بتـــــاريخ : 11/12/2008 3:40:29 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1124 0


    الـــــــصـــراخ

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عــلـي الــمـزعـل | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الـــــــصـــراخ

     

     

    بهو المشفى يحاول عنوة أن يقبض على أضواء كريستالية لامعة بدأت تتلاشى أمام‏

     

    خيوط الفجر الناهض عبر النوافذ الزجاجية التي تصل المشفى بالعالم الخارجي،.... وفي‏

     

    بعض الزوايا لا زالت أضواء المربعات الكريستالية المنبعثة من سقف البهو تحتفظ ببريقها‏

     

    كما لوكانت في أول الليل..‏

     

    وعلى المناضد الموزعة في أرجاء مختلفة تبدو وجوه الممرضات المناوبات في آخر‏

     

    حالات صحوها، وثمة أنين ينبعث بين الفينة والأخرى لمرضى أحسوا للتو بقدوم الفجر، أو‏

     

    ايقظتهم جلبتنا ونحن ندخل الآن بهو المشفى، حيث غرفة المخاض التي غيّبت زوجتي خلف‏

     

    باب خشبي عريض ظل يهتز لفترة من الزمن تمكنت خلالها أن ألحظ الحركة الدائبة لطاقم‏

     

    الممرضات والاطباء الذين استيقظ بعضهم الآن، وخرجوا من غرفهم وهم لا يزالون يربطون‏

     

    أزرة صداراتهم البيضاء التي بدت وقد تكسرت أطرافها أثر نوم مؤقت على أطراف الأسرة،‏

     

    أو فوق المقاعد البلاستيكية البيضاء المتخاصرة داخل غرف الإطباء والممرضات، وقد بدا‏

     

    على وجوه البعض آثار انزعاج واضحة ربما ترافقت في أعماقهم بسيل من الشتائم المضمرة‏

     

    لهذه اللحظة التي دخلت فيها زوجتي غرفة المخاض.. أو ربما لعنوها ولعنوا زوجها وحتى‏

     

    القادم الجديد الذي سيهبط بعد قليل إذا سارت الأمور على ما يرام...‏

     

    وبذلك يكون قد أكل أول لعنة في حياته... أو حتى قبل خروجه للحياة.. وبالمقابل بدا‏

     

    على وجوه المستخدمات شيء من الإطمئنان والفرح الذي حاولن انهاضه رغم علامات‏

     

    التعب والبؤس الواضحين على ملامحهن، والسبب في ذلك كما علمتني التجربة.. حيث دخلت‏

     

    هذا المكان أكثر من خمس مرات خلال الخمس سنوات الماضية هو رغبتهن في الحصول‏

     

    على مبلغ من المال بشارة المولود الجديد، أو بيعهن بعض لوازم الولادة الموجودة بحوزتهن،‏

     

    والمخبأة في بعض أدراج الخزن القديمة المتآكلة، وهن الوحيدات اللاتي حاولن مجاملتي في‏

     

    هذه الساعة الحرجة من آخر الليل..‏

     

    سيكون المولود صبياً إن شاء الله ...، توكل على الله وادع لها بالسلامة ..، الولد الذي‏

     

    يوفقه الله ثروة لأهله... لا تضجر... اصبر قليلاً...‏

     

    حتى اولئك اللاتي لم يتكلمن، كن يبادلنني نظرات لا تخرج في مغزاها عن كل‏

     

    ماسمعت من عبارات المجاملة..‏

     

    وبعد فترة وجيزة توقف باب غرفة المخاض عن الاهتزاز، وراح ينوس ببطء شديد‏

     

    على نحو لم يعد يسمح لي بملاحظة مايجري في الداخل،... واستحالت الاصوات إلى‏

     

    همهمات ترتفع حيناً وتتلاشى أحياناً، وبين هذا وذاك يرتفع صراخ زوجتي ... ياالله.. ثم‏

     

    يغيب ليصبح أنيناً مقطعاً، أحاول التقاطه بصعوبة بالغة، وتنفجر في داخلي مشاعر متناقضة،‏

     

    من الألم والفرح والترقب،... كل هذا وأنا أذرع المكان جيئة وذهاباً..‏

     

    أقف أمام الباب، أصيخ السمع قليلاً، ثم اتابع خطواتي الواهنة فوق بلاط نيلي لامع،‏

     

