ولكن هذا الحزن لايجده كل الجالسين هنا - وإنما جيلنا فقط ، هو الذي يشعر به.
لقد كانت مقهى ( الهافانا ) ملتقى عامراً بأناس نحبهم ونحمل لهم كل التقدير .. من أساتذتنا الأجلاء، وأصدقائنا ، أمثال : المفكر العربي الكبير زكي الأرسوزي ؛ والفنان الرسام نعيم اسماعيل ، والأديب والشاعر الساخر صدقي اسماعيل ، صاحب مجلة / الكلب/ والشاعر سليمان الخش ... وغيرهم .. لقد فارقوا الحياة جميعا - رحمهم الله ولا ريب أن رؤيتنا لأماكنهم الشاغرة، تذكرنا بهم ، وتبعث في نفوسنا الكثير من مشاعر الكآبة والأسى ..؟
-صدقت ..إن الزمن هو ، هو .. لا يتغير في مواقيته المعتادة ، ولا في تعاقب فصوله المعروفة .. والمكان أيضا ، هو ، هو .. لا يتحول عن موقعه ، ولا في ما وظف له .. إذا حافظ على شكله ومهمته .. ولكن الذي يتغير هو الانسان .. يتغير حسب مراحل حياته ، أو عبر أجياله المتعاقبة .. ومن هنا تختلف المشاعر ، ووجهات النظر بالنسبة لظروف الزمن ، وبالنسبة لما توحي الامكنة من انطباعات وأحاسيس ، وذكريات ..
إنني عندما عدت الى بلدي سنة 1964 ، وذهبت إلى قريتي بدت لي كل شوارعها ضيقة ، وبساتينها صغيرة ، وجدران منازلها منخفضة تكاد أن تكون أقصر من قامتي، مما بعث في نفسي الرعب ، وتساءلت هل تغيرت .. ثم اكتشفت أن الذي تغير هو أنا ، وليست الأمكنة !
ومنذ ذلك الحين ، بدأت نوبات النسيان تنتابني على فترات متباعدة .. -سألني محمود : هل تذكر ماذا قلت لي أمس ، عندما كنا جالسين في حديقة جامعة دمشق ..؟
-ماذا قلت لك ..؟ إنني لا أذكر ..!
-قلت لي : في هذا المكان ، بدأت قصة حبك الفاشل ، عندما التقيت ب / الفلاّحة / لأول مرة .. وقلت لي : إن ما توحيه إليك ، حديقة جامعة دمشق ، قد لا يخطر ابداً على بال أحد من أبناء الجيل الجديد ..
- لم استرح لكلمة / الفاشل / فقلت لمحمود محتجا: اعتقد أنني لم أقل لك إن حبي كان فاشلا ، لأن الحب عندما يستحوذ على القلب ، ويملأ اعماقه بعواطفه النبيلة الممتعة الى درجة الهيام .. الحب عندما يسيطر على الروح ، ويستولي على الفكر . يكون حباً حقيقياً عظيماً .. ولا يجوز أبداً أن يوصف بالفاشل ..!
-أنت لم تفهمني ،. إن ما أقصده هو أن حبك ذاك لم ينته بالزواج مع من كنت تحب .. أي أن الفاشل هو مشروع الزواج ..
.. واضاف محمود - في شبه اعتذار - هيا .. دعنا من هذه الحساسية المرهفة .. واحك لي قصة حبك مع / الفلاحة / فقد تجد بعض المتعة في سرد الذكريات التي لم يطلها نسيانك ..
وبالفعل احسست برغبة ضاغطة في إعادة ذكريات تلك القصة .. وربما لكي أختبر ذاكرتي الماضية ، إن كانت ماتزال سليمة ..؟
-قلت لمحمود : إن فشل زواج المحب بمن يحب ، يكون أحيانا سببا في طول عمر الحب .. وقد كاد حب / الفلاحة / أن يستعمرني نهائياً .. لولا ثورة أم البنين التي حررتني ، فخرجت منه منتصراً ، مستقلاً..
