بتـــــاريخ : 11/12/2008 5:58:28 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 819 0


    الصّـَــفـَافــَـةُُ

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الفتاح عبد الولي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    استرقتَ السمع صغيراً. كنتَ الأحذقَ بينَ أترابك، سريعُ البديهة، تطلقُ أعذب الألحان من شُبّابةِ شفتيك، لكَ أروعُ حنجرة وأمهر أصابع في قرية الصَّفافة، تحفظ كل مُوَاهَاتِ المواسم الزراعية، من مختلف المواد التي تقع بين يديك ومن صلصال خيالك تشكلُ أبدع التكوينات والتحف على الجدران والأبواب والألواح ترسم أجمل اللوحات بالفحم وأقلام البوص ولك مواهب شتّى لاتُعد ولاتُحصى. أطلق عليك الفقيه عبد المؤمن أطول لقب عرفته بحياتي: "أبو الأفكار الخادعُ المكَّار." اشتهرتَ بين أقرانك بلقب "اللاَّهط"، فهل أنتَ تشبهُ فعلاً فرس النبي؟. أتَذَكّر كل المهارات التي كنتَ تتقنها ولاأزالُ محتفظاً ببعض أعمالك، إنها مقتنياتي الغالية، التي لن أفرط بها أبداً وبالذات ذلك التكوين الخرافي، الذي شكلتهُ من جذع شجرة الحنَّاء، التي قطعها سيفُ الحيلةِ، بِحجَّة أن جذورها هدَّدتْ بنسفِ داره، من الأساس. أخذت جذع الحنّاءة وقضيتَ أياماً تشكله بسكين ختانِك، ثم أهديته لي، بمناسبة إطلاق سراحي من سجن القلعة فأطلقت عليك، بعدئذٍ، لقب «عود الحِنّاء» فجرى هذا اللقب على كل لسان، كما تجري مياه «حِسْوَة المُخّرِّب» التي حفرناها معاً فأنقذت القرية وما جاورها من قرى من الجفاف الرهيب. لماذا صبغتِ الشمسُ وجهكَ بلون حَبَّاتِ الكَنَبِ؟، ولماذا يتكهربُ كل من ينظر إلى البريق المترقرق من عينيك الحولاوين؟! اصدقك القول[انه ينتاب كياني اضطراب مبهم لا أدري كنههُ عندما.أحدِّق في تقاطيع وجهكَ وغالباً ما أصاب بالدوخة وقد أعدتُ دراسة كل النظريات التي درستها وقرأت كل النظريات الحديثة ولم أجد تفسيراً واضحاً لهذه الظاهرة الغريبة، والغريبُ في الأمر أن الكثير ممن التقوا بِكَ زاروا عيادتي التخصصية لغرض الاستشارة، ولَمَّا اكتشفوا جهلي، أشاعوا في كل مكان، بأنني طبيب فاشل. وبعد ذلك، ومن خلال التقصيات التي أجريتها ، عرفتُ أنهم صاروا يغمضون عيونهم أو يتجنبون التحديق مباشرة في عينيكَ عند الحديث معك. وعند الفقيه عبد المؤمن تفسير طريف لهذه الظاهرة، فهو يعتقدُ أن الشيطان الذي تَدَرَّعَ بك يوم ولدت هو الذي يصدرُ ذلك البريق من عينيك، فأنت كما قال من مواليد السابع من صفر، خرجت إلى الدنيا وقت المغرب وكل من يولد في هذا الوقت، من هذا اليوم من شهر صفر يُعَدُّ - سَبْقَة شيطان - ويعتقدُ الفقيه، أيضاً، أن ثمة خللاً اصاب عقول أهل قرية الصَّفافة فاعتقدوا بأنك فلتةٌ من فلتات الدهر، ومرجع ذلك أن الجفاف الطويل، الذي ضرب القرية، قد أثَّر على الأدمغة فأضحت ضامرة جاهلة تُهوِّلُ الأشياء وتتخيل الذبابة طائرة مروحية، كتلك الطائرة الانجليزية، التي شنت هجوماً على القرية أيام الإمام، ولا يعلمون أن إبليس اللعين، الذي تَدَرَّع بكَ يوم ولدتَ، هو الذي يعلمك الطلاسم والحيل وهو الذي يغني ويحشو مخكَ بالأسئلة والإجابات الشاذة، أسئلة يعجز حتى المفتي عن الرد عليها واجابات لايصدقها العقل السليم لغرابتها، ويدللُ على صحة تفسيره للظاهرة اللصيقة بِكَ بنحافة جسمك الأنحف من الخيط وبأنكَ شارد البال، قلق، تصاب بالصُّرعِ ولا تحفظ «المَعْشَر» إلا بعد أن ترفع العصا صرخاتك إلى عِنَانِ الثريا وتقشر جلدك الأعلى.‏

     

    كثيراً ما أذهبُ إلى سوقِ الثلوث مع أهالي قرية الصفافة المشغوفين بعادة تكحيل العيون ووضع مَشَاقِر الرَّيحان والشَّذاب على «مَشَدَّاتِ الرِّشْوَانِ» التي يتعمَّمون بها والتعطر بعطر نفَّاذ الرائحة والتَّثَبُّج ببنادقهم وعصيهم، بجعلها على أعدانهم وأيديهم من ورائها، في الغالب يعودون من السوق، بدون أن يشتروا شيئاً لأنهم يقضون جل الوقت في الثرثرة مع المتسوقين عن خوارقكَ ومعجزاتكَ، كحكاية صعودك على ظهر الصفافة الوردية إلى سطح الكوكب - سعد مطر - لجلبِ النَّامَةِ التي تنزل المطر وكيف أفسد «الحُرَّاب - زنبور» مفعول النَّامة عندما سأل الصَّفافة - وأنتم في طريق العودة - عن الشيء الذي كنتَ تحمله، ولمَّا تَجَاهَلَتْه ولم ترد على سؤاله، لسعها، فصرخت من الألم، والمعروف أن الكرم مُحرَّم على جالبِ النَّامة وعلى جالبِ جالبها ولذلك حزنت الصَّفافة على سوء تصرفها ووعدتَكَ بإعادة الكرَّةِ، وحكاية حصولك على خاتم الإسم الذي إن فركتَ فصَّهُ لبّى طلباتك، مهما كانت مستحيلة حتى ولو طلبتَ أن يحول قرية الصفافة إلى جَنَّةِ خضراء تهطل عليها الأمطار، على مدار السنة، ويبررون تأخرك عن فرك فص خاتم الإسم إلى أن الساعة المليحة لم تحن بعد، فأنتَ وحدكَ العرَّاف الذي يدركُ بحدسهِ اللَّمَّاح متى يحين وهو، كما يؤكدون، قريبٌ. وكذا حكاية ظهورك في أكثر من مكان،في الوقت الذي تكون فيه موجوداً بشحمك ولحمكَ في معلامة الفقيه عبد المؤمن. وحكايات أخرى أغرب من الخيال، حتى أنا شاركتُ بروايتها للمتسوقين، لأنني أعْرَفُ الناس بكَ منذُ يوم الشَّعبانية، وقتئذٍ احتجب القمر خلف السحب والتهليلُ كان قد بلغ الذَّروة، شعَّ صدركَ فجأةً وخَرَجتْ منهُ صفافةٌ ورديةٌ متوهجة، طارتْ إلى ركن دار الزَّاهر، نشرت أنوارها حتى أحالت قرية الصفافة إلى واحةٍ من ذهب.‏

     

    كنتَ صبياً ناحلاً حين جلستَ في غرفتكَ تنحت من النُّورة نماذج ناطقة لأبطال الحكايات التي كانت جدتكَ شَرود تحكيها لكَ على سطح الدار في الأماسي المقمرة. في تلك الليلة الليلاء عوت ذئاب الريح فانطفأ الفانونس، وناحت هُمِّيمَاتُ الليل وعزفت الجن من داخل شقوق الجبل. فدخلتَ هِلعاً في كيس النوم "المُريْكنِي"، مستنجداً بصفافتك الوردية فجاءت من وادي حمامة، أو من رأس جبل شوكة، لاأدري من أين أَتَتْ. المهم أنها لبت نداءكَ وطارت تطوي الأفق حتى وصلت إلى فوق دار الزَّاهر ودخلتْ من "سُجَّارَةِ" غرفتكَ -من تلك الفتحة الدائرية، التي بسقف الغرفة- وكانتُ ياللعجبْ، تحملُ جُبح عسل النُّوب ومن داخلهِ يتضوع أريج زهرِ " العِلْب " ادخلت اصبعك فيه ولعقت ماعلق بها من عسل وفي التَّو ارتفعتْ حرارة جسدك وفرَّتْ وطاويط الخوف. حمتكَ الصفافة الوردية من الأرواح الشريرة ومن العَرْجَاءِ ذات الأنياب الزرقاء، التي كانت تحاول الدخول إلى غرفتك لمصّ الدم من رقبتك لأنك لم تنم مبكراً.‏

     

    تَسَلَّقتَ سلالم الأضواء الوردية ونمت بحضن الصَّفافة.. "هَوَّاه. هَوَّاه. ياابن النِّيني، ياكُحل بعيني." "غداً، لن تذهب إلى المعلامة ياصغيري. ستأتي جمعتكَ الحبيبة غداً لتلعب معكَ "سُمينة دارت." في الصباح الباكر سترتكبُ بعض الحماقات البريئة وستذهب إلى شجرة "الحُنْقُصِ". ستأكل من ثمارها الحمر اللذيذة، التي تشبهُ عيون صفافتكَ. لن تأتي قرود الجبال ولا الأرانب البرية، لأنها ياصغيري قد ذاقت طعم الرصاص المر وعافت الناس.غداً، سيهجر سيفُ الحيلةِ حريمهُ الأربع لأنهن بلغن سن اليأس وسيحاول الاستيلاء على ياقوت جبل الصفافة. ستلاحظ كيف يحقن وريده بلعاب الثعبان، لاكتساب المناعة، من سموم أعدائه. سيطلبُ النسر منكَ أن تشاطرهُ الفضاء وستلبي نداء المؤذن الذي يدعو الناس لصلاة الجمعة. في المسجد ستتهجدُ مثل جدكَ وسيعتلي الفقيهُ عبد المؤمن المنبر ممسكاً عصا الخيزران الغليظة وكتاب ابن نباتة الذي سيقرأ منهُ خطبة الجمعة. سيهز قامته القصيرة برتابة، ومن لغى فلا جمعة له. نمْ ياصغيري فغداً جمعة جامعة والدعوة عند الله مسموعة..."‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()