    لازال يحتفظ بأذيال النور المنبعث من المربعات الكريستالية المتخاصرة علىطول السقف..‏

     

    وفي محاولة لتقطيع الوقت، وابتلاع حالة الترقب، تطير عيناي عبر النوافذ وفوق بعض‏

     

    المصابيح الصغيرة المعطلة التي غاب التماعها عن بلاط المشفى،.....ثم أقف قليلاً لمراقبة‏

     

    بعض القادمين الجدد، الذين تغيّبهم أقسام المشفى المتداخلة.. بين الاسعاف والجراحة والولادة‏

     

    وغير ذلك..‏

     

    يرتفع صراخ زوجتي ..آه... ياألله.. فأحث الخطى نحو باب غرفة المخاض.. أقف‏

     

    متوتراً إلى أن يغيب الصوت، فأعاود المشي من جديد، وأنا أتمتم ببعض الدعاء واستسلم‏

     

    لتخيلاتي وأفكاري..‏

     

    كيف سيكون المولود الجديد...؟‏

     

    أتصور شلكه وبكاءه وحركته، وشبابه، وطريقة مشيه ومصيره المجهول.. تتداخل في‏

     

    ذهني أيام طفولتي وشبابي..، أتذكر أمي، .. أشعر الآن بالكثير من الندم على كل الآلام التي‏

     

    سببتها لها منذ اللحظة الأولى لولادتي.. صوتها ينهض في أعماقي ..آه .. يا ألله ...، ثم‏

     

    أتخيل كيف كان بكائي، وكيف كان شكلي..، أتمنى لو أراها الآن في هذه اللحظة تماماً لأقبل‏

     

    يديها..، لأشتم رائحة صدرها، ..لأغرق في حنانها كما كنت أفعل حين تواجهني متاعب‏

     

    الحياة..‏

     

    أقرر زيارة المقبرة في يوم الغد..‏

     

    يرتفع الصراخ مرة أخرى، يخرج بعضهم من غرفة المخاض، أركض نحوه..، لا‏

     

    تخف...، توكل على الله، اصبر قليلاً ..، يقولون ذلك بوجوه محايدة، وكلمات مختصرة لا‏

     

    تسمح لي بالمزيد من الكلام..‏

     

    في هذه اللحظة..، ساورني بعض القلق، تذكرت أطفالي الذين تركتهم في الفراش وهم‏

     

    ينامون على أحلامهم...، شعرت بشيء من الخوف لم أشعر به من قبل..، صارت لدي رغبة‏

     

    عارمة بابتلاع سيجارتي التي ترافقني عادة في الملمات..، تلّفتُ حولي، يدي فوق جيبي‏

     

    وبالأخرى ولاعتي،.. بدأت أبحث عن نافذة ما، عن مكان ما، لا يراني فيه أحد، سيما وأن‏

     

    جدران المشفى تمسك بالكثير من اللوحات التي تحذر من التدخين وتشرح أضراره على‏

     

    المرضى والأصحاء..‏

     

    تراجعت رغبتي قليلاً، ثم ما لبثت أن ثارت من جديد وأنا أتجه نحو نافذة صغيرة في‏

     

    زاوية ميتة لا زالت تنتظر خيوط الفجر التي أصبحت أكثر وضوحاً الآن..‏

     

    تناهضت قليلاً حتى صار وجهي في قلب النافذة التي يغطيها شبك ناعم مهترئ في‏

     

    بعض جوانبه.. تسربت إلي رائحة الفجر ونداه..، أشعلت سيجارتي وأطلقت دخانها الذي بدأ‏

     

    يتسرب عبر عيون الشبك المهترئ، ثم يرتفع رويداً رويداً إلى أن يغيب بعد أن تمسك بأذياله‏

     

    حلقات جديدة من الدخان المحترق ، والانفاس المحترقة أيضاً ... ولا اكتمكم أن بعض حلقات‏

     

    الدخان تسربت إلى داخل المشفى وأنا أحاول التراجع قليلاً نحو الخلف لأرمق باب غرفة‏

     

    المخاض حيث صراخ زوجتي..‏

     

    لكن الصراخ هذه المرة جاء مختلفاً تماماً..، صراخ رجل له صوت خشن أجش مسربل‏

     

    بالألم، والدموع، وندى الفجر.. أذهلني الصراخ، أصخت السمع، تراجعت قليلاً، نظرت في‏

     

    أرجاء المشفى، لاشيء جديد، .. جاء الصراخ مرة أخرى..، ركضت سريعاً نحو النافذة،‏

     

    أدركت الآن أن الصراخ يأتي من الخارج وباتجاه معاكس لحلقات الدخان المنبعث من‏

     

    سيجارتي..‏

     

    تناهضت من جديد، التصق وجهي بفراغ النافذة، وأنا ألاحق مصدر الصوت...آخ ..‏

     

    يارب .. دعني وشأني، ويتصل الأنين والبكاء المخنوق، .. ويرتفع صوت آخر: أخرس يا‏

     

    ابن الكلب..؟ والله سأعيدك إلى بطن أمك إن لم تعترف! ومن الخلف يتجدد صراخ‏

     

    زوجتي..آخ.. يا ألله.. أترك النافذة ، أركض إلىحيث غرفة المخاض، ألتصق بالباب، أحلل‏

     

    الأصوات والأنين والأنفاس، ووقع الخطا، ثم أعود مجدداً لأقف أمام النافذة، أشعل سيجارة‏

     

    أخرى، ويقلقني الصمت لبرهة من الزمن أخالها دهراً..، حتى يرتفع الصراخ مرة أخرى ..‏

     

    خشناً أجشاً مؤلماً مخنوقاً..‏

     

    دخيلك يا سيدي..‏

     

    آخ..‏

     

    نعم أنا .. أنا يا سيدي..‏

     

    وينهض الصوت الآخر خشناً أجشاً غاضباً..‏

     

    إذاً : أنت الذي سرقت يابن...‏

     

    آخ...‏

     

    أجلت النظر في المكان....، أتسع فراغ النافذة أمامي، كلما ارتفع الصراخ.. أبنية كثيرة‏

     

    متداخلة، ومداخن مرتفعة لازالت تحتفظ بسواد الأيام الخالية، وعصافير على زوايا الأبنية،‏

     

    وفوق أغصان الأشجار الناهضة من خلف أسوار البيوت تنفش ريشها المبلل بندى الفجر،‏

     

    وترسل صوتها في الفراغ وصراخ جاف حزين:‏

     

    سرقت من أجل العيال يا سيدي‏

     

    أنا لست سارقاً... آخ..‏

     

    دققت النظر ..، ابتلعت عيناي كل النوافذ والجدران والأزقة، وارتكزت أخيراً على‏

     

    نافذة حديدية سوداء تفضي إلى فراغ باهت هو نفسه مصدر الصوت، ضاقت حدقتاي وأنا‏

     

    أحاول عنوة التقاط موجودات الفراغ، حتى بدت لي طاقية تنهض على رأس أطل سريعاً ثم‏

     

    اختفى، وثمة سيارة في المكان جعلت الأمر واضحاً تماماً..‏

     

    مصادفة غريبة أن تكون المشفى إلى جوار المخفر، هناك من يحاول إعادة الرجل إلى‏

     

    بطن أمه، وهنا من يحاول إخراج المولود من بطن أمه!؟..‏

     

    تسللت إلى شفتي ابتسامة، وأنا أحاول التقاط الأصوات والحركات... آخ دخيلك يا‏

     

    سيدي..‏

     

    ويأتي صراخ زوجتي .. آه .. يا ألله...‏

     

    ثم تناوب الصراخ بين غرفة المخاض وفراغ النافذة، وتناوبت أذناي بين الداخل‏

     

    والخارج...‏

     

    وفي اللحظة التي ارتفع فيها صراخ طفلي الصغير تلاشى صراخ الرجل. لا أدري لماذا‏

     

    لم أشعر بالفرح الذي كان يغمرني في المرات السابقة..؟! ..‏

     

    ولا أدري لماذا شعرت أن الصراخ الأجش الحزين المسربل بالألم وندى الفجر ... هو‏

     

    صراخي أنا، والد الطفل الذي أحمله الآن.. والذي بدأ يصرخ ويلوب بشفتيه بحثاًعن طعام..!؟‏

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الـــــــصـــراخ

    تعليقات الزوار ()