بتـــــاريخ : 11/12/2008 4:23:00 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1033 0


    حــدود العـالم...

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محسن خضر | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    حــدود العـالم محسن خضر

     

     

    حدود العالم تنتهي لكليهما عند جدران السطح، ولكنها تظفر أحياناً بفرصة تخطي هذه الحدود إلى أرجاء جديدة، عندما تصحب أمها مساء يوم الجمعة لشراء لوازم الاسبوع، أو عندما تصحبها إلى جدتها لأبيها..‏

     

    أما هو فيومه يمتد من السادسة صباحاً، وينتهي عند الثانية ظهراً، وعندما تعود أم سوسن من عملها وتتسلمها منه يخيم ليله مبكراً، ويلوذ بغرفته الوحيدة في انتظار فجر اليوم التالي، ليتسلم سوسن من أمها المهرولة إلى عملها.‏

     

    يقطع ساعات ليله الطويل مسترقاً السمع على خطوات البنت وأمها، فربما يخرجان ثانية من غرفتهما إلى السطح، وبذا يظفر بوقت اضافي مع سوسن.‏

     

    - أين ذهبت رجلك؟‏

     

    - أكلها العاو..‏

     

    تسأله، فيجيبها مقلداً صوت الوحش الخرافي، فتتظاهر بالفزع وتخبىء رأسها في حجره،وهل تفهم لو حدثها عن المنجم وكوارثه، واليوم المشئوم الذي انهار فيه، ليخرج وحده حياً من بين زملائه بعد ثلاثة أيام من الدفن تحت تراب الجبل، وقد فقد ساقه ولكنه اكتسب عمراً جديداً.. تعود لتسأله عن أبيها المسافر دائماً.. تحدثها أمها عنه، وعن سفره، ولكنه لا يعود أبداً محملاً بالهدايا كما تسمع منها دائماً.. أبوها الذي رحل يوم كانت بذرة في رحم الغيب؛ وعندما احتضنت عيناها نور الدنيا، كان أبوها قد ابتلعته الرمال الصفراء الملتهبة وسط سيناء..‏

     

    هل تفهم إذا حدثها عن الأعداء والموت واليهود والحرب..؟‏

     

    - فسحني..‏

     

    يطيعها كالمأخوذ، يرفعها بيد واحدة، لتصبح فوق المقعد الحديدي، وبيده اليمنى يعرك عجلاته لتجوب بهما محيط السطح، وهي تتقافز فرحاً، وتملأ السماء بضحكاتها الصافية، وتتجمع العصافير مستمتعة بضحكاتها.. تتعب يده، وتتعب بدورها من الضحك، فترتكن على صدره وتنام.. ويظل جامداً فوق مقعده حتى لا يوقظها، ويكاد أن يخنق أنفاسه في صدره حتى لا تهز رأسها المسترخي..‏

     

    بعد نصف ساعة تقريباً تستيقط، تطلب طعاماً، يقترب مقعده من باب غرفته الخشبية، يلتقط لفافة الساندوتشات التي يعدها بنفسه في الصباح الباكر استعداداً لهذ اللحظة.. يأكلان سوياً، عاتبته الأم كثيراً في البداية، نبهته إلى الساندوتشات التي تتركها فوق المائدة خلف باب غرفتهما المفتوح، ولكنها تجدها عند عودتها دون أن يمسها.. لم يغيره عتابها المتكرر، فاستسلمت بدورها لمنطقه واصراره. يحترم الأرملة الصغيرة التي عاشت على ذكرى رجلها المدفون في سيناء، رفضت عروضاً مغرية للزواج بعده، والتحقت بمشغل للملابس لتتكسب منه، إلى جانب ما تقبضه من معاش ضئيل.‏

     

    نمت سوسن على يديه، منذ أن كانت تزحف على أربع.. راقبها وهي تحاول المشي وتتعثر، إلى أن أصبحت تختال كالنسيم.. منذ الحادث لم يفارق هذا السطح، يتكفل زميل باحضار معاشه كل شهر.. ويكفيه عناء الخروج واستعمال العكاز..‏

     

    هاجمته الكآبة في البداية حتى تمكنت منه.. غزا البياض شعره، تعمقت تغاضينه وسقطت معظم أسنانه، وغدت الدنيا في اتساع مقعده المتحرك الذي لا يفارقه إلا عند النوم أو قضاء حاجة.. ولكن عندما ظهرت سوسن في حياته، أو بالأصح برقت في سماه أصبحت تعني عنده الدنيا كلها، لم يندم على عدم زواجه، فقد عوضته عن كل شقائه وجفاف أيامه.. نسي الحادث ونسي سنوات عمله الملول الطويلة في مناجم الصحراء النائية..‏

     

    لا تستوقفه شيخوخته إلا عندما تنادية معابثة:‏

     

    - يا رجل يا عجوز..مناخيرك..‏

     

    تهجم عليه، تغرز أسنانها اللينة في طرف فخذه، تهم بابتلاعه، تتشبه بالشبح، فيتظاهر بالفزع، ويستعطفها حتىتطلق ضحكتها الواسعة علامة العفو عنه، وتعود للسؤال عن ساقيه المقطوعتين، تحاول جذبه من فوق مقعده ليلعب معها، ولكنها آلفت في النهاية مشاركته من فوق المقعد..‏

     

    الشمس شمسنا، لا تشرق إلا من أجلنا، تحاول سوسن أن تحدق فيها، فتدمع عيناها.. يقول لها: عندما تكبرين ستنظرين إليها بلا دموع.. تسأله: ومتى أكبر؟، فيجيبها: غدا..‏

     

    العصافير التي تتقافز فوق الأرض، وتنشغلين بمطاردتها، تجىء لتسترق السمع على حواديتنا.. إنها تحب سماع الحواديت مثلك.. يضطر لابتكار حواديت جديدة، وخلق مواقف وأحداث جذابة بعد أن حفظت حواديته القليلة في الأيام الأولى.. يحدثها عن بطولاته الوهمية، وأسفاره المختلفة ومعاركه الجبارة.. تحدق فيه باهتمام، تلتمع عنياها بفرحة أيامها البكر وهي تنصت إليه.. يعشق التماعة شعرها الأسود الفاحم، ويعشق رائحته، ويسأل نفسه:‏

     

    - ماذا لو كان أبوك حياً؟‏

     

    تملأ خياشيمه مزيج من رائحة الياسمين والريحان والقرنفل آتية من خصلات شعرها، ورائحة رمال سيناء اللزجة مختلطة بدماء الشهداء..‏

     

    سأل نفسه مراراً: لماذا لا تتزوج أرامل شهداء الحروب؟..‏

     

    الأم كانت على درجة كبيرة من الجمال، ولكن سوسن كانت أجمل بالتأكيد.. أصبح يخصم الساعات التي تفارقه فيها سوسن من عمره، ويحسب عمره الحقيقي وهي معه، منذ أن يتسلمها من أمها في الصباح الباكر..‏

     

    يدور يعد الدقائق، ويراقب من وارء خصاصات شيش نافذته نافذتهما، ويتناوب النوم بين السرير والمقعد وتناول الشاي وسماع المذياع، حتى تدور الدنيا دورة كاملة، ويشرق يوم جديد على الخلق.. لايقطع صمته الطويل إلا طرقات أم سوسن على بابه في العصر، تناوله أطباقاً مختلفة من الطعام الذي أعدته بعد عودتها من العمل، يسألها عن سوسن، فتجيبه ضاحكة متعجبة، فلم يفارقها إلا منذ ساعة أوساعتين.. وتصبره حتى الصباح، وتهون عليه الانتظار.. في السادسة صباحاً يكون مستعداً تماماً للطرقات الموسيقية، تبعث الحياة في أوصاله الباردة، فتدفع سوسن إليه موصية بها كعادتها، ويطمئنها، ثم يبتلعها باب الدرج وسرعان ما تتلاشى دقات أقدامها فوق السلالم المتآكلة..‏

     

    يبدأ يومهما.. الجنيهات القلائل التي تتبقى بعد سداد ايجار الغرفة تتوزع بين سجائره وطعامه وحلوى سوسن.. يئست أمها من تغيير مسلكه، وانهائه عن ذلك.. وبالتكرار استسملت لحنانه المتدفق.. والذي يضفي على الأشياء والمواقف منطقاً غلاباً..‏

     

    تشاركهما الطبيعة فرحتهما، تمد الشمس أذرعها لاهية معهما، وتتلكأ السحب المارة فوق السطح لتمسح بأعينها مشهدهما الممتع، ويخيل له أن السطح يرتفع، حتى ينفصل عن العالم الأرضي ويلتحق بمدار كوني آخر بصحبة ملاكه الصغير..‏

     

    تمنى أن يقتصر طول اليوم على ساعاته الثماني معها، ويقتص من التوقيت الزمني الساعات التي يقضيها بعيداً عنها، بعد أن تأخذها أمها.. غالبته رغبة قوية في البداية أن يستبدل اسمها باسم "هدى" يحب هذا الأسم ولا يعرف سبباً لذلك.. تمنى أن يطلقه على ابنته إذا تزوج يوماً، وبمرور الأيام، وتكاثر الضربات عليه تراجعت أمنيته إلى مكان قاص في قلبه..‏

     

    تتوالى الساعات، وتنكمش ساعاته، ويشعر أن وقع خطوات أمها عند الظهر، وهي عائدة من العمل تعني انقضاء سعادته وتكدر يومه.. ينتظر يوم الجمعة بفارع الصبر، تنشغل الأم في شئون التنظيف والغسيل والطهي وتتركها معه، تمد لهما بساطاً على الأرض فيجلس معها ينعمان بدفء الشمس، وتنعم بحكاياته الخرافية، إلى أن تفرغ الأم من مشاغلها فتجلس معه، تحدثه عن أحوال الحي، وتشكو إليه الغلاء ومتاعب المواصلات، واستغلال صاحب المشغل لهن ومظاهرات الطلاب في الشارع،والبوتيكات الجديدة التي تفتتح في الحي الشعبي..‏

     

    ثم في المساء تصحب سوسن لشراء حاجيات الأسبوع وزيارة حماتها..آه.. ما أقسى الأيام..‏

     

    وما أسرع دورة الحياة.. وما أضيق ابتسامة الزمن.. ففي صباح يوم صيفي تلقى الخبر الذي نغص عليه حياته..‏

     

    - سوف أضع سوسن هذا العام في المدرسة..‏

     

    قالتها واستدارت، وغالب دمعة كبيرة انزلقت على شعيرات لحيته البيضاء والتي لم يحلقها منذ يومين..‏

    يشيخ الزمن، ويهرم الرجل، ويسلب متعته.. ففي العام القادم ستدخل سوسن المدرسة..‏

    كلمات مفتاحية  :
    حــدود العـالم محسن خضر

    تعليقات الزوار ()