بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:56:57 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1129 0


    علاقة..!

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : غسان كامل ونوس | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كان كل شيء يوحي أنه الأمر الذي يجب أن يتحقق؛ إذ إنه الوضع الأمثل.. وأن ما أقيم من أفراح، حتى الرقص المجنون، والغناء الماجن،. لا يداني قيمة ما تحقق. ولا يعطي المناسبة حقها، وكل ما وصلني من ردود أفعال، كان مؤيداً ومباركاً ومهنئاً. وقرأت حسداً في عيون كثيرة. وهذا ما زاد من تعلّقي.‏

    كان وضعاً يبدو معه أنه يستحق أن يترك كل شيء من أجله، فتركتُ، أغلقت النوافذ والأبواب الأخرى.. رفضت كل الاحتمالات الممكنة، أو مجرد التفكير بها، واقتنعتُ أنها احتمالي الأخير..‏

    ***‏

    أحسستُ بحلاوة الفوز ونشوة الوصال وطعم العسل.‏

    فترة من الزمن مرت، تستملكني حمى من نوع مختلف، وتسيطر على مشاعري قوة تدفعني للطيران حتى لأحسَّ أني أطير فعلاً، وأحلق عالياً، ولا يمكن أن يكون لي صلة بهذا العالم الأرضي البائس.‏

    هي ليست غريبة عني؛ أعرفها، سمعت عنها الكثير، حتى شغلتني عن كل شيء، وغدت سيدة الأحلام ومحورها.‏

    لم أنشغل كثيراً بتفاصيلها، صورتها في خيالي زاهية، لدرجة تبدو معها كالوردة التي لا يصح أن تفكر بوريقاتها أو فرعها أو مَيْسَمِها على نحو منفصل.‏

    صارت مركزاً لدائرة حياتي، أغيب قليلاً لأعود إليها، أقوم بأعمال كثيرة لأرضيها. وسرعان ما أجدني مشدوداً إلى المركز، مقدماً لها ما جنيت، وتاركاً من أجلها مشاريع واحتمالات.‏

    لكن ما حيّرني، وزاد من إثارتها وفتنتها، عدمُ تلهفها للقائي، وعدم انشغالها الكبير بي. لقد وافقتْ منذ البداية. أو أنها لم تعارضْ. وقد فسرتُ هذا حياءً وخجلاً وعذرية. وقلت: غداً حين نصبح معاً يضمنا حيّز واحد، تظهر عواطفها المكبوتة، وتعلن عن حقيقة مشاعرها.‏

    أنا لم أشك لحظة بها، ولم أفكر أنها يمكن أن تفكر في سواي. لأني لم أجد نفسي مرة واحدة، على الرغم من تعلقي الشديد بها، أقل منها شأناً. ولم أسمح لنفسي مرة واحدة، أن أتصوّر أنّ لدى أحدٍ آخر، أياً كان، إمكانية أن يحتل مكاني.‏

    هذا ما يقره سراً وعلانية، الكثيرون من معارفنا.. ولكني كنت حريصاً دائماً على إظهار توددي وتعلقي، كي لا تفكر أني يمكن أن أنشغل بسواها، كما يحاول أن يُفسد الحاسدون.‏

    غير أن السؤال الذي بدأ يفرض نفسه هو: هل كان ذلك حقاً؟! وهل عشت تلك الفترة بالفعل؟! أم أن كل شيء كان هلوسة وهذياناً ليس إلاّ!‏

    حين أستعرض مراحل حياتي معها، أصل إلى حالة من الذهول:‏

    فأنا لا أذكر منها حركة ودية، أو مشاركة حميمة. ولا أحتفظ، حين أفتش في ذاكرتي القريبة والبعيدة،مواساة أو تعويضاً أو عجزاً، بأي مشهد لها علاقة به، يعيد إلي توازني الذي بدأ يضطرب، أو يبرر لي ما مرّ، ويدفع عني شياطين اللوم وعفاريت الندم. حتى أني صرت أشك إذ أتساءل: هل هذه حقاً هي؟! أم واحدة أخرى؟!‏

    ولكني حين أسترق النظر إليها، وأرى تلك الصورة أمامي، أعترف بأنها تستحق التعب والإرهاق والتضحية، ويحق لها التباهي والدلال؛ فما لديها مميّز ومثير ومُشتهى.. فأندبُ حظي، ويدور الشك، ينخر عظامي، ويتركني فاقد الأمان والمتعة.‏

    أزمنة مرت، ونحن معاً، ولا زالت عواطفها غامضة، ومشاعرها مخبوءة؛ لم تعلن صراحة عن حبّها، ولم تبدِ تشوُّقاً لإقامة الطقوس المشتركة المستمرة. وفي كل مرة، تصطدم حماستي ببرودتها، وشوقي بصمتها، وشبقي بلا مبالاتها.‏

    حتى لأظن أحياناً، أن هذا ليس إلاّ احتلاماً ليلياً، أو مشهداً ابتدعه الخيال. وأنها ليست إلا صورةً، لا كائناً من لحمٍ ودم.. وهذا ما جعلني أفكر بأنها غير مقتنعة بي، وغير مرتاحة معي، وأنها تفكر في أمر آخر، أو أحد آخر!‏

    وعلى الرغم من الأوراق العديدة، والوثائق التي بحوزتي، والتي تقرّ وتؤكد، بشهود، وتواقيع، وأختام، أن العصمة في يدي، وأنني حرُّ التصرف بها، وأنها ملك يميني وحدي. وعلى الرغم من طاعتها لي، وانصياعها لأوامري؛ فإن إحساساً غريباً تسلل إليّ، جعلني أنسحب من حال الطمأنينة التي توهمتُ، وترك أوقاتي شروخاً بدأتْ تتزايد مع تزايد شكيّ ومراقبتي وتوتري.‏

    خجلتُ من السؤال عنها، عن تاريخها، أصلها وفصلها؛ فليس من أحد يمكن أن يعرف هذا أكثر مني. وترفعتُ عن استشعار علاقاتها السابقة، هي التي لم تستقرّ لأحد، رغم المحاولات التي لم تنته.‏

    وسمحتُ لنفسي التي صارت تتقلّى بتصوراتها وشكوكها، أن تقوم بأشياء لم أتصور أنها يمكن أن تحدث:‏

    فتشت أوراقها ورقةً ورقة.. محافظها، جيوبها؛ لم أجد شيئاً يثير الشك. وهذا ما يدعو للارتياح. وفي الوقت ذاته، لم أجد لديها أيَّ شيء يتعلق بي. حتى رسائلي إليها، التي كنت أبثها نيران أحاسيسي، لم أجدها. صورتي التي أبدو فيها في حال سعيدة، ليست معها. أو أنها في مكان آخر.. هداياي البسيطة في مادتها، القيّمة في مغزاها - كما كنت أعتذر- لم يظهر أيٌّ منها.وهذا ما يدعو للعجب والاستغراب: هل أحرقت كل هذا؟ هل ألقت به في بئر مهجورة؟ هل أعطته لعابر سبيل؟! أم أنها تخفيه في مكان عزيزٍ صوناً واحتراماً؟!‏

    لم أصل إلى جواب، وليس من المعقول أن أسألها؛ في هذا الوقت على الأقل. استحكم بيَّ القلق، أخفيته رغم اعتقادي أنه يظهر على ملامحي، ازدادت طلباتي الزوجية مرات في اليوم، لم ألحظ أي نفورٍ أو استياء. صرت أقوم الليل، بينما تنام وعلى وجهها ذلك الشعور، الذي يمكن أن تفسره رضى واقتناعاً إن كنت في حال جيدة، ويمكن في حال أخرى، أن يكون قرفاً أو إفلاساً أو استسلاماً. كنت أتمنى أن تتكلم في أحلامها؛ رحت أقضي ساعات الليل الشاق في التنصتِ، وانتظار أن تقول شيئاً، أن تبوح بأي شيء، أن يصدر منها أي كلام يجعلني أفهم شيئاً عنها. لكن ذلك لم يحدث؛ كانت أنفاسها رتيبة، ونومها هادئاً؛ لا كوابيس ولا توتر ولا انقطاع..‏

    بادرني شعور أن هناك أحداً غيري. وبدأتُ بتوجيه سياط اللوم على ثقتي العمياء بها، وتضحياتي من أجلها. وقبل ذلك وبعده، بثقتي المطلقة بنفسي، وأن ما من أحدٍ يتجرأ الاقتراب من حدودي، أو التطاول على عريني. وأنهم جميعاً ليسوا أكثر من أقزام أمام شموخي، وحشرات في جحور مملكتي.‏

    ومن يكون هذا الذي استطاع أن يدير رأسها نحوه، ويحتل جزءاً من مشاعرها، أو مشاعرها كلها؟! وصرت أؤكد لنفسي أنها، لابد، في حال جيدة معه، وأنها تلتقيه في غيابي، فتصل إلى حال من الإشباع يصبح عندها أي شيء أقدّمه لا معنى له، أو زائداً عن الحاجة. وقلت: لعلّ ما يؤمن ذلك، ويسهّل أموره، أني أغيب عن البيت زمناً محدداً، أخرج في ساعة معروفة، وأعود في وقت معلوم؛ حتى إذا ما رآني أحدٌ أخرج أو أعود في مواعيد مخالفة، سرعان ما يبادرني بالقول: تأخرتَ، أو بكّرتَ يا أستاذ، خيراً إن شاء الله..!‏

    فغيرت مواعيد خروجي من البيت، وعودتي إليه، وصرت أغادر وأؤوب في أي وقت. علّني ألاحظ أمراً ما يريحني.. مهما كانت نتيجته. ويجعلني أضع يدي على الحقيقة. لكني لم ألحظ أي شيء غريب.‏

    وما كان غريباً أكثر، أنها لم تعلّق على هذا الأمر، ولم تتعجب.‏

    وفكرتُ: هل هي من الذكاء بحيث يمكنها أن تخفي نفورها واستياءها؟! ربما لأنها تعلم أن قلقها سيوقع بها، ولكن كيف تمكنتْ من الوصول إلى حل؟! والتكيّف مع الوضع الجديد بهذه السرعة؟! ومتى استطاعت إخباره؟! وكيف توصلتْ إلى الاتفاق معه على تأجيل اللقاءات بعض الوقت حتى تستقر الحال؟! لا هاتف لدي، ولا عمل لديها لتخرج؛ كل شيء يصلها إلى البيت، وزوارها نادرون.. فأنا أكفيها، هذا ما أحسبه، ومالم تعترض عليه البتة.‏

    ومع تفاقم الحال، وتزايد الإحساس بالتعاسة والعجز، فكرتُ بالقيام بأفعال أخرى مريعة. قلت: سأضربها، وأطردها. لكن قبل أن أنفذ، فكّرتُ بالأولاد: ماذا سيحل بهم؟ّ كيف أربي الكبار؟! وكيف سيعيش الصغار؟! معها؟! هي التي لم أحسّ أنها تتعلق بهم كثيراً؛ حتى أني صرت أشك أن هناك مبالغة في تقدير حال الأمومة، وأنها تعطى أحياناً أكثر مما تستحق، وهي ليست أكثر من قيمة مثالية مطلقة نظرية، والواقع شيء آخر؛ وكذلك حال الأبوّة، وحالي معهم؛ إذ لم تختلف على عددهم، ولا على أسمائهم، ولا على تربيتهم، ذكوراً أو إناثاً، أصحاء ومشوّهين، مشغولين وعاطلين..‏

    ثم تناسيت الأولاد وقلت: إن أسرة مغلفةً بالنفاق والشك أشد خطراً من افتراق بمعروف أو من دون معروف. لكن حتى هذا الأمر عزّ علي؛ إذ كيف سأتركها تذهب دون أي جزاء أو عقوبة؟! وأينَ ستذهب؟! ليس لها أهل معروفون تعود إليهم. وهذا ما كان أمراً اعتبرت عدم أخذه بالاعتبار فضلاً مني، وإيجابية تضاف إلى إيجابياتي وتضحياتي..‏

    لاشك أنها ستذهب إليه، وهل هذا معقول أو مقبول؟!‏

    كيف أسمح لنفسي أن أفتح لها السبيل الذي يوصلها إلى من فضَّلته علي؟!‏

    أليس في هذا خيانة تستحق عليها القصاص، بحجم ما كنت أعلّق عليها من آمال، وما قدمتُ من أجلها من تنازلات، وتركتُ من أجل عينيها من فرص واحتمالات، كانت ستجعلني شخصاً مختلفاً؟! لا، هذا لا يمكن أن يحدث، ولن أحلّ قيدها، الذي يربطها بي إلاّ بعد أن أشفي غليلي منها..‏

    ***‏

    أعددتُ كل شيء للخلاص منها إلى الأبد، بعدما تحوَّل حبي الجارف لها رغبة عارمة في تدميرها..‏

    أرسلت الأولاد إلى بيت جدّهم، لنحتفل معاً بذكرى التحامنا الأول وحيدين تحت سقف واحد. هذه كانت حجتي التي لم تبدِ حيالها أي رضى أو استغراب. أعددت كل شيء مشحوناً بأحاسيس قاتلة، ومدفوعاً بألف رغبة بالانتقام، ومسلحاً بطريقة مبتكرة للقيام بالفعل، الذي سيعيدني كائناً حراً مستقلاً قادراً على التحرك والانطلاق، في اتجاهات أخرى..‏

    وعدتُ إلى البيت، كان على ما تركتُه عليه، دون أية حركة أو أنفاس، فتشت عنها في كل الغرف والأركان..‏

    كان كل شيء صامتاً بارداً شامتاً..

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()