بتـــــاريخ : 11/13/2008 8:12:10 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1185 0


    الســور الـقـديـم

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مـحــسن يوســــف | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    الألم.. أخطبوط له عشرات الأيدي، تمتد وتعبث بخلايا الجسد الهامد.‏

    يتلمّس الأعضاء والملامح، تستقرّ اليد الباحثة على الوجه المنتفخ. الفك السفلي ما زال يرتعش وتصطدم أسنانه بالقسم العلوي. عيناه.. مع مضي الزمن، عاد إليهما الإبصار، وكان يظن في لحظات العذاب، أنه لن يرى بهما بعد اليوم. أنفه وأذناه. عنقه وشفتاه، ومؤخرة رأسه. كلّ هذه الأعضاء وسواها، افتقد الإحساس بها وتوقفت عن العمل، أما ساقاه، وقدماه، وظهره. مكونات جسده جميعها، اقتربت من الخط الفاصل بين الحياة والموت، ولعلّه وبرودة ليل المدينة الشتائي تلسعه وتعيد إليه بعض الإحساس، بوجوده، ما كان ليتوقع لهذا الجسد الملقى في مكان مهجور بين القدس وقرية سلوان أن يعيد سيرته مع الحياة، فيتماسك وينتصب رغم الآلام المبرحة، ويغادر الحفرة العميقة التي ألقي بداخلها.‏

    رفع رأسه باتجاه السماء، وشكر الله مراراً، وشعور بالاطمئنان يغمره، فساقاه تحملان جسده، وخطواته تتلاحق، وهواء ما بعد منتصف الليل، يتسرب عبر ثيابه الممزقة، ليوقظ ما خدرته الضربات واللكمات من لحمه وأطرافه، وها هو منزله يقترب، رغم الظلام، يتخيل البيت فاتحاً صدره، ليحتضن الآلام والكدمات والهموم.‏

    فتح الباب ودخل، دون أن يحدث ضجيجاً، لئلا يزعج النائمين، لكن وجوه: أمه وزوجه وأولاده، أحاطت به، يكسوها الشوق والقلق والتساؤل.‏

    تناثروا حوله وهو يجلس على أحد المقاعد. عيونهم عصافير أليفة، ترفّ حول وجهه المتورّم، وتلامس أثوابه الملطخة بالأوشاب والدماء.‏

    غالب إحساساً بالحنان والعطف، ورغبة أبية في البكاء، ومع ذلك راح يبتسم، ابتسم الأولاد، وظلّت الأم والزوجة ساكنتين، تتأملان الملامح المشوهة، والجسد شبه العاري.. خلال لحظات تغير كل شيء.‏

    الأبناء ينظرون إلى الأب باعتزاز وإكبار ويفكرون "لقد خاض معركة كبيرة ضد الغزاة".‏

    الأم نزعت الثياب عن جسد ولدها وساعدته في ارتداء ملابس أخرى.‏

    الزوجة جاءت بالماء الساخن والمطهرات.‏

    لم يسأل أحدهم عن شيء، وكان الرجل العائد من الموت، يبادلهم النظرات، ويبتسم، فلقد عاد، وهذا هو المهم الآن..‏

    ***‏

    منذ كان (علي) فتى صغيراً، وهو يرافق أباه إلى مكان عمله صباحاً. يساعده في حمل الصناديق والرزم، والكتب والمجلدات. ينظفها من الغبار، ويرتبها حسب أحجامها وألوانها، ثم يجلس على مقعد خشبي، على خطوات من مدخل المسجد، يرد تحيات العابرين، وينتظر عودة أبيه من المسجد، ثم ينطلق إلى مدرسته، خلف (سوق الباشورة) ليعود مع الغروب ويكون والده قد باشر بجمع الكتب، وإعادتها إلى صناديقها، لحملها إلى البيت.‏

    وهكذا، كانت الأيام تمضي، حتى بلغ (علي) سن الرشد، وتزوج وأنجب، ورحل أبوه إلى جوار ربه، برصاصة غادرة من سلاح أحد جنود الاحتلال، ليرث عنه عمله، ومكانه على تخوم المسجد الأقصى.‏