ومع ذلك ، لابأس من مراجعة شريطه:قصة الحب، بدأت مع أول نظرة -كما يقولون - حيث غمرتني نشوة عارمة ، وارتياح عميق ، وسعادة غامضة بمجرد أن لمحت ذلك الوجه الريفي الفاتن في نظري ، والعادي في نظر الزملاء الذين اسموها / الفلاّحة / استخفافا بذوقي/ .
تعلق قلبي بها .. واصبحت لا أمل من ممارسة ، سرقة التطلعات الخفية نحوها .. وعندما تغيب عن بصري يعذبني الشوق اليها ، ويكفيني أن أراها أمامي .. دون طمع في أي شىء آخر ولو نظرة خاطفة منها .. وقد استمرت تلك الحالة القنوع ، أكثر من سنة ، مع أننا كنا نزاول دراستنا في قسم واحد ..
ولا أذكر بعدها .. متى بدأت تبادلني النظرات ..!؟
في زمن الخمسينات ، وقبل / النكسة / كانت العلاقة بين طلاب وطالبات الجامعة ، لا تتجاوز حدود التحية المحتشمة . أو تبادل بعض الجمل القصيرة والمنتقاة من أجل استعارة كتاب أو استفسار عن محاضرة ..! أما عندما يلتقي طالب بطالبة خارج حرم الجامعة فمن النادر ان يتبادلا حتى النظرات ، ويمران ، وكأن أحدهما لا يعرف الآخر ..!
كانت عظمة شخصية الطالب . تفهم من جديته واجتهاده ، ومن احترامه لغيره وتعففه .. وتبدو في سلوكه الأخوي المستقيم مع كل الزملاء والزميلات .. أما بعض الحالات النادرة ، والمتسمة بالجرأة أو بنوع من الاستهتار من طرف بعض اللامبالين من الجنسين فإنها تثير لدى الأغلبية ردوداً قاسية من الاستهجان ، وتعد خروجاً وقحا عن المألوف ..
-قال محمود : وربما تثير عند بعض المعقدين من / المستقيمين / مشاعر الغيرة والحسد .. فيكون استنكارهم أشد قسوة ..!؟
يظهر انك ابتعدت عن صلب الموضوع .. فلا تنس أننا مع قصة / الفلاحة /.. كيف تم التعارف بينكما ..؟
-واصلت حديثي..!
صدفة.. وبدون تخطيط ، تم التعارف بيننا ، ثم ترعرت صداقتنا بسرعة ..وصرنا نعبر عن مشاعرنا بارتياح كلما التقينا ..وقد ظلت تلك الصداقة / الثقافية/ المتينة تربط بيننا حتى تخرجنا من الجامعة .. وافترقنا بدون حذر ، وكنا ، لا أحد منا يعرف عنوان الآخر ..!؟
في إحدى أمسيات معرض دمشق الدولي ، كنت جالساً في غرفتي افكر في وسيلة تجعل من جناح الجزائر في المعرض أكثر جاذبية في استقطاب الزوار.. وخطرت لي صورة غريبة .. فتساءلت ..لو أننا جندنا بعض طلابنا المكتنزين والخاملين .ووضعناهم في أحد اركان المعرض على شكل جثث مشوهة .. وكتبنا أمامهم : ( هؤلاء مجموعة من اخوانكم ضحايا الغدر الاستعماري ) الا يكون لذلك المنظر ابلغ التأثير في كسب تعاطف الزوار..!؟
وبذلك أيضا نكون قد اتحنا لأولئك المكتنزين فرصةً للاعتزاز بالمشاركة في الثورة .. وتداعت الأفكار وتخيلت اعلام الاستقلال ترفرف وأحسست كأن المكتنزين ، يتقدمون صفوف المحررين والجماهير تهلل لهم ، وتنثر الزهور فوق اكتافهم .. وتوهمت كأن يداً خفية تدفعني من كتفي .. وهاتفاً يهمس في أذني :
دع عنك حي / المزرعة / واركض نحو فضاءات المعرض فإن / الفلاحة / تنتظرك هناك ..!
كنت كاليائس من رؤيتها مرة أخرى .. فارتديت ثيابي على عجل ، واسرعت كالملهوف .. وكانت المعجزة .. لقد وجدتها مع قريبة لها ، تكاد تتخطى عتبة الباب الخارجي ، منصرفة الى منزلها ..
صافحتها بحرارة .. وشوق .. وحييتها ، فردت على تحيتي بطريقتها المحتشمة، المحببة لدي .. وصمتنا لحظة ..
ثم جمعت كل أطراف شجاعتي ، المتعودة على التشتت أمامها .. جمعتها بصعوبة وقلت لها:
بصراحة أود أن أزوركم في منزلكم لأطلب يدك .. فإذا لم يكن لديك مانع ، فارجو أن تحددي لي موعداً ، وتزوديني بعنوانكم ..؟
بينما اطرقت ( هي ) ابتسمت قريبتها وقالت لي :
لقد حدثتنا عنك ..، وهي تكن لك كل التقدير ..!
تملكتني في اللحظة نفسها عدة رغبات .. في الطيران .. في الصراخ ، في تقبيل الناس في الضحك .. في البكاء.. في القفز داخل نهر بردى .. ولم يبق في جعبتي أي كلام ..
قالت / الفلاحة / وهي مطرقة باستحياء ... يمكنك زيارتنا مساء الأسبوع القادم في مثل هذا اليوم ، والأحسن أن يكون زميلنا (فلان) معك ..فهو جارنا ، ويعرف دارنا..
لم أصدق نفسي .. أنني خطوت كل هذه الخطوة الجبارة الظافرة ..
ودعتهما .. وانصرفت كالمجنون ..
عزيزي محمود .. اسمح لي أن أتوقف عن سرد هذه الحكاية الآن .. بهذا الاسلوب التفصيلي ، إذ ليس في ما تبقى من أحداثها ما يستحق الافاضة أو يوحي بالاستمتاع ، لهذا سأختصر كلامي ، ضمن نقاط محدّدة قد تصلح في المستقبل لأن تشكل عناصر اساسية لكتابة رواية مؤثرة..
-عندما ذهبت إلى منزلها مع الزميل ، رحبوا بنا ، وقابلنا اخوها بوجه متردد ..
-قال لي أن البنت تريدك .. ولكن نحن لانريد لها أن تعيش خارج سورية ، بعيدة عنا .. كفانا تشرداً ..
-قلت له : وأنا لا أريد أن أعيش خارج قريتي ، كفاني غربة ..!
-وقف الأخ ..فوقفت معه ..فطلب مني أن أجلس قليلا ..
واختفى لحظة داخل احدى الغرف ..ثم عاد وقال لي :
- على كل حال ، تفضل ، وزرنا بعد اسبوع في مثل هذا الوقت ..
- توهمت أنني أسمع نشيج بكاء - صافحناه ، وخرجنا ..ولم أعد اليهم حتى اليوم ..
وبعد خمس عشرة سنة - كنت في اسوأ مراحل مرضي النسياني ..وقد كتب ولدي في / مذكراتي / يقول:
اليوم .. أغمي على والدي ، وهو في مكتبه ، بعد أن دخلت عليه سيدة ، معينة للعمل معه كمساعدة ، ولم يفق إلا بعد أن صفعه زميل له بكف ..! فقام وغادر مقر عمله شاحباً!؟
وتقول تلك السيدة التي زارته .. إنها تفاجأت عندما رأت والدي ، وهي متزوجة من استاذ مصري ، وأهلها في سورية : وقد جاءت مع زوجها للعمل هنا .. ولكنها الآن ترفض ذلك ..قالت إن أبي كان زميلاً لها وكان أحياناً يناديها مازحاً باسم الفلاحة / ولكن عهد المزاح قد انتهى