بتـــــاريخ : 11/8/2008 12:00:10 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 883 0


    عينان

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : ibrahimdowaidar | المصدر : forums.m7taj.com

    كلمات مفتاحية  :
    عينان قصة

    ما أجمل النوم وما أجمل أن يغط الإنسان في النوم اللذيذ! هذه كانت حالي قبل ينعق الصوت المقزز للهاتف المحمول معلناً نهاية الأحلام اللذيذة وبداية الواقع الممل المرير. أفتح عيناي في تؤدة وكسل ... في هذه اللحظات يروادني شعور غريب... ألم يكن من الأفضل ألا أوجد في ذلك العالم... ألم يكن من الأفضل أن لا أحس بذلك الكيان المادي الذي يكبلني بقيود غليظة تتمثل في أطراف أجرجرها خلفي في كل لحظة ... نعم هذه هي حالي عند الاستيقاظ أو الحركة أحس أن روحي تكاد أن تثب من صدري لتحلق بعيدة حرة في هذا الفضاء اللامتناهي لتري الماضي والحاضر وتستشرق آفاق المستقبل البعيد ... ولكنني خلقت لأعيش تحت نير هذا الجسد وأن اصطلي بنيرانه المتوحشة ورغباته الملتهبة التي لا تنتهي . الساعة الآن السابعة والنصف ... أسرع في محاولة الانتهاء من طقوسي اليومية المعتادة... يجب علي أن أغسل وجهي جيداً لأزيل آثار ما حل بي في النوم العميق ... أتأمل عيناي الملتهبتان كالجمر في المرآة وشعري المنتفش في غير انتظام وملابسي التي أحاول ارتدائها علي عجل ... أنهي هذه التفاصيل التافهة كعادتي في سرعة... أهبط سلالم الدرج ... أسير في الطريق وسط الحشود التي تهرع إلي عملها من طلاب وعمال و موظفين . أركب السيارة المتجهة إلي مدرستي التي تقع في أحد القري للمدينة التي أقطنها . بينما أنا أجلس في أمان وهدوء... فإذا بمنظاري يطير ويقع أمامي علي أرضية السيارة وإذا بأحد الجثث العملاقة لأحد الركاب تطحني طحناً ... شعرت بأنفاسي تتلاحق وبألم شديد في صدري ... ولكن يالها من مفاجأة ... انه أحد زملائي في المدرسة أستاذ سمير الذي بمجرد أن رآني حتى انهال علي تهليلاً وتسليماً وأخذ يلقي علي درسه اليومي في أهمية الاستيقاظ المبكر والذهاب إلي الحصة في موعدها المحدد بل وضرورة حضور الطابور ... من العجيب أن الأستاذ البالغ من العمر أربعين عاماً مدرس مواد فلسفية وبالرغم من ذلك فهو يدرس اللغة الأجنبية للطلاب في المدرسة فالمسألة في نظره مسألة خبرة وليست مسألة تخصص أو بالأصح هي مسألة فهلوة .... عليك أن تفبرك الطالب جيداً وتشعره بأنه جاهل وأبله حتى تتمكن من السيطرة عليه ... وهنا تقوم بحشو جمجمته تماماً مثلما تحشو المحشي أو البط بما لذ وطاب من المعلومات التي أكل منها الدهر وشرب والتي عفا عنها الزمن وأنهال عليها التراب ... دائماً ما يراودني ذلك الشعور الذي لا أستطيع منه فكاكاً ولا مهرباً عند تحضير كل درس ... ما الذي أفعله ... ما هذا الأسلوب العقيم ... إنني أكتب مالا أطبقه وأطبق مالا أكتبه فالكتب تكذب بأسلوبها وأنا أكذب بأسلوبي ولكن دعك من هذا ... ها قد وصلنا إلي قريتنا العزيزة كفر أبو زاهر ... جميلة هي هذه البلد ولكنها قاسية أيضاً .. أقولها وأنا أبتسم بمرارة لأنه في هذه اللحظة يطوف بذاكرتي المرة الأخيرة التي أوعز إلي فيها الشيطان لعنه الله أن أصور ثلاث ورقات ... فقد اضطررت إلي أن أسير مسافة ثلاثة كيلومترات حتى أصل إلي مكتب التصوير الوحيد في هذه القرية البائسة وهالني ما رأيت .. طرق معوجة ضيفة , مستنقعات من المياه تحيط بك من كل جانب وحل تغوص فيه قدميك حتى الكعبين , وأطفال عراة تهرول ضاحكة تقذف بعضها البعض بالحجارة والطين , ولكن الشيء المثير للبكاء هو أنني بعد هذه المسافة الطويلة وبعد هذا الجهاد الطويل وجدت ماكينة التصوير معطلة.

