بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:50:12 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1745 0


    انتظار في الشارع الخلفي

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : طـلـعـت ســــقـيـرق | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كنتُ معلقاً على الجدار.. بين عقربي الساعة تماماً حشرت.. أمد أصابعي، تمتد.. ينفلت ظلها فتذهب إلى مالا نهاية في المسافات والمساحات.. اقبض على طرف خيط عنكبوت.. اسحبه.. يطول.. حول رقبتي تماماً يلتف.. اصرخ.. أخرج قليلاً من إطار جلدي.. أتجول في الشارع الخلفي.. أحد الجرذان يصطادني بعينين ناريتين.. أختبئ.. لهاثي يطرق سمعي، فأغيب.. اسبح في بركة صغيرة من عرقي ..ابحث عن تفاصيل وجهي.. أقع على طرف السرير.. وتضيع المرآة في الزحام... .‏

    كان الوقت في الزمن البعيد، أو القريب على ما أظن.. كنت وقتها أنا عبد الموجود موجوداً.. جاء صوته آمراً.. رنت كلماته في أذني وهو يقول بشهوة:" اسمع الانتظار فضيلة.. عليك أن تنتظر ".. من حقه في مثل هذه الظروف أن يلقي الأوامر.. وقفت في البدء مثل إشارة استفهام، وحين لوى وجهه الذي ينقط استنكاراً، وقفت مثل نقطة ثابتة، وأخذت انتظر... عندها طاب له أن يضحك، أن يصخب، وراحت كركرات ضحكه تطرق باب عمري، لتزرع الطاعة التي لا مثيل لها...‏

    في ذلك الزمن، كانت زوجتي عاقرا، وكنت على الأرجح خارج سور الرجولة.. حتى اللغة كانت بعيدة في عمق مفرداتها عن فهمي.. عقارب الساعة التي أخذت تدور خارج زمني، سلخت جلدي... في هذا الوقت.. ربما قبله بوقت لا يطول ..كنت أقف في الشارع الخلفي... ..بدأ صوته عندها يتسرب من كل الثقوب.. يدق قلبي بمطرقة الريح ويعجنه.. أتذكر الآن الصورة بكل وضوح ..تأتي ضاغطة، ثقيلة ..كان بودي في ذلك الوقت البعيد أن أتنفس بحرية.. لكن - من حقي أن أتذكر هذا الآن - عندما كنت أهم أن أفكر - مجرد تفكير - بفتح رئتي للتنفس بحرية، كانت ضحكته تمتد وتعصرني... . تلوح صورة الغراب أمام عيني وأسمع نعيبه.. أستلقي على الفراش.. ارتمي... اصرخ.. أبكي ..يمر عام، فأسلخ جلدي وأرميه... يأتي العام الآخر، والصوت، فأضع قامتي أمام الجدار، واتركها في حالة انحناء...‏

    عندما صدمني هواء الشارع اجتاحتني نوبة من السعال الحاد... وضع السماعة الطبية... رفعها ولم يقل شيئاً.. انسحبت مسرعاً إلى غرفتي.. تحت الغطاء السميك اندلقت... أخذت أرتجف.. أرتعش... تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني... . صورة الغراب في عيني، ونعيبه في أذني...‏