    يذكر (علي) جميع التفاصيل:حاول الغزاة إغواء الرجل الكبير لإبعاده عن السور ومنعه من بيع الكتب، وكانت وصية أبيه له، ويرددها في الصباح والمساء: "إياك ثم إياك أن تبتعد عن أسوار المسجد، أو تترك بيع الكتب" وقد أدرك فيما بعد سر رغبة المحتلين في إبعاد أبيه، وسروصية الأب الراحل، وها هي الأيام تؤكد له هذا الإدراك، وتزيد في تصميمه على الالتزام بالوصية، مهما كلفه ذلك من آلام وتضحيات.‏

    ***‏

    كان (علي) قد استسلم لسنة من النوم، لكن الإغفاءة لم تستمر طويلاً، أنهاها صوت الآذان، يدعو إلى صلاة الفجر.‏

    نهض ناسياً آلامه، لكنه لم يستطع التماس المسجد، فقدماه تورمتا، وآلام ظهره تمنعه من الانتصاب. تماسك يبتهل إلى الله، ثم سجد في مكانه وأدى صلاته، وفي الزمن الفاصل بين الصلاة وشروق الشمس، عاد إلى فراشه لتشاركه ذكرياته مع أبيه في وحدته.‏

    إنّه يتذكّر ذلك اليوم القديم، ولا يدري لماذا أحس يومها بالخوف والقلق، وأحد الرجال الرسميين، يقترب من أبيه، بعد أن تفحص صفوف الكتب المعروضة، ويخاطبه بصوت عال، أثار انتباه العابرين:‏

    * أنت. أيها البائع. من يدفع لك أجر إقامة هذا المعرض؟‏

    ابتسم أبوه وأجاب:‏

    * إنه.. مصدر رزقي.‏

    أعاد الرجل نظراته إلى الكتب، وقال بعصبية: لا.. لا.. هذا معرض دعاية ضد الدولة. ضحك الأب وأشار إلى العناوين والأغلفة الملونة:‏

    - ضد الدولة؟ قصة أهل الكهف، وقصة الإسراء والمعراج، يوسف والثوب الممزق. الملك سليمان والهدهد.. الطفل موسى وحكاية النهر. ماذا في هذه الكتب من دعاية ضد الدولة؟.‏

    تلفت الرجل العصبي حوله. تسلقت عيناه أديم السور، وتجولت فوق تضاريس المسجد، ثم أعادهما إلى الكتب.‏

    * هل أخذت تصريحاً باستخدام المكان؟..‏

    أجاب الأب:‏

    * أنا أضع كتبي هنا، قبل.. آه.. منذ زمن بعيد.‏

    قال له أبوه، بعد ذهاب الرجل: ".. وددت لو أخبرته أنني مقيم في هذا المكان، قبل قيام دولته، وقبل أن يدنس أمثاله، تراب هذه الأرض..‏

    في الأيام التالية، غاب الأب عن البيت عدة أيام، وعندما عاد، كان في مثل حاله: العينان والأنف والعنق والظهر والساقان.. والثياب. صورة طبق الأصل، لا تختلف في شيء، إلا في سيول الدموع التي غمرت وجه الرجل الكبير.‏

    قال له يومئذ:‏

    * الحكاية طويلة يا علي.. سأقصها عليك ذات يوم، أما الآن فكل ما أطلبه منك، هو أن تتمسك بأسوار المسجد وجواره، وتستمر في عمل أبيك إلى أن يكبر أبناؤك ويرثوا الكتب والمكان..‏

    ***‏

    ترك (علي) فراشه، وألقى نظرة من النافذة إلى الخارج، وكان صوت أبيه يلحق به، وصورة وجهه تبرز أمام عينيه، فتضيء تباشير الصباح الأولى قسماته الحزينة:‏

    - أدركت وهم يحيطون بي يا علي أنني أمام أحد أمرين أحلاهما مر، وهذه طريقتهم في التعامل معنا، فإما الاستسلام لإغراءاتهم الرخيصة، أو تحمّل عمليات الإذلال والتعذيب، ومن ثم الموت.‏