    " لا بأس لقد وصلنا " قالها لي الأستاذ سمير ... هبطنا من السيارة لنجد الطلاب تتحرك في الطريق المؤدي إلي المدرسة ... فبعضهم يتحرك في بطيء ملحوظ كما لو انه يتجه إلي جهنم والبعض الآخر ينتشر كالذباب علي أطراف الطريق يتناولون ما لذ و طاب من الحشيش والبانجو .... معذرة نسيت أن أخبركم باعتراف بسيط أحاول أن أخفيه معظم الوقت ... إنني مدرس بأحد المعاهد الأزهرية وهو معهد إعدادي ثانوي وكانت أول نصيحة ترن في أذني سمعتها من الموجه قبل دخولي إلي الفصل " أستاذ إبراهيم تأزهر قبل أن يأكلك الأزهريون " ...... وعملت بهذه النصيحة ووعيتها جيداً ....

    وصلنا إلي بوابة المعهد .. وطالعت منظر المبني القديم ... مبني من ثلاث طوابق ... متهدم به نافذتان تطلان عليك... فأحس أن شيخ عجوز يتطلع إلي بعيناه البيضاوتان من الحزن ... كان من عادتي أن ألقي السلام علي ذلك الشيخ العجوز الذي يتطلع إلي في صمت فطالما أحسست بأنه صديقي وبأنه بائس وحزين .. فقد طاله النسيان والجحود فأهملت فصوله وانهارت جدرانه وبقي له بعد كل هذا جدارين سليمين كما لو أنهما ذراعان يضرعان إلي الله يشكوان حاله وما أصابه من لطمات الزمن القاسية.... ومما يثير في نفس القارئ التناقض أني ألقي السلام علي المبني العجوز وأحاول قدر الإمكان تجاهل البواب العجوز الذي يجلس علي مقعده مرتدياً جلبابه الأبيض وهو يدندن في الصباح الباكر بأغنية نانسي عجرم المشهورة " آخصمك آه ه " كنت أكره أي عامل يعمل في الأزهر لأنني لم أجد منهم سوي الأشقياء ولن أنسي في حياتي قط هذه الحادثة المؤسفة التي حدثت معنا في أحد المعاهد عندما عرفنا عن طريق الطلاب أنفسهم أن العامل المسئول عن المعهد بعد انتهاء وقت المدرسة يصطحب النساء الخليعات إلي فصول وطرقات المعهد ليمارس الرذيلة مع غيرهم من الأشقياء في فصول المعهد التي يتدارس فيها الطلاب العلم والقرآن والحديث .. بل في مكتب شيخ المعهد ذاته ... وبعد أن انتهت هذه الفضيحة لم ينسي الشيخ المبجل الجديد أن يعيد تنظيف المكتب والمقاعد الملحقة بمكتبه بعد هذه الحادثة المؤسفة.

    دائماً أحس بأن شيئا ما في نفس ينكسر ويتهشم عندما أنظر إلي حال معاهدنا الآن .

    هذه المعاهد التي أخرجت أعظم العلماء وحافظت علي الإسلام والمسلمين ... فالأزهر قلعة الإسلام أصبح قلعة باليه لم يبق منه سوي الاسم الذي يتشح بأمجاد الماضي... أضع حقيبتي في حجرة المدرسين ثم أسرع لألحق بالطابور الصباحي.

    يقف الطلاب في الطابور الصباحي صفوفاًُ متراصة كل فصل في صفه المحدد ... تبدأ الإذاعة المعهودة التي تنتهي في خلال خمس دقائق... يتجه الطلاب في بطيء ملحوظ إلي فصولهم وظهورهم تنوء بحملها الثقيل وقد لفهم الغبار والعرق اللزج.. أحمل حقيبتي الثