|
المغيــرون...
الناقل :
mahmoud
| العمر :35
| الكاتب الأصلى :
محسن خضر
| المصدر :
www.awu-dam.org
تلتقط أذناه المدربتان حفيف الروب الزاهي الفخم، والنقرات الخفيفة للخف، يميز سمة الحركة: تأنق وحذر.
في اللحظة التالية يملأ جسده الفارع الضخم بصلعته اللامعة الحيز أعلى الدرج، يهمس بصوت يجمع بين الرقة والتنبيه: عم محمد.
تقفز عينا الأخير من فورهما إلى الاتجاه المعتاد، تشتهي عيناه المشهد، لا تخلو يد الهابط المتأنق من أطايب: طعام العشاء، ترمس شاي، علبة سجائر محلية أو مستوردة، قطع الجاتوه والشراب المثلج.
علمته مهنته كمخبر أن يخترق الظاهر، ويفترض الأسوأ، ويحتاط للخطر، ويتشمم اتجاه الريح: لا يستنيم للعادة أو يستمريء المألوف، يحاول النفاذ إلى هيبة الرجل المهم المكلف بحراسته في النوبة الليلية منذ أن وضعوا اسمه في قوائم الاغتيال وضعوا حراسة مشددة حول منزله طوال الأربع والعشرين ساعة، وكلف حارس آخر بمرافقته في تنقلاته، أما هو فقد اختير لنوبة الحراسة الليلية والتي تنتهي في السابعة صباحاً.
لم يفهم حتى اللحظة لماذا يهدد مجهولون الرجل المهم بالتصفية الجسدية؟
منذ أن كلف بالمهمة تكونت بينه وبين القاضي المهدد علاقة خاصة تقرب من خط الاحتياج المتبادل يمازجها نوع من الألفة.
يغالب الحارس سؤال نيزكي الطبع، ذئبي الأثر!
- وماذا إذا قدموا ونفذوا تهديدهم؟
تكر الأيام حياته الليلية، وتحوطه شهور متتالية آمنة حبلى بالترقب والحذر:
يمارس القاضي حياته المألوفة دون أن يفقد توازنه أو يسكنه خوف قوي: يمضي في الصباح إلى المحكمة، ويقضي ساعات المساء في النادي أو النقابة أو مع الأصدقاء قبل أن يهجع إلى منزله متأخراً عند منتصف الليل تقريباً.
عندما تلتقط أذنه جلبة السيارة القديمة نوعاً، يقفز من فوق الدكة الخشبية في مدخل العمارة الفخمة ليكون في استقبال الرجل المهم.
كان الأخير قد سأم مرافقة الحارس الذي يلازمه في تنقلاته فطلب منهم أن يصرفوه بعد انتهاء موعد عمله بالمحكمة، ليكون حراً في نصف اليوم الآخر واستجابوا له مع تحذيره وتزويده بسلاح شخصي.
يمضي الوقت بطيئاً ثقيلاً بعد أوبة الرجل المهم من سهرته، تستطيل أذناه وتضخم خيالاته أشباه الأصوات مترقباً انفتاح الباب ونزول الرجل المهم على الدرج بخطواته الواثقة الحذرة حاملا ما يجود به من طعام.
تتحرك أمعاؤه ويزدرد ريقه منتظراً أوان الفرج.
لا يتيح مرتبه المحدود أن ينعم بأيامه، وتضيق ذات اليد عن تأمين حياة حقيقية لأسرة من ستة أفراد.
يقضي نهاره نائماً ويقطع بقية نهاراته بين التردد على المقهى القريب من سكنه أو حضور الصلاة بالزاوية القريبة، يسود حياته جفاف يميزه العوز والوحدة وآلام ركبتيه.
مل من السؤال: أين اختفت المرأة المليحة التي تزوجها منذ سنوات بعيدة وراء الطبقات الشحيمة لتلك الثرثارة الشرسة؟
لابنائه عوالمهم، يتظاهرون باحترامه ولكنهم يقيمون حاجزاً بينه وبينهم يخفف الجفاف دفء نفوذ صغير يحظى به بين جيرانه وسكان الحارة بالحي الشعبي البعيد.
- يا عم محمد.
تجيء البشارة أخيراً، يسخو الظلام بفيضه، فيشعر أن شحوب ضوء الدرج يستحيل وهجا من نور. يدغدغ النداء الواثق الهادي الحازم مشاعره، فتلفه حالة من النشوة فيستعيد أوقات انفراده بأمرأته في صدر حياتهما.
يكرر الرجل المهم استدعاءه، يقفز الحارس من مكمنه في مدخل العمارة المظلم الدامس ويستجيب للنداء في خفة ورشاقة. يشعر بأطرافه ترتخي، ويلفه توحد غريب فيندمج تكوينه، وتنضغط ذراته فيشعر بكينونته حاضرة متوثبة.
عندما يتناول اللفافة من الهابط تعزف موسيقى خفية في أذنه، وتزدحم كلمات الشكر والتعفف على لسانه، ويسقط معظمها في الطريق.
يؤجل فضوله المختلط بفرحة طاغية حتى يعود الرجل أدراجه، وينفرد بنفسه بخبرة أوجدها التكرار تميز أصابعه محتويات اللفافة، يميل الطعام إلى السخونة في الشتاء، أما في الصيف فيرفد الطعام بزجاجة مثلجة تمتص حرارة أمسيات الصيف ، تبرع الطاهية التي تأتي مرتين في الأسبوع في اعداد الطعام، عندما يؤوب الرجل المهم في الليل يقوم بتسخينه إذا كان الوقت مبكراً، أو يكتفي بالزبادي والفاكهة إذا تأخر في الخارج.
ضبط نفسه مراراً متلبساً باستعارة المشهد واسترجاع الانفعالات، في سكنه أو على المقهى أو في أحلامه، تنجح وجبة العشاء الشهية في امتصاص احباطاته وتبديد أحزانه.
يحتضنه حنان "الباشا" كما تعود أن يناديه، لم يدلله أحد من قبل فحياته مسكونه بالشك والترقب، يلمح نظرهةالحذر الممزوجة بالشك في وجوه كل من يعرفهم، هو نفسه يسكنه تشكك متعمق، يتخلل جوانحه ودواخله.
ويحتار في تحديد مشاعره الحقيقية تجاه الشك والخوف والترحاب الظاهر الذي يستقبله به الآخرون! هل يسعده أم يشقيه.
يعجز عن تقديم اجابة محددة، يتبقى له على أي حال ما يشبع غروره، تسميته بينهم "محمد المخبر".
في البداية كان يقص على أسرته بذخ القاضي معه، ولكنه قرأ بالتكرار في عيونهم لمعة الحسد، فكف عن الحكي وحبس في صدره شئونه، استدرج البواب في الحديث فعرف أن الرجل المهم عاف الزواج حتى الآن، وفي القسم فهم لماذا يطلبون دمه ويسعون وراءه، لأنه حكم على بعض المعارضين بالاعدام فانتفض رفاقهم للثأر لهم والسعي وراءه. بالتكرار عرف أهمية الرجل: شاهده مرة فوق شاشة التلفاز يتحدث في برنامج ما، ورأى صورته مرتين في الجريدة، يذيب دفء التقارب برودة الحواجز الطبيعية، فيتحول من مراقب وحارس إلى تابع: قد يحمل للرجل حاجياته، أوينادي له البواب عند الضرورة.
في المرات التي يستدعيه فيها إلى أعلى تدهشه فخامة الشقة وإن كانت الاضاءة المعتمة والألوان الداكنة تميز محتوياتها.
تتواتر أنباء مؤكدة عن اختراقات هنا أو اخفاق هناك، ينجحون في النيل من بعض المرصودين من خصومهم أحياناً، ويفشل هجومهم غير مرة، فتثير أخبار النجاح والفشل توتر الرؤساء ومخاوف أطقم الحراسة وخاصة مع تكرار التعليمات المشددة المهددة باليقظة والاستنفار.
يلوذ بالأمان الذي تسبغه البوابه الحديدية المغلقة بالجنزير والقفل من الداخل، فيقطع بطء ليالي الحراسة بقصر الغفوات وانتهاب الكرى، وخاصة في الوقت الذي يتوسط منتصف الليل الشتوي وتباشير الفجر، لا تعادل لذة نعاس السحر لذة، وعندما يسطع آذان الفجر من أقرب مسجد لا يخرج ساكن من سكان العمارة الضخمة لصلاة الفجر ولا مرة واحدة.
لا تفلح البطانية السوداء الثقيلة ولا معطفه الميري الثقيل في دفع شعوره بالبرودة، ترتعد فرائصه فيلوذ بالنعاس الذي يخونه أحياناً، يحسد البواب الصعيدي القابع في غرفته الخشبية يستفزه شخيره المنتظم المرتفع الصادر من الغرفة الضيقة المزدحمة، تدهشه قدرة هذه الأجساد المكدسة على شغل حيز الغرفة الواقعة أسفل الدرج، دافع خواطر خبيثة، ومقاومة ماكرة عن الوسيلة التي ينفرد بها البواب مع امرأته وسط حصار العيون المحدقة، لديه خبرة شخصية لا تنسى في هذا الشأن.
يؤرقه قطع الزجاج الذي يملأ فراغات باب العمارة الحديدي قلقاً لا ينكره، فلو جاءوا بليل وسددوا أسلحتهم من موضع الزجاج لكوموه قبل أن ينتبه، أيستحق الأمر كله أن يودع هذه الحياة الجافة، أن تدركه راحة طويلة أخيراً؟
يظل طائر الخطر محلقاً على أية حال: يبصره ولا يأمنه، وان تظل حماية الخالق المأمن والملاذ.
للأيام ألوانها، وأغمقها يوم راحته الأسبوعي، أو يوم راحة القاضي أو يوم مرضه المفاجىء.
يعني ذلك أنه سيحرم من وجبته الشهية المعتادة. يعترف أن مهنته الأصلية تراجعت إلى الخلف، وأنه أصبح يختزل العمل كله، واليوم كله، والأحداث كلها في حدث واحد محدد هو امتلاء معدته ولعق لسانه بعد تناول وجبته المعهودة والتي يزدردها في بطء، ويلوكها بين أسنانه وضرورسه في متعة هائلة، كأنها عملية تعارف وتحسيس واستقبال، تبدأ لحظاته المشهودة، والحدث الجلل عندما يلتقط ردار أذنه حفيف الروب ونقرات الخف فوق الدرجات الملساء، تم يعقبها النداء الهادىء الحازم بأسمه، تعود أن يتلكأ في مغادرة نوبته في الصباح، حتى بعد تسلم زميله الحراسة منه إلى موعد مغادرة القاضي المنزل، وتحرك سيارته وبجواره حارسه الآخر.
يتعمد أن يراه الرجل المهم واقفاً في انتظاره حتى المغادرة كنوع من الاعتراف بالصنيع، وعندما يظهر عند قمة الدرج يهرع إليه ليحمل حقيبته الجلدية الأنيقة تدوخه رائحة عطر نفاذه كمخدر لذيذ، ويلقي الرجل عليه تحية الصباح في لهجة رسمية كأنه لا يعرفه من قبل.
في اليوم العاشر من الشهر العاشر للمراقبة هبط الطائر ناحيته، أستنام إلى راحة كونية، وهدأت مخاوفه حتى كادت تتلاشى.... المدينة هادئة كانت، والحي هادئاً كان، والقلب ينشد أغنيته، ولليل طعم الحليب في فمه.
وقفت سيارتهم بعيداً ثم ترجلوا منها، وحاذروا في سيرهم، كان مذياعه الصغير يثرثر ببرنامج ليلي، والحارس يحلق في مدار آخر بعد وجبة العشاء الشهية والتي ضمت نصف دجاجة كاملة وقطعة معكرونة كبيرة وتفاحة، عندما كسرت الماسورة الحديدية الباردة قطعة الزجاج التي تصل قضيبين حديديين بالباب الضخم، لم تكن بعيدة عن مكمنه فوق الدكة الخشبية في مدخل العمارة.
آخر ما شغله سؤال غريب عن صلعة الأغنياء ولماذا تلمع باستمرار عكس صلعة الفقراء...
عندما كانت الفوهة فوق صدغه تماماً كانت ابتسامة ترف على شفتيه، ابتسامة هانئة ممتعة، هادئة.
|