    في البداية عرضوا عليّ عملاً بأجر مغر في حانوت لبيع المواد المستوردة، وعندما لمسوا تمنعي أبدوا رغبتهم في تمليكي الحانوت.. لكني لم أستسلم فجاء الرجل العصبي الذي قال لنا اننا نعمل ضد الدولة وأعلن بصوته العالي" هذا الرجل يعمل لصالح جهات معادية". وبدأ مسلسل الإذلال والتعذيب، وما أظنهم يا بني سيتوقفون، لأنهم وهم يعرّضون جسدي لأحدث ما اكتشف الغزاة من وسائل الضرب والإهانة، لم يكونوا يضربون رجلاً يعتاش من عمله البسيط، بل كانوا يرون في جسدي المقاوم، كل ما ينتظرهم في المستقبل والأيام القادمة، ولهذا يا ولدي، أقول لك: لا تبتعد عن أسوار أرض المسجد، مهما كان الثمن والتضحيات.."..‏

    ***‏

    ما حدث للأب حدث مع الابن. لقد أردوا الأب برصاصة ذات مساء، وهذا هو الشيء الوحيد المختلف حتى الآن، وعلي يؤمن أن الأعمار بيد الله، ولو اجتمع غزاة العالم، ما استطاعوا تأخير أجله أو تقديمه.‏

    هكذا كان يفكّر، وذلك الرجل العصبي، يتقدم الجنود الذين أحاطوا به واقتادوه، سيراً على الأقدام، من جوار المسجد، إلى الجانب الغربي من القدس حيث ترتفع الأبنية ذات الطراز الأروبي، وتضج الشوارع والحانات بالصخب، وتختلط الأصوات بمختلف اللغات وتفوح روائح المسكرات من كل ركن وزاوية.‏

    فوجىء البائع الشاب، وهو يعبر مدخلاً واسعاً، يحرسه جنديان مسلحان، بصوت يرحب به، ويدعوه إلى الجلوس:‏

    *- أهلاً. يا علي.. اجلس.‏

    لم يصدق ما يسمع، وصاحب الصوت يوجه اللوم إلى الجنود، ويأمرهم بمغادرة المكان.‏

    امتدت يد الآمر نحوه، بعلبة تبغ فاخرة، ملأت خياشيمه برائحتها الثقيلة، ودون إرادة منه، تراجع رأسه إلى الخلف:‏

    * أنا.. لا أدخن.‏

    راحت عيناه تتجولان في المكان، والآمر الشاب يشعل لفافة، وينفث دخانها في فضاء الغرفة.‏

    على الجدار المقابل لعلي، راحت أضواء صغيرة تومض وتنير تضاريس خارطة كبيرة.‏

    تعلقت نظرات علي بالخارطة. إنه يعرفها جيداً، ورسمها كثيراً في دفتره المدرسي، حفر معالمها وأسماء مدنها وجبالها وسهولها وأنهارها في ذاكرته.. على تخومها الغربية كان يكتب فوق مكان القاهرة، وبخط جميل وكبير: (القاهرة المعزية) وفي وسطها يرسم حروف (مدينة رسول الله الكريم) وإلى جوارها، حيث تربض مدينة بيت المقدس، يلون ما حولها من فراغ، ويمد الخطوط لتتجمع وتحل صورة المسجد الأقصى مكان المدينة، ومن بيت المقدس، يتجه نحو دمشق وبغداد، ولا يتوقف شرقاً حتى حدود الصين.‏

    أما هذه الخارطة، فهي عجيبة العجائب، الأسماء غير الأسماء، والأماكن.. سبحان الله، كأنها غادرت مهادها وغيرت سماتها وصفاتها.‏

    كان الآمر الشاب، يلاحق نظرات علي، وعندما طال الصمت، هتف به قائلاً:‏

    * هل أعجبتك الخارطة؟.. كنت أعرف أنك مواطن صالح.‏

    صوب (علي) نظرات عينيه، إلى وجه الآمر، وأشار بإحدى يديه، إلى الجهة الشرقية من الخارطة.‏

    * كنت أظن أن الدولة تمتد بين نهري الفرات والنيل، فكيف شملت الهند والسندو.. وحتى حدود الصين؟..‏

    ضحك الآمر:‏

    * إنها حدود إمبراطورية المستقبل. كل مكان أقمنا فيه لنا الحق بامتلاكه، وهذا ما سنفعله.‏

    كان (علي) في تلك اللحظات يحس وكأنه في حلم، لكنه ما كان يشك لحظة، في أن ما يراه هو أقرب إلى الخيال بل هو خيال مخلوق مصاب بكل أمراض البشرية.‏

    لم يقل شيئاً، وإن كان يود لو يقهقه ساخراً، لكنه لا يستطيع، لأنه يعرف ما ينتظره ومستعد له، فما حدث لأبيه سيحدث معه، ولابد أن يخضع لما خضع له الأب الراحل.‏

    استمر الآمر في التدخين، ثم جاء صوته ودوداً رقيقاً، وقد غمرت وجهه ابتسامة كبيرة:‏

    * نحن نعلم أنك مواطن صالح، وتعيل أسرة كبيرة، والأعمال في (أورشاليم) قليلة، ولا تدر ما يكفي للعيش الكريم، فهل فكرت بعمل مناسب تعتاش منه" ؟.‏

    هز علي رأسه وأجاب:‏

    * الأمور حسنة والحمد لله.‏

    شد الآمر صدره وبسط يديه فوق المنضدة التي أمامه:‏

    * نحن نكافىء مواطنينا الصالحين، وقد قررنا أن نسند إليك عملاً يكفل لك عيشاً سعيداً، فلا تبقى في العراء، تحت المطر والشمس لقاء قروش معدودة.‏

    بقي علي صامتاً. عرضوا على أبيه حانوتاً لبيع المواد المستوردة، فماذا سيعرضون عليه؟ ولماذا كل هذا الاهتمام، وهل من المعقول أن تهتم دولة بكائن قامت على أنقاض أجداده وبني قومه؟.‏

    ظل صامتاً، والآخر يشرح له مهام عمله الجديد:‏

    * كل ما عليك، أن ترافق السائحين. تأخذهم لزيارة الأماكن التاريخية والآثار القديمة، وستنال مكافأة جيدة، ستكون أجورك بالدولار..‏

    لم يجد علي ما يقوله. كان يتمنى لو ينقض على وجه هذا الثعلب الذي يحاول إبعاده عن الأسوار، وهجر مهنة أبيه، وفي أعماقه تتنامى أمنية يعرف أنها لن تتحقق، وهي أن يكون نائماً ويحلم، وأن يكون ما يحدث يحدث في حلم.‏

    جاءه الصوت، أكثر رقة ووداً:‏

    * العمل بانتظارك منذ الصباح.‏

    وجد علي نفسه يسأل:‏

    * وإذا رفضت؟.‏

    سأل الآخر، باستغراب:‏

    * ترفض؟.. ما أظن أنك تفعل. غبي من يرفض أن تصبح حياته سعيدة.‏

    سمع علي صوته، يعلو ويعلو:‏

    * أنا أرفض. لا أستطيع هجر آبائي وأجدادي.‏

    في اللحظة التالية، تغير المكان والأشخاص. استعاد علي مشهد الخارطة العجيبة، ورأى أمامه محققاً وحوله مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح، وكان المحقق، يرفع في مواجهة وجهه، عدداً من الصور التي يعرف أصحابها:‏

    * أنت تعمل ضد الدولة. توزع صوراً ممنوعة. ألم توزع صوراً ممنوعة لـ..‏

    لم يعد علي يسمع كلام المحقق، وهو يتأمل الصور بمحبة. نسي نفسه لحظات، ثم ابتسم، وبعدئذ بدأ الألم. أخطبوط له عشرات الأيدي، تمتد وتعبث بخلايا جسده، تعيد سيرة والده، وتلقيه داخل حفرة في مكان مهجور، بين بيت المقدس وقرية سلوان..‏

    ***‏

    بعد أيام، غادر (علي) منزله في الصباح الباكر، حاملاً ما استطاع من رزم الكتب والمجلدات، وعندما وصل إلى جوار السور راح يرتب ما يحمل، حسب الأحجام والألوان، وعندما انتهى جلس على مقعد خشبي، على خطوات من مدخل المسجد، يرد تحيات الداخلين والخارجين والعابرين، وكان الألم ما يزال يذكره بأن الحكاية ستستمر وتستمر، حتى يلحق بأبيه، أو يهجر السور القديم.. أو تتلاشى أضواء تلك الخارطة العجيبة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()