    جاء صوته بهدوء وثقة" لا يجوز.. هذا غير جائز.. إذا انشقت الأرض وابتلعتك فماذا أفعل بعدك؟؟ لا تكن أنانياً.. أنت زهرتي وقنديل فرحي .." بقي صوته الدافئ معلقاً مثل سحابة ناعمة... كنت أسبح في حالة غريبة من النوسان بين الصحو والغياب... كنت في ذلك الزمن أنا عبد الموجود موجوداً.. كنت رقيق القلب، لطيفاً مثل نسمة... و لأنني لا أحب الأذية لأحد، وخاصة لمشاعر صاحبي الرائع الودود، فقد طلبت من الأرض الطيبة، أن تؤجل موضوع ابتلاعي إلى وقتٍ آخر... وقتها اتسعت ابتسامته وبدت بجلاء أسنانه المنخورة... وما أن لاحظ انزعاجي البسيط المؤدب من شكل أسنانه، حتى بادر بكل طيبة قلب، ودون أي إلحاح من قبلي، فذهب إلى طبيب الأسنان، وأجرى كل الترتيبات اللازمة من أجل تركيب أسنان اصطناعية براقة، لامعة، تناسب رقة مشاعري.. لا أستطيع أن أصف كم كنت سعيداً وقتها... شعرت لأول مرة في حياتي ربما، بأهمية شخصي الكريم.. هذا الشخص الذي هو أنا.. لذلك ما عاد يهمني أن يطول الانتظار في الشارع الخلفي.. وقتها، وأذكر ذلك جيداً، كنت أنا عبد الموجود موجوداً، وأخذت أنتظر ..‏

    في وقت من الأوقات اللاحقة، جاءتنا الأنباء نحن سكان الشارع الخلفي، الشارع القابع في العتمة، أن هناك تغيرات كثيرة تجري في الشارع الأمامي.. ذلك الشارع اتسع.. تغير تماماً.. حملت جسدي النحيل وذهبت لأراقب الوضع عن قرب... شاهدت العجب.. أخذت السيارات والأنوار والأبواق تدهس قلبي... حملت جراحي واختبأت.. كنت ذابلاً أمام ما أرى وأسمع.. وقتها كان صاحبي الرائع الودود يتجول بانشراح في الشارع الأمامي... يأكل ويشرب ويسهر حتى الصباح.. مرة واحدة بدا الانزعاج على محياه من أحد سكان الشارع الأمامي... عندها وبكل وضوح دعاني لأداء مهمة في غاية السرية.. شرح لي الأبعاد والمفاهيم وأشياء كثيرة ..طلب مني أن أدافع عن كرامته التي كادت تهدر، عن نمرة حذائه - وقتها لم أعرف أبعاد قضية نمرة حذائه هذه - ولأنني مطيع، فقد اندفعت مثل فيل... . لم تطل المعركة - يصعب أن ندعوها معركة - بعدها كنت مثل جثة لا روح فيها ولا حياة.. ارتميت ممزقاً مشتتا... ولا أدري - إلى الآن يصعب تفسير الحالات النفسية والأمراض التي كان يعاني منها - لماذا أخذ يضحك حتى استلقى على ظهره.. عندها حملت جراحي ودمي واختبأت خلفي تماماً ..عندها صاح:" لا تخف ياعبد الموجود... الفرج قادم... ".. للوهلة الأولى حملقت باندهاش... برعب... أي فرج؟؟ لكنني بعد وقت قصير، صدقت ..كنت وقتها ولا أنكر ذلك أسير الكلمات الكبيرة ..كان مسروراً.. وكان علي أنا عبد الموجود أن أمتلئ بالسرور.. وفعلتها.. أخذت أشرب قهوة الصباح بانشراح.. أضع رجلاً على رجل وأقهقه.. كانت القهقهات تدغدغ حبات قلبي فينفرط العقد وأضحك...‏

    في ساعة لا أدري موعدها بالتحديد.. صارت قهوة الصباح مرة.. انقلبت الألوان وتغيرت.. أضحك، فتأخذ الضحكة شكل نشيج.. عرف وشعر واستطاع أن يصل إلى نخاعي.. قال:" يا عبد الموجود ستأتي أيام لا مثيل لها.. أيام ستحسد عليها ..".. صورة الغراب في عيني ..‏

    على الرصيف في الشارع الخلفي أجلس.. يطلع الجرذ وينظر في عيني ببلاهة.. بتركيز ويمضي ... . الشارع الخلفي دافئ... جلدي يبصق العرق... . المسافات تغيب.. الملح يجتاح حلقي، فأبصق...‏

    رسمت وقتها على الجدار المائل سلحفاة.. السلحفاة.. استدارت ونزلت عن الجدار.. وقتها كنت أنا عبد الموجود موجوداً وساقطاً في شبكة عنكبوت... الخيوط اللزجة تسحبني ببطء.. أضحك... تكر الضحكة وتنسحب مثل خيط طويل لا نهاية له... السلحفاة تنقر جلدي برأسها وتذهب.. مددت يدي فامتدت وقبضت على السلحفاة.. رمقتني باستهزاء.. تركتها.. قلت:" لن تذهب بعيداً"... كنت وقتها واقعاً في شبكة عنكبوت.. العنكبوت يتلقى أوامره من الجرذ.. يغزل الخيوط ويمدها.. الخيوط تلتف حول خاصرتي فأضحك.. أصيح" أكاد أموت من شدة الضحك ".. يقول صاحبي الودود - الذي يقول دائماً :"يا عبد الموجود هذا أول الغيث.. كل شيء سيكون وردياً" صورة الغراب في عيني.. العنكبوت يمد خيوطه، ويمد..‏

    أحاول قدر المستطاع التقاط أنفاسي.. وقتها كنت أنا عبد الموجود، مسكوناً بالفرح.. لا أدري، الدافع أو الداعي لأن أفرح.. قال :" عليك أن تفرح ".. فرحت... أشار بيده الضخمة فانحنيت.. صعد على كتفيّ.. سرت وكان على كتفيّ.. مشيت في الطرقات وكان.. لهاثي ملأ الدنيا وكان.. رقبتي كانت لزجة.. وكان.. شعرت وقتها بالتعب والغثيان.. طلبت منه بأدب جم أن ينزل، فثار وشتم ولعن... شرح الظروف التي اقتضت أن يكون عبد الموجود مركوبا.. سرت وكان شخصه الكريم على كتفي.. وعدني بالكثير.. استمر الحال.. وحين رأى تخاذلاً مني أنا عبد الموجود نهرني فتماسكت.. بعدها أخذ يتحدث عن فضائله في جعلي متماسكاً ثابتاً.. نسيت تماماً أمر كتفي.. صورة الغراب في عيني.. بنى على كتفي ما أراد.. كنت وقتها أنا عبد الموجود موجوداً و معلقاً على جدار ..‏

    كنت أسيل دون ملامح فوق صفحة لا لون لها.. تغيم عيناي ببكاء مكتوم.. الدموع تطرق جدار الوردة فيهتز جدار القلب.. قال" اسمع" وما كان يهمه أن أسمع، أو أن أغلق أذني ..كان واقعاً في عشق كتفي.. وقتها كنت أنا عبد الموجود موجوداً وزائغ العينين.. أطوي رأسي ارتعاشاً وخوفاً.. كانت شعرات شاربي تذبل وتذوي وتسقط.. كان يضحك ويفرك يديه.. كنت انتظر.. أخاف أن يرى الأولاد الصغار في الشارع الخلفي بكاء قلبي وصورة الغراب في عيني ..وقتها لم يعد عبد الموجود موجودا.. وكان علي أن انتظر.. رغم كل شيء كان علي أن انتظر.. حتى حين كنت غير موجود كان علي أن انتظر... وقتها كانت الدروب تبكي.. والعنكبوت يمد الخيوط.. كنت أنا عبد الموجود معلقاً على جدار.. أمد أصابعي.. أبكي.. أسقط بين عقارب الساعة الصدئة.. طعم القهوة المرة في حلقي.. أجلس في الشارع الخلفي وأنتظر ..يمد الجرذ رأسه ويضحك.. يضحك الشارع الخلفي.. تضحك خيوط العنكبوت.. يضحك الجدار.. وكنت خارج عقارب الساعة تماماً... أنتظر

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()