمع أعاجيب لا يستطيع أن يتخيلها عن ذلك العالم.. المدينة؟. ألا يحسب بعضهم كيف سيتعامل مع أولئك الناس الذين يقطنون المدينة؟
دخان لفافة المعاون، وتيقظ السائق، وصمت الركاب، ودوران //دواليب// "البوسطة" على طريق وعرة صعبة غير سابلة، تدور وتقفز وتهبط وتهتز وتميل وترتدي أثواب غباره، وقد قطعت ثلاثة كيلومترات، فظهرت في الأفق -خلف الجبل الواطئ- خيوط النور ضمن هالة من الشفق، وقد بدأ النهار يعلن عن نفسه، فتبدو قسمات وجوه الركاب خاملة أو متوترة أو محايدة، أو تكاد تنفرج عن ابتسامة، تعكس في مجملها دواخل كلّ منهم بشكلٍ متباينٍ، إلا أن المؤكد أن أحداً منهم لم يغمض له جفن بعد أذان الفجر!.
وكلما اقتربت "البوسطة" من إحدى القرى، عرّجت عليها، يسبقها صوت بوقها ينبه المنتظرين عند مشارفها، فيصعد من كان خفيفاً، ويتأخر من معه أكياس صوفٍ، أو لبنٍِ، أو تيوسٌ ودجاج، ريثما يتم ربطها على السطح، أو دسّ بعضها تحت المقاعد عنوة، فلا تمضي فترة إلا ويبدأ رذاذٌ أصفر يترشرش من السطح إلى الداخل، فتبدأ همهمات، ومحاولات اتقائه برفع زجاج النوافذ، ويسيل البول من تحت المقاعد، فيرفع الركاب
أقدامهم ما استطاعوا، وغالباً لا ينجو من ذلك سوى المعاون الذي يظل في الوسط عبر الممر وقد أخذ يعتاد أن يوازن جسده إلا أحياناً، فتجده يضطر إلى استنادة خفيفة قصيرة على مسند هذا المقعد أو ذاك، يلف السجائر ويضعها في العلبة ليستخدمها حين لا وقت لديه للفها، فهو لا يطيق صبراً على ألا تكون واحدة منها بين شفتيه، ولعل انشغال شفتيه بوجود لفافةٍ بينهما بشكل دائم، جعله نادراً ما يتكلم، فلا يستخدم إلا بعض المفردات التي بات كلّ منها مصطلحاً، وغالباً ما يستخدم أطرافه، فخبطتان بقدمه تعنيان للسائق //توقف//. وخبطتان بكفه على بابها أو مؤخرتها تعنيان //امشِ// واقترابه من الراكب في المقعد الأول بجانب السائق يعني دفع الأجرة، ثم يكفي أن ينتقل مقترباً من راكبٍ إلى آخر، فَيَلُمّ الأجرة من الجميع بُعَيْدَ منتصف الطريق، ومن يصعد بعد ذلك يحرك أمام وجهه إبهامه فاركاً به السبابة، حركة تعني معنى واحداً //نقود// ومن يسأل عن الأجرة، يحرك له السبابة والوسطى بالتناوب كأذني أرنب، أما إذا اعترض أحد الركاب على أجرة حمولة أغراضه، يثور السائق، فيضرب بقبضته وسط المقود، فينطلق صوت البوق بغتةً، ويكز أسنانه، هازاً رأسه، متأسياً على //فورد واختراعه// فلو كان يعلم أن أمثال ذلك الراكب يستكثر ما يدفعه مقابل التنعم باختراعه العظيم هذا، لما توانى عن إطعام النار براءة اختراعه، فإذا استمر الراكب في احتجاجه، ازداد غضب السائق، فرفع صوته مذكراً الجميع،
دون أن يلتفت إلى أيّ منهم، بما كانوا يلقونه خلال سفرهم -أمسِ- بالعربة التقليدية، فقد كان السفر عذاباً، فلا يفكر به إلا من ألجأته إليه حالة لا سبيل لإرجائها. وقوله //أمسِ// لا يعني البارحة أو قبل شهرٍ، بل يعني سنوات، وهي مدة قصيرة نسبياً، لا يمكن نسيانها بهذه السهولة والسرعة، فمازالت ماثلة في الأذهان، تلك العربة التي امتهن صاحبها السفر، في حر الصيف وقر الشتاء، ينقل الناس من القرية وإليها.
- لم يكن صاحب العربة ليسافر إلا مسلحاً مجهزاً للطوارئ، فقد يضطر إلى المبيت في العراء، صحيح أن المسافة لا تزيد عن سبعين كيلو متراً، إلا أنها تطول فتتجاوز "المائة" كيلو متر، حين يضطر إلى سلوك الشعاب وتغيير الطريق المعهودة عندما تمتلئ //سبخة مملحة الجبول// ويصل ماؤها إلى حواف الجبل، فيبدأ طقس آخر من المتاعب والمخاطر، من تقلب الأجواء، ومواجهة قطاع الطرق والوحوش، أو تحطم أي جزءٍ فعال من أجزاء العربة، أو حين يجفل البغل أو يحرن، فلا يعود تحت سيطرته، فيستعين -مكرهاً- بالحصان الاحتياط المرافق للرحلة دائماً!، فهو لم ينسَ أنه كان فارساً، ولعل وجود الحصان يشعره أنه أكثر من صاحب عربة سفر، ويتنهد بحرقة دائماً ويردد: آه من اللقمة والمرأة!. كان يغادر القرية ويعود إليها ليغادرها مرة أخرى كل ثلاثة أيام، إذا حالفه الحظ وكان الطقس مناسباً، ووجد من يسافر به، خاصة أيام الفقر الأسود والبطالة القاتلة، فلا أحد يرفض العمل، ولكن أين هو؟
كان أكثر أهل القرية سفراً خلال ثلاثة عقود، قضى معظمها على الطريق!، والمحيّر في أمره أنه برغم سفره المستمر طوال تلك السنوات، وارتياده المدينة، لم يطرأ على حاله أي تغيير، باستثناء تقدمه في السن، وثبات قدرته على الصبر والتحمل، ثم تقاعد من عمله هذا بعد أسابيع من وصول البوسطة، وقد بقي خلال تلك الفترة يسافر بزبنه الذين حذروا ركوب تلك الآلية الغريبة؛ وقد اقتحمت عليهم رتابة حياتهم؛ خاصة أولئك الذين إن اعتادوا أمراً وجدوا صعوبة في التآلف مع غيره. وبرغم ذلك فقد تدرج عددهم بالتناقص. تقاعد وقد غلبته البوسطة على أمره، ولم يسمعه أحد يقول شيئاً سوى همهمته متأسياً على قلة إدراك الناس لحقيقة الأمر كما يراها بينةً ولا يجد جدوى بمحاولة إقناعهم بها، فالعلة ليست في العربة، والبوسطة ليست الخلاص، مادام الطريق كما هو. لم يقل ذلك لأحدٍ، لكنه أغلظ الأيمان، وقد أجبرته البوسطة على تغيير مجرى حياته، أنه لن يصعد إليها مادام حياً. ولم يبق عاطلاً سوى أسابيع، فتدبر عملاً يعتاش منه وتلك التي في بيته والتي كبحت جموحه مذ تَوَلّهَ بها، فقد تحوّل إلى حطّاب يجلب أكداس جذور نباتات البادية والجبال، ويجمع بعر الإبل والماشية، ويبيعها لأهل القرية ممن لا يحتطبون بأنفسهم، فيستخدمونها وقوداً لتنانيرهم، وللتدفئة شتاءً، وقد ظهر منافساً لحداد القرية، بدأ مهنته مباشرة بصنع المدافئ الحديثة من صاج البراميل!، فاشتراها القادرون على دفع ثمنها، ثم اشتراها من اقتنع بأنها أفضل من المنقل القديم، ثم ما لبثت أن دخلت بيوت أهل القرية، إلا مَنْ لا حول لهم، أو الذين لا فرق ليدهم بينها وبين المنقل، مادامت النار هي النار ذاتها في كليهما!!.
ازدهر عمله، وازدهر عمل الحداد الجديد بهذه البدعة، وبقي الحداد القديم يعمل بإصلاح //دواليب// عربات الفلاحين، وسطول الغرافات، وسكك المحاريث، بينما صعّد الحداد الجديد عمله فصار يحذي الخيول، ويحوّل بعض (الطبنجات) العتيقة لتطلق الرصاص، بدل حشوها بالخردق والبارود، وتوصل به الأمر إلى ابتكار مدفعٍ لرمضان، ظل مستخدماً للإعلان عن الإفطار والسحور عدة عقود.
هجر مهنة السفر وصار حطاباً يعمل في مواسم ويرتاح في أخرى، فوجد وقتاً فائضاً يقضيه هنا وهناك، أو في مضافة المختار، فانفكت عقدة لسانه، وصار حكواتياً، يتحدث عن ذكريات السفر، وكم هي غزيرة ومشوقة، لقد أحصى ذات مساءٍ عدداً لا يستهان به ممن ماتوا ولم يعرفوا المدينة، وذكر بعض من لم يروها ومازالوا أحياءً، وعدّ من النساء قليلات ممن عرفن أن الدنيا لا تنتهي عند تخوم القرية والأفق المحيط بها!, وحكى عن معاناته في العودة مضطراً من منتصف الطريق قاطعاً سفرته، حين يكون مسافراً بمريض لمعالجته في المدينة، فتوافيه المنية، فيعود به جثةً، وكم كان يشعر بحرجٍ كأنه ارتكتب إثماً، وتكلم عن مصارعة الوحوش الجائعة، وحكى أنه مرةً قتل ذئباً وأنثاه في أحد الشعاب، وما انفكا يتسافدان حتى آخر أنفاسهما! وقص عن معاركته قطاع الطرق، وعن الحوادث التي تعرض خلالها للنهب، فكان يبرز الحكايات التي ينتصر فيها، ولم يكن ينكر أنه كان يغلب، فالكثرة تغلب الشجاعة، ومثل هذه الحكايات كان يختصرها، بينما يمضي ليالي في حكاية لصٍ ربطه مع البغل ليجر العربة، وكم من مرةٍ سلّم لصوصاً لأهلهم، عاقداً معهم معاهدات عدم اعتداء، إلا أنه لم يذكر أن أهل أحد اللصوص أخذوا ثيابه وأطلقوه عارياً كما ولدته أمه، فظل في شعب الجبل حتى أمسى الليل لباساً له، فدخل القرية خفية، بل دخل بيته دون أن تشعر به زوجته، وتدبر كساءً يستتر به، وظل أمر ملابسه المفقودة سراً عز على زوجته أن تعرفه، وظل لغزاً لم تجد له حلاً، أيضاً لم يذكر أن أهل أحد قطاع الطرق فرضوا عليه أتاوة يدفعها كل أسبوعين، وإلا..
تخلص الركاب من معظم تلك المشكلات، إلا قضيتهم مع الوقت. يذكر أحدهم أنهم غادروا حلب بعد ظهر وقفة العيد، فوصلوا القرية بعد منتصف الليل وقد انقضى أول أيام عيد الأضحى!. فقد (غرّزت) "البوسطة" في أوحال سبخة مملحة الجبول عدة مرات. حكايات كنت أسمعها من شبان الأمس شيوخ اليوم مفعمة بحرارةٍ وإن داخلتها غرابة إذا ما قورنت بما آلت إليه حالنا فهي محبوكة وفي نسجها متانة مشوقة، لا تدع لمتقصٍ مجالاً أن يفرز بسهولة بين أصلها وما قد أضافه الرواة من أخيلتهم إليها، ولست ميالاً إلى التشكيك بمدى صحتها؛ وقد عرفت عم أبي في شيخوخته الوقورة معرفة حميمة، وعايشته لسنواتٍ قبل وفاته، ولم ألحظ لديه ميلاً للمزاح أو الثرثرة، يتحدث بإسهاب أو إيجاز حسب المقتضى، فيصل إلى ما يريد من لبّ الكلام بوضوحٍ يخلب الألباب، وتفغر له الأفواه تعجباً، فلا يطمع الناس بأكثر من ذلك، فالسمر والحكايات هي جلّ ما يلقونه من متعةٍ في خضمّ قسوة الحياة والأعمال الشاقة، وعسر تأمين الماء، وصعوبة الحصول على لقمة العيش المتواضعةِ كثيراً.
ولعل أمتع حكاياته -وإن كانت مؤلمة- حكاية عودته بعد غياب سنوات، فراراً من جحيم حرب العثامنة الخرافية بأهوالها، فاقداً صوته إلا من بقايا لا تتعدى حدود الهمس وإن كان واضحاً، ذلك من تأثير دخان البارود وحرائق الحرب المستعرة، ثم البرد، والعلل، ورؤية الموت عن قرب بأمّ العين -كذا مرة- فقد وصل إلى أهله وعليه كيسُ خيشٍ، ورائحته تزكم الأنوف، وهيئته تبعث على الوجل، القروح تنز، وأمعاؤه تقرقر متلوّية كثعبان يلدغه لدغات متتاليات، والقمل فيالق استباحت جسده الواهن، لم يعرفه شقيقه لدقائق، ثم أخذه إلى الحمام، حرقوا ثوب الخيش، طقطقات لا تُعدّ كانفجارات في الماء مكتومة، وبعضها صريح مثل تقصف سوق القمح، ومثل حبات الذرة حين تشوى، لم تكن سوى أصوات فرقعة القمل وقد لفحته النار، فتضخم متوزماً، ثم تشويه فيتشظى، ثم يتقلص منكمشاً حتى يتفحم.
ظل يومين وليلة نائماً لم يتقلب، وحين فتح عينيه طلب طعاماً، ومازال يأكل حتى ثَقُلَ على قلبه فصيّرهُ كالسكران. وقد رأيت ندوباً وآثار جروحٍ وبقايا أماكن الدمامل، حين كنت أفرك له ظهره في الحمام قبل الصلاة أيام الجمع، مقابل أن أسمع منه حكاية، ثم إنه تزوج ولم يخلف، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من أهل القرية ممن تعرضوا لأهوال الغزو والتهجير، فواجع أعطبت ظهورهم، قد تكون دراستها كشف في وضع اليد على سبب ظاهرة كارثية، في جملة الإبادة والإفناء والموت قهراً وانعدام صلة الرحم. تلك حاله حين وصل، فقد كان يمشي أو يزحف أو يتدحرج ليلاً، ويتخفى نهاراً، طعامه خبيّزة وأعشاب، فيعاني من الإسهال وتقرح الجروح والدمامل وتعشيش هوام الجرب والقمل في فروة الرأس واللحية وتحت الإبطين والمناطق الحميمة، والرعب المتواصل من الموت في حرب خاسرة، قتلاً أو رمياً بالرصاص أو خوزقة. وخطر الجائحات، والزواحف والوحوش والجوع، أو انكشاف أمره. ويوماً وقد دخل صحراء النقب، رأى جماعة يتزاحمون على ذبيحة، وكان الجوع قد ألبّه ضارياً، فغامر واقترب، ثم اندس بين الجمع مستقوياً ببعض //المجيديات// الفضية التي وجدها متناثرة مع مزق القتلى في تلك المعركة التي كاد أن يموت فيها، هاله أنهم قد توازعوا لحم حصانٍ أطلق عليه صاحبه -بعد يأسٍ- رصاصة الرحمة، حاول الحصول على مقدار وجبة أو لقيمات، دون جدوى، فلا أحد يتنازل عن قوتٍ يدفع عنه الموت جوعاً، وانصرفوا إلا واحداً ظلّ حذراً وكان غريباً مثله، يقضم ما استطاع من قضيب الحصان وخصيتيه، فعرض عليه مجيديات مقابل أن يشاركه، فأبى، وقت طويل انقضى وذاك يقضم وهذا مقرفص ينظر كذئبٍ مرة؛ ومثل طفل لا تصل يده إلى فتات يحتاجه، سألته: ألم تفكر بقتله؟. لا -قالها حادة لمرة واحدة، لمع صوته خلالها كحد الموسى- فمظلوم لا يقتل مظلوماً. حتى إذا ملّ الرجل أو شبع، رضي أن يعطيه ما تبقى مقابل //مجيديين//، فكسب مجيدياً! أما هذا فقد تلقف الغنيمة وقضى زمناً يمضغ ويلوك ويبتلع ما يستطيع قضمه، فإذا برجلٍ هدّه الجوع وأنهكه أكثر منهما، يطلب منه ابتياعها، وبعد مساومة اشتراها بثلاثة مجيديات!!. هذا الأخير التقى به عم أبي بعد عقودٍ، وكانت هذه الحكاية سبب تعارفهما، ويا له من لقاء مؤثرٍ شهدته وأنا في العاشرة. أذكر ذلك فيما أذكر من طفولتي، وهي متأخرة عن زمن هذه الحكايات التي أرويها؛ وقد بقيت محفورة في ذاكرتي وقت كانت ناصعة ينطبع عليها ما يؤثر بي حين أراه أو أسمعه فيبقى كنقشٍ على حجرٍ، تزيده السنون جلاءً وتفسر بعض ما غمض منه. أما صاحب العربة فقد اضطر يوماً بعد تقاعده إلى السفر، فأعدّ العربة وزوجته تؤكد عليه ألا ينسى شيئاً مما أوصته، فالشتاء قادم. وحين عاد، أفرغ الأكياس والجعبة ودفع بحوائج البيت إلى أماكنها، فسألته زوجته عن (كبكوبة) الخيوط، فأخرجها من جيب سترته وقذف بها إليها، تلقفتها وكادت تشهق وهي تقلبها، تنهدت وهمهمت فسألها عما بها؟ فصارحته متلعثمة أن الأحذية ومنفاخ النار ومعطف جلد الخروف وخفيّ الصلاة تحتاج لرتقٍ، وأن (الكبكوبة) ليست من النوع المطلوب، فهي لا تصلح لرتق الجلود. غمغم لاعناً ذلك البائع (الأحلس) إذ غشه بها، ثم أعاد تجهيز العربة صامتاً وأخذ (الكبكوبة) ومضى، وبعد يومين عاد وقد حمل لزوجته (الكبكوبة) المطلوبة!
- وحين أمضيت إحدى سنوات الدراسة في مدرسة القرية الابتدائية أواخر الخمسينات، كان المذياع قد دخل عدة بيوت، ولم يكن يتسنى لنا سماعه إلا نادراً، وكان ثمة ما يعوضنا عنه، فمساءً كنا نسمع سائق البوسطة يعزف دون توقف مدة ساعة، كان بارعاً، فلا نملّ سماعه، بعده بساعتين كان شاب يملأ سكون الليل بمعزوفات على "الشبّابة" لألحان أشهر أغنيات تلك الحقبة، ثم يصعد شاب آخر، تلة القرية فيشدو مقلداً (فريد الأطرش) فلا تبقى فتاة حالمة أو شاب متيم إلا ويطرب ويذوب وجداً، وهكذا انقسم الذوق العام في القرية.
- تسألني مع من كنت أنا؟ قد كنت يا بني مع كل نفحة جمال أنىّ كان مصدرها، ومازلت مع كل ما يجمّل الحياة الكابية مادامت لا تخرّب ذوقاً لأصالتها.
- كان التعليم في القرية قد نشأ أيام كانت حلب دولة!، على يد رجل كرّس حياته لتعليم أبنائها، ومازال صيته ملء السمع، يذكره الناس بكل خيرٍ؛ ولقب //أفندي// مقترن باسمه حين يَذكر رغم مضي عقود على وفاته. وكان جدك ممن تعلم على يديه، وكان يدرّسهم حتى الصف الثالث الابتدائي، ففتح أمام جيلٍ باب رزقٍ جديد، وهم في عناء وشقاء بحياة زراعية بعلية؛ رعوية في بيئة جدباء أو شبه قاحلة، فاندفعوا نحو الوظائف الحكومية، وعلى وجه الخصوص الجيش والدرك، كانت الحياة بمجملها بدائية بسيطة. انظر هذه الوثيقة التي أحتفظ بها:
دولة حلب الخلاصة: ×
مفتشية المعارف العامة
عدد: 1174
إلى معلم مدرسة... المحترم
جواباً لتحاريركم المؤرخة 20-24 تشرين الثاني 1923- رقم 12-13:
1- سننظر بكافة الرواتب عند تصديق ميزانية سنة 1924.
2- بعد ورود الأستيذان نعمل ثلاثة مقاعد للمدرسة.
3- مرسل إليكم [50] نسخة من أوراق التراغيب، فيقتضي إعلامنا وصولها، والسلام عليكم.
((اسم الخطاط)) مفتش المعارف
29 تشرين الثاني 1923 توقيع
//طبق الأصل بما فيها من أخطاء//
- أما جيلنا نحن فقد كان من ينال شهادة الكفاءة ((بروفيه)) يغبطه الناس لأنه سيجد وظيفة براتب (مائة وعشرين) ليرة!، وبها يكون قد دفع شبح الفقر عن أسرته، وعاش مرتاحاً (فيّ وميّ) فانظر إلى الفارق بين ما كان وما أنت فيه.
- وممن علّمهم ((الأفندي)) نبغ حسب مقاييس تلك الفترة، شبان لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة صاروا مدرسين وضباطاً، وأظن أن واحداً أكمل دراسته فأصبح طبيباً، وسمعنا عن أحد أبناء القرية أنه أخرج فيلماً للسينما في بداياتها، فكان أحد روّادها. ذلك يذكرني ببراعة أحد الشباب في رواية قصص الأفلام التي يراها خلال وجوده في المدينة، وكم كنا نترقب بلهفةٍ، السهر معه لنسمع قصة فيلم يحكيها بتشويق، ومعظمنا لا يعرف السينما، وكانت النسوة والفتيات من أقربائه، يُكرِمْنَه بأصناف الحلوى القروية والشاي ومنفوش الذرة؛ ليسمعن المزيد.
ترى: كيف كُنّ يتخيلن الحدث حسب روايته؟. ليتني أعرف ذلك.
أما أنا فقد استوفيت حقوق أهل القرية -الأحياء منهم والأموات- فعلى مدى عقد ونصف العقد، لم أترك فيلماً إلا وشاهدته، أو دار سينما تعتب عليّ، وقد بلغ عددها في أوج تألق الفن السابع في الستينات، ثلاثاً وعشرين داراً في حلب، وكم عاقبني جدك على ذلك إثر وشاية تصله من أحد الحريصين على الأخلاق بأني فاجر أرتكب إثم دخول السينما!
- لقد أمضوا أعواماً وهم يستزرعون أرضاً لا ماء فيها، فيقيمون طقوس الاستسقاء لسماءٍ إما أن تمسك لسنواتٍ، وإما أن تفلت قُربها دفعة واحدة لموسم موجزٍ، تروي إحدى الجدات عائدة بذاكرتها إلى أيام خلت لأكثر من نصف قرن/ قالت: كانت مواسمنا تعتمد على المطر، وفي ذلك العام نبت الزرع وانكمش المطر، كنا نرقبه وهو يسودّ ويذبل ويلوي قاماته، ونحن صبايا ذلك الوقت كنا نعرف مدى خطورة ذلك، إذ لا خطوبة؛ وبالتالي لزواج، فلا ترقص باقي الفتيات كلٌّ مع من تحب، كما أن الشباب والكهول سيلاقون مزيداً من الشقاء في تدبير المعيشة، والشيوخ كانوا يحسون بطامة شدّ الأحزمة أكثر مما هي مشدودة، لأيام رمادية، وعودة إلى خبز الشعير؛ إن توفر، يشترونه مُهربَّاً من /الميرة/ محفوفاً بمخاطر نقله من /عين العرب/ والجزيرة السورية. ثم لا شيء من الموسيقا ستذكرهم بشبابهم، وأن بطونهم لن تعرف اللحم والبرغل المسلوق بحباته المتراصة الطرية المغمسة بالمرق المثوّم. جفت الأمطار وتيبست أثداء السماء واصفرت الأحلام، وتحولتِ الصلوات من تعبدٍ خالصٍ، إلى رجاءٍ ودعاءٍ وابتهالٍ ومن ثمّ طلبات، وكلما عاد أحد الرجال من الحقول، كان يزيدنا غمَّاً، ويظهر أنهم تداولوا الأمر في باحة المسجد، إثر صلاة العصر، فقد عاد والدي إلى المنزل ونادانا أمي وأنا، وأمرنا بالخروج إلى سفح التلة.
اجتمعت نساء وفتيات، وبدأن بتحويل المعول عروساً شبه حقيقية، وقادت الفتيات عروسهن في موكب، ينغمن أغنية عريقة: أيها الحقل نزف إليك المعول عروساً... فلتعقد السماء قرانكما برعدٍ، فمطر. وتدور العروس الدمية على البيوت، فترشق بالماء: هكذا يا سماء نريد القران. وتنتقل الفتيات من بيت إلى بيت محملات ببعضٍ من بقايا المؤونة من برغل وزيت وعدسٍ وزبيب، حتى إذا ما طفن على كل البيوت، عدن إلى التلة، فطبخن ما جمعنه خليطاً، فيأكلن، ويأكل الأطفال والقطط والكلاب، وينتهي ما في القدور، ويبدأ الظلام بالحلول، فنتراكض إلى القرية، وكلنا أمل أن يُعقَدَ القران بالمطر، فقد أدينا ما علينا. تلك الليلة ثُقبت صفحة السماء ملايين الثقوب ترشح مطراً، أحيا في نفوسنا الأمل، وفي الصباح الباكر الذي يبدأ عادة بعودة الشيوخ من الصلاة، استيقظنا على أصواتهم وحمدهم الله يرتفع إلى السماء، وأذكر أننا خرجنا إلى الساحة نغني ونرقص فرجاً تحت المطر، وبينما نحن كذلك سمعنا أصوات حوافر الخيل عائدة، فانبجس من وجوهنا سؤال موحد.. لماذا؟!. والرجل العائد بخيول القرية يتقدم صامتاً، حتى نهره أحدهم أنْ قل شيئاً عن سبب عودتك يا رجل!، ظلٌ صامتاً، وأحسب أن دمعاً قد طفر من عينيه، وشيخٌ مرح يتهكم: أخافته الثعالب فعاد. وقال آخر: لم تخفه الثعالب ولا الذئاب، إنما عاد ليرقص؛ أليس ذلك أيها الشقي؟. والرجل صامت يتقدم، فعّلق الشيخ المرح: أيتها الفتيات لقد عاد هذا الماكر من أجل إحداكن، فلتفرح تلك التي عاد من أجلها. ضحك بعضهم والرجل صامت يتقدم، حتى إذا وصل أمام الشيوخ والرجال قال: لقد أخذت السيول زرعكم!. لم ينبس أحدنا ببنت شفة، تسمرنا، لم ينظر أحدنا إلى الآخر، أصابنا ذهول، انسلَّ كلٍّ منا إلى داره مترعاً بالألم.
- ثم دفعتهم سبل التشبث بالحياة، إلى إعادة حفر تلك القناة الرومانية، فكان الماء، وكان البستان، فانتعشت القرية سنواتٍ، ثم شحّ النبع، فأعادوا الحفر، فأعطت القناة دفقات، ثم نضبت نهائياً، وهكذا.. هجرت الطيور أعشاشها وهامت تطلب النجاة كي لا تموت، وعششت حيث توافر لها التقاط القوت يوماً بيوم، لا فائض ولا فاقة.
وظهر جيل تخرج في الجامعات والمعاهد. مدرسون، محامون، مهندسون، ضباط، أطباء، وربما مهنيون، وظلت التجارة والصناعة بعيدتين عن محاولاتهم، إما ترفعاً لا مبرر له، وإما بسبب عدم توافر رأس المال، وعدم الاستقرار في المدن، وهذا هو المرجح.
أما قبل ذلك فقد كنا حين نصل إلى حلب بعد ثلاث أو أربع ساعات من رحلةٍ مريرةِ، وتهدج بنا " البوسطة" الجديدة، وهي الثانية بعد تنسيق (الفورد)، نترجل منها إما مغمورين بالغبار أو ملوثين بالطين، نصل فنغادر (الكراج) بجانب الحديقة في (ساحة الملح) فيهرع أحد الكبار ممن نسافر بمعيتهم إلى إيقاف (حنتور) نستقله متنعمين بمقعده الوثير، مستمتعين -نحن الصغار- بصوت البوق ذي الكرة المطاطية التي تشبه (الحقنة) وطقطقة حوافر الحصان على حجر الشارع البازلتي الأسود، وصوت فرقعة السوط بيد الحوذيِّ الذي يقوده بمهارةٍ إلى جب القبةِ، ثم باب الحديد، فجادة الخندق، لنتوقف أمام فندق ((قصر الرشيد)) بباب النصر، وبعضنا أمام فندق ((طرابلس الشام)) القريب، حيث يجتمع فيهما أغلب الذين كانوا معنا، والذين أتوا قبلنا بيوم، وكم كنت أتوق لركب تلك العربة الصفراء /الترام/ وهي تسير على سكة لا تحيد عنها دون أن يجرها حصان، أو نسمع لها صوتاً كالصادر من مقدمة البوسطة!. لكني كنت أكبت تلك الرغبة وكبير العائلة قد أكد أنَّ /الحنتور/ أكثر أماناً، وذاك الحوذي قد أمَّن على كلامه، وهو يرمقها بنظرة عدائية قائلاً: (أنتريك).. خطر.. يا لطيف! وكبير العائلة أكد صحة ما قاله الحوذي، فتلك العربة الصفراء لم يجربها أحد يوثق به من قريتنا، فأتذكر صاحب العربة في القرية وموقفه من (البوسطة)، وهذا الحوذي وموقفه من /الترام/ وأخمن أنَّ كلاً منهما يعادي الآلية التي تهدد استقراره.
كانت القرية نظرياً تتألف من حيين، ليس لأحدهما ما يميزه عن الآخر، إلا إذا كان وضع سكان الحي الأول، مادياً أفضل قليلاً من وضع سكان الحي الثاني، ولعل مناحرة بين فتاتين من الحيين تكشف بعض ذلك بعد أن تطورت إلى حد المفاضلة، فوجدت فتاة الحي الأول أن تفاخر بشاب من حيّها قد وصل إلى رتبة /مقدم/ في الجيش!. أمام هذا التحدي سكتت فتاة الحي الثاني، ولم تجد ما تفاخر به بما يعادل الند، فنجمة واحدة يومئذ ترفع الهام افتخاراً، فماذا تفعل وقد تفاخرت تلك بنسرٍ ونجمة معاً!؟ فردّتْ تفاخر بأن المسجد في حيِّها، كأنها وجدت به مركز ثقل، وكان لها أن تذكر المدرسة أيضاً، إلا أنها لم تفعل، كثير مثل ذلك كان يحدث بين الصبايا والشبان.
- كنا لا نذهب إلى حلب إلا مرة أو مرتين على أكثر تقدير، ولأحد سببين، فإما لشراء كسوة العائلة، وهذا أضعف من السبب الآخر، وهو مرض أحدنا إن لم تشفه وصفة العطار وبرشاماته ذوات الأغطية بلونيها /الأحمر والأبيض/ والتي عرفت اسمها فيما بعد //أنتكربين//. ويروى أن بعضهم كان يبتلعها بغطائها، ثم يأتي فرحاً إلى العطار يطمئنه أنها قد نزلت سليمة كما هي، ظناً منه أن ذلك دليل تعافيه!!
- وكانت بجانب الفندق عيادة طبيبنا /علي الحكيم/ وأمامها على الجانب الآخر من الشارع صيدلية (كرمان) وهي مسافة كنا نقطعها مذعورين من الترام والحناتير والدراجات ودواب الباعة والسيارات -على قلتها- نركضها وصيحات التنبيه والتحذير والاستعجال ممن يرافقنا، تجعلنا كفراخ دجاج في بركة ماء!
- حقنة من يد ذاك الطبيب، ووصفة نصرفها من صيدلية /كرمان/. وغالباً ما كان يؤجلنا ساعة أو إلى ما بعد الظهر ليقوم بتركيب أحد الأدوية، بعد ذلك يكون الشفاء مؤكداً، فليس لأيِّ مريضٍ أن يحتاج لأكثر من ذلك، وهذا ما أستغربه الآن يا بني!!. هل كانت الأمراض خفيفة محدودة؟.
هل كانت الأدوية ناجعة؟. هل كان الطبيب نطاسياً لا يجارى؟. هل..؟. وكم كان نادراً ومستغرباً أن نسمع بأن أحد أهل القرية قد أدخل مستشفى أو احتاج لعملية جراحية -لا يمكننا تخيلها- إذ نسمع أنه أُدخِل مستشفى (فريشو) الشهير! وأكثر ما كان يبهجنا أن نقف بشرفة غرفة الفندق (نمصمص) ونلعق ونلحس ((الدوندرمة)) منتظرين السيارات نتمتع ونحن نعدها، فكان من يعد خلال نصف ساعة، عشراً أو خمس عشرة منها، يُعد رقماً قياسياً، ويا ألله! ما أكثر سيارات حلب!. نحن الذين لا نعرف سوى (بوسطة) القرية. وكم كنت أعجب من شأن الكبار حين يُزجون الوقت في مقهى النصر القريب، وأمامهم على بعد أمتارٍ تلك السينما تصدح منها هدى سلطان أمام فريد شوقي، أو نور الهدى أمام يوسف بك وهبي، أو ليلى مراد أمام فتى الشاشة الأول!. كان ذلك المقهى ملتقى الوافدين والمقيمين والمنتشرين في كل مكان، يلتقون فيه فيعرفون أخبار الأهل والأقارب وآخر ما حدث، إنه مكان يألفه أهل القرية، ولابدَّ أن يمروا به.
- إن كانت سفرتنا من أجل الكسوة، فإن الجميع يسترخون على الأسرة النحاسية ذوات النوابض، أو في الصالون الطويل، أو حول مكتب صاحب الفندق بجانب المذياع الضخم (فيليبس)، بانتظار الحاج مراد، يسألون عنه إن استأخروه، وصاحب الفندق يصبّرهم بأنّ مجيئه قد قرب أو هو على وشك الوصول. ويأتي الحاج مراد صاعداً الدرج بتمهل وهيبة، بقامته الفارعة وكرشه (الوجيهة) وعينيه الزرقاوين، وقلبقه الأسود الملفوف بحرير بعرض أربع أصابع، موشىَّ بزخارف من خيوطٍ مذهبة، يضع قدمه في أول عتبة الصالون، ويظل مبتسماً مهللاً ماداً كلتا يديه، مصافحاً هذا وذاك، يسألهم عن أحوالهم وأرزاقهم وأولادهم، وعن الغائب منهم، ويعزي بمن فوجئ بوفاته، يترحم عليه ويمتدحه ويدعو له، ثم يبدي اهتماماً بطلبات هذا وذاك، يهوّن الأمور ويبسّطها، ثم ما يلبث أن يعقّدها أو يوحي بأنها تحتاج لجهدٍ، أو أنها تحتاجه هو بالذات!.
يهز رأسه موافقاً واضعاً كفه على رأسه من فوق القلبق /تكرم.. على رأسي/. ثم يتململ، ويُخرج ساعته الفضية من جيب صدّاره ويقول: هيا بنا لنر طلباتكم قبل موعد الصلاة! كأن أمر الصلاة يهمه!. وإذا كان العدد كبيراً، كان يقسم الموجودين إلى مجموعتين، إحداهما قبل الظهر والمجموعة الثانية عند العصر، فينزل مع المجموعة إلى -السويقة- وخان الصابون-، ثم إلى أسواق -المدينة- المتشعبة، وفي كلا السوقين كان يأخذ الجميع إلى المحلات ذاتها، وفي أيِّ منها كان يفهم من الشاري طلبه، ثم يختار الأصناف المطلوبة ويصر أحياناً على نوعٍ بعينه ناصحاً الشاري به ويقنعه بجودة الصنف ومزاياه، ثم يبدأ بالمساومة على السعر مع البائع فيكرر عليه أنَّ الشاري غالٍ عليه ولابدّ من مراعاته، حتى إذا توصلا إلى سعر يرضيهما، همس للشاري بأنه قد نوّله ما أراد بسعر لا ينافس، وهكذا إلى أن يحين وقت تسلم المشتريات ودفع الثمن فيتناول من الشاري النقود، حتى إذا انتهى من طلبات الزبن جميعاً، صرفهم إلى الفندق: تيسروا وسآتي لأتناول طعام الغداء معكم. وحين ينصرفون تبدأ مساومة جديدة بينه وبين صاحب هذا المحل وذاك، فيأخذ من كلِّ منهم نصيباً يسميه (استحقاق التعبة)، ويقفل راجعاً إلى الفندق، وهناك يدقق لكل مشترٍ حسابه فينال منهم نصيباً يسميه (استحقاق اللكعة) فقد ترك عمله؛ بل أعماله لأجل خواطرهم! ولأنه يحب أن يخدمهم، حتى إذا ما انتهى من ذلك، دسَّ النقود في جيبه، وأخرج ساعته الفضية، ونظر إليها مبدياً امتعاضاً لمرور الوقت، ولكن لابد أن يجاملهم، فيجاهل أهل الطبيخ بتناول ملقعة أو ملعقتين، ويجامل أهل الفول والحمص بلقمة أو لقمتين، شاكياً الحمية القاسية التي فرضها عليه (فريشو) شخصياً، أيْ نعم! أما عند جماعة الكباب، فيؤكد غلاوتهم فيجالسهم مادحاً زكاوة اللحم ومهارة (البيبي) وشهرته كأحسن (كببجي) من (بناقوسا) إلى آخر خط الترام عند الأكابر في حي الجميلية، معلناً تأففه من (وخم) مطاعم باب الفرج التي لا يؤمها إلا مَنْ لا يعرف طعم فمه، ويأكل ويستمر في الأكل آخذاً الأرغفة من تحت اللحم مسقسقة بالدهن، فيضع في كل نصف رغيف سيخين، يلفهما ويزدردهما على ثلاث دفعات، سائلاً عن فلان الذي طالت غيبته، ثم يترك الآخرين يجيبون، وإذا سُئل ترك لعينيه وحاجبيه مهمة الإجابة وأيضاً رأسه بالخفض أو الرفع كناية عن (نعم ولا) حتى إذا شارف اللحم على نهايته، يفرك كفيه بعضهما ببعضٍ ويهرول مودعاً على أن يعود عصراً.
- بقيتُ عدة سنوات لا أعرف من حلب غير جادة الخندق والسويقة، وكانت كلمة (قصر) ضمن اسم الفندق محط إعجاب وغبطة وإغراء في دخيلتي، وكم فاخرتُ أمام أترابي -حين انتقلنا إلى قرية أخرى بحكم عمل أبي- بأنني وأهلي ننزل في فندق (قصر الرشيد) قبل أن أكتشف أن معظم الفنادق الشعبية، هي قصور بشكل من الأشكال!.
- سبع سنوات متتالية والزرع ما يكاد ينبت ويشب فوق الأرض، حتى يغزوه الجراد فيتلفه تماماً، ولم تكن أساليب مقاومة الحشرات والآفات الزراعية معروفة أو متطورة، كل ما استطاعت الدولة آنذاك أن تفعله، هو أن تحث الأهالي على مقاومة الجراد باصطياده، ومن يجمع رطلاً منه (4/3.1) كيلو غرام، يأخذ مقابلها (برغوثاً كبيراً) والبرغوث هذا هو عُشْر المجيدي، تصور أن يصبح اصطياد الجراد آكل الرزق، هو مورد رزق أهل القرية!. بالتأكيد لم يُجدِ هذا الأسلوب البدائي، وربما كان لإلهاء الناس بهمهم عن همهم. غريب أليس كذلك؟. الأغرب أنه جاء اللقلق، أسراباً، آلافاً مؤلفة، فقضت على الجراد وطهرت الأرض من أثره! لكن الجدب والقحط عاود كرَّته، كأن الجوع قدر أهل القرية. ثم طمع زعيم قبيلة مجاورة، ألهب خياله الجنوني أن يرى القناة والبستان مصدر تنعم ينغمر فيه أهل القرية، فألّبت عدوانيته كثرة صعاليكه ممن يجيدون فنون الكر والفر، وطغيان الشر في نفوسهم. فغزا القرية واستباحها وشرد أهلها، وعاث بالبستان إفساداً وتخريباً ونهباً، أعماه جبروته دون مروءة هؤلاء حين أنقذوه من حريق هائل شبّ في مضاربه، وحين خصّوهُ وقبيلته بجلّ المراعي من أراضيهم السهلية والجبلية، وجعلوا من القناة فرعاً يصب في حوضٍ أعدوه تطوعاً لإبل ومواشي قبيلته وحاجتها، كعربون طيب نيتهم، بيد أن غطرسته خيلت له طيبتهم ضعفاً، ولم يأبه بتشريع (العارفة) الذي قضى بالقناة لأهل القرية، وأنه محقوقٌ والحق لا تغيّره الزلزلة، فاستهتر متفرعناً بأنه سيد المنطقة!، فلم يحتمل الباقون من أهلها جَوْرَهُ فساندوا القرية وطردوه منها، لكن النذالة السارية في عروقه أبت إلا أن تدل على صاحبها، فما خرج إلا وقد أحرق أطرافاً من البستان وخرّب أجزاءُ من القناة، فتضافرت جهود أهل القرية فأصلحوا ما أفسده ذاك النيروني النزعة.
- صراع خفي دار طويلاً بين صاحب العربة وسائق (البوسطة)، وخفية كان كل منهما يخرّب ما يستطيع من آلية الآخر، إلى أن وقعا بالجرم المشهود في قبضة أخرس القرية، فاستغلهما إلى أن حصلت تسوية بينهما، هذا الأمر ظل سراً، إلى ما بعد رحيل صاحب العربة، وضمن اعترافات سائق (البوسطة) وهو على شفا الموت، وقد حكى عن مغامراته والأخرس الذي برع بشؤون آلات التسجيل والمذياع وإصلاح الساعات والدراجات الهوائية. ويا لدهشتنا حين يروي سائق البوسطة ما جرى في بيت فلان، حتى أنه كان يذكر أقوالهم حرفياً، ونحن في حيرة وشك مما نسمع، لقد تركنا في ريبة، يشك بعضنا ببعضنا، والرجل بأخيه وربما زوجته، والبنت بأختها أو أعز صديقاتها، وكان قد جُنَّ حين نُبِذَ وقد خسر كل ما يملك وباع البوسطة ليُشبْع ولعه بلعب ((البوكر)) فكان يدور راكضاً في شوارع القرية متخيلاً أنه يقود (البوسطة)!. ثم اعتلّت صحته فانكفأ على باب المسجد طالباً العفو ممن أساء إليهم، وحكى كيف أنه والأخرس كانا يمدان سلك لاقط آلة التسجيل من غرفته إلى أحد البيوت من فوق الأسطحة عبر المدخنة، وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال أحد، وزيادة في الحيطة كان الأخرس هو من يقوم بتمديد سلك اللاقط، في الوقت الذي يكون فيه السائق ساهراً عند المختار حتى آخر الساهرين. لقد اعترف أنه سيطر على كثيرين وحصل على رشاوٍ وأتاواتٍ من بعضهم ليكتم أسرارهم، وفرض على بعضهم أن يمتدحوه أينما تواجدوا، وكم راهن وكسب الرهان حين يخيّر مراهنة بين جدي أو ديك حبشٍ يأكلانه على مائدة بخيل القرية الذي ما كان ليقدم كوب شاي لأحد مهما حصل. ولعل البخيل رضخ له مقابل أن يكتم سراً اكتشفه، وكم من مرةٍ انتقم من أحدهم بأن أنشب بينه وبين أقرب الناس إليه، خلافات كانت تصل إلى حد العراك والضرب وما هو أشد. ذكاء منحرف، لم يجد سبيلاً سوياً يسلكه، وربما كان رفضه للواقع وتعلقه بعالم تَوَهّمَ أنه قادر على جعله واقعاً بمفرده، فلم يبق في هذا، ولا وصل إلى ذاك، فضاع.
- روى أحدهم وقد عاد من القنيطرة ماراً بدمشق، أنه لم يصدق عينيه بادئ الأمر، لكنه رأى وقرأ ورقة كبيرة مكتوباً عليها /شركة "هليوس" تقدم فيلم: تحت سماء دمشق/ وأكد أنه قرأ اسم ذاك الرجل من أهل القرية. لم يفهم الكثيرون معنى ذلك، ومنهم من لم يفهم البتة، إلا أن أحدهم علَّق قائلاً: لعل المقصود أنه كان قد سافر إلى النمسا واستنبول. كان ذلك عام /1932/ يا بني.
- كان أهل القرية وهم الجبليون، لم يألفوا المدن وطباع أهلها، ولم يتمرسوا في البيع والشراء، فقد قضوا حيواتهم يقايضون. بضائعهم بما يحتاجونه من بضائع غيرهم، ولعل أساليب السمسرة وما يسمى /المبازرة/ غريبة على طباعهم، وربما كان في قلوبهم بعض التخوف من التعامل مع التجار، فكان الحاج مراد ملاذهم. - وفي فندق //قصر الزعفران// بباب الفرج، كان النزلاء من منطقة عفرين ينتظرون دليلهم إلى الأسواق والمتاجر، فهم أيضاً يعانون من قلة صبرهم على المجادلة وأساليب السمسرة، فكان حاج حمو يأتيهم بشرواله الأسود الضيق على ساقيه، وقد اعتمر عمامة ملونة فيأخذهم إلى /باب الجنين/ ومحلات /بحسيتا/ و/قسطل الحجارين/، وحين ينهون تجوالهم يحملهم مشترياتهم ويدفع بهم إلى الفندق ليتسنى له قبض /حق التعبة/ من أصحاب المحلات، ثم يلحق بزبنه ليأخذ /بقشيشاً/ ثم ينبههم إلى أن موعد الغداء قد حان، وأنه حجز لهم عند /سَطِحْ/ وسط باب الفرج، أشهر/كببجي/ ياآغا!!
- قيل أن صاحب العربة بعد أن ماتت زوجته بثلاثة أيام، باع ما يملك وامتطى حصانه وغادر القرية، وذكر شهود عيان أنه أمضى الأيام الثلاثة في حزن عميق، ولما غادر كان قد نسي حزنه، يخاله من يراه على صهوة حصانه، فتىً فارساً في قمة شبابه وتألقه، وسلك الطريق الشتوي عبر الجبال رغم أن الفصل مازال خريفاً، ومنذئذٍ انقطعت أخباره.
- وفي فندق /قصر البوادي/ بجب القبّة، يصعد حاج عبدو فيعانق منتظريه من أهل عين العرب والجزيرة فيأخذهم إلى خانات باب الحديد يبيع لهم منتجات حيواناتهم ومحاصيل أراضيهم، ثم يرافقهم إلى محلات /بناقوساً وسوق الزرب والسقاطية وسوق العبي/ يقبض من أصحاب المحلات عمولة، ويأخذ من زبائنه بدل أتعابه.
- حدث أن أغلق الحداد الثاني محله إذ لم يستطع تطويره إلى ورشة، ولم يقبل مزاولة الحدادة بما تتطلبه الحياة الريفية! وحدث أن رأيت الحداد الأول يعمل في صدر دكانه، ثم رأيته وقد أصبح يعمل في وسطه، ثم رأيته يعمل في حيز ضيق قرب عتبة الباب، وقد امتلأ الدكان من خلفه خردة.
- وفي إحصاء دقيق ثبت أنه خلال ستين سنة من حياة القرية، وقعت حادثة طلاق واحدة، وأن اثنين فقط قد جمعا بين زوجتين في آن معاً. إلا أن من ترملن وتزوجن ثانية وربما ثالثة، فعددهن كثير، ويبقى الأمر برمته معجم يكشف خلفيات اقتصادية واجتماعية تلتئم أروماتها عند أشنع ويلات حياة البشر، وأفظع مشكلة لجأ إليها الإنسان كحلٍ لمشكلاته، إنها الحرب، فهو مافتئ يطلق على الدنيا: المعمورة، ثم يواصل تخريبها!. لقد وقفت مدهوشاً أمام ظاهرة داعية للتأمل، فقد كانت بين القرية والمقبرة تلّة، كأن الإنسان يصعدها متدرجاً حتى القمة، وفيها أوج شبابه، ثم يتدحرج على سفحها الآخر إلى لحده! والعجيب أن حجم المقبرة تماماً بحجم القرية!!!
-ذات مرة مرضت مرضاً لم تنفع معه برشامات عطّار القرية، ولا مناقيع جذور الأعشاب المنتقاة من شعاب وأعالي الجبل، فقد كنت أتفصد عرقاً وأرتجف برداً، وتسري في جسدي قشعريرة، ولا تدفئ جسدي ثلاثة ألحفة دُثرتُ بها، فذبلت وامتقعت وهزلت، فأخذوني إلى حلب، ونزلنا بفندق قصر الرشيد، ولم يكن الطبيب /علي الحكيم/ في عيادته، وقد أبلغنا الممرض أنه يستقبل والده عند /خان العسل/، فقد عاد من الحج؛ وسيأتي العيادة عصراً وكان لأبي عمة وحيدة، تسكن مع ابنها في /قسطل المشط/ فتركني أبي مع أمي في الفندق، ووصل يسلم عليها، وبعد فترة عاد وبرفقته عمته التي ما أن دخلت الغرفة حتى سلمت على أمي بعجل، وجلست بجانبي، ثم وضعت يدها على جبيني ورفعتها، وهبّت واقفة آمرة أمي أن تسرع بحملي فالأمر لا يحتمل الانتظار حتى العصر، ودون أن تترك لأبي فرصة للاستفسار قالت: هذه السخونة نجسة، هيا بالولد.
دخلنا حارات وأزقة مسقوفة وزوابيق ضيقة، حتى وصلنا إلى باب ربعه أخفض من أرضية الزقاق، وله قنطرة، وهو مصفحٌ بتوتياء مطلي بلون أسود، وفيه نقوش بمسامير ذات رؤوس ناتئة، وعلى طرفه كف حديدية، تناولتها عمة أبي وحركتها طارقة الباب بها، طاقة صغيرة مشبكة بقضبان معدنية فُتحت، ومن خلفها أطلَّ وجهٌ يسأل بعينيه، فأشارت له عمة أبي إليّ، فتأكد ثم فتح القنطرة وأدخلوني، لم يستغرق الأمر وقتاً، ولم يسأل الرجل عن شيء، ولم يتكلم أحدٌ منا، عقد لي في معصم يدي اليسرى شريطاً من قماش أصفر، نقده أبي نصف ليرة، فأشار الرجل باصبعه طالباً مثلها، وخرجنا وأنا في شبه غيبوبة؛ أو أضغاث أحلام وقد ضعضعتني الحمى، وفي الفندق قالت عمة أبي: برديّة نجسة، وقد عقد لها مَنْ هو أنجس منها، وستخرج من جسم الولد قبل موعد الطبيب، هلموا اقضوا ليلتكم عندنا.
- بعد سنوات رأيت عطّار القرية يبيع لمن أصابته مثل تلك الحمى، أقراصاً صغيرة ذات لون مائل للصفرة، وفيما بعد عرفت أنها حبوب /الكينا/.
- وذات يوم كنت وأبي في حلب نجتاز الشارع بعقدته من أمام قسم شرطة النجدة إلى الرصيف الأيسر أول مدخل باب الفرج، زكمت أنفي رائحة نافذة، وقد وقف أبي يشتري (سجقاً وبسطرمة)، بينما وقفت أمام صندوق زجاجي على شكل متوازي مستطيلات، ثُبتت على زجاجه من داخله أوراق نقدية وعملات أجنبية شتى، استغرقتني الوقفة وأنا مأخوذ بما أرى، اقترب أبي مني وقد حمل ما اشتراه، نظر إلى الصندوق ثم إليّ فوجدني مستغرقاً، ولعله كان ينتظر مني أن أسارع إلى أن أحمل عنه ما اشتراه، لكن استغراقي أثار اهتمامه، فأشار بإصبعه قائلاً: هذا استرليني، وهذا مارك، وهذا دولار. ثمة صراع يا ولدي بينها، إنما لتلتهم ما سواها من العملات، والمرجح أن يكون الصرّاف هذا الأكثر استفادة. لم أفهم ما عناه جدك يومها.
- عندما لم يكن في حلب كلها ثلاثة يلبسون /الجينز/، كان سائق (البوسطة) يرتدي أفضل أنواعه وآخر صيحاته! وكان يراهن عليه /قُصاد/ فرو الدب الأبيض، وقد مات الرجل قبل أن يعرف أنه قد كسب الرهان!
- قلت لجدك: ولكني أقصد الرجل الجالس خلف الصندوق.
استغرب أبي وسألني مستفسراً: أتقصد الصرّاف؟!.
قلت كأني أذكر أنه.. حاج عبدو.. الحاج مراد.. حاج حمو!؟!
ابتسم جدك قائلاً: بلى... وهو صاحب الشريطة الصفراء. إنه (الخواجة...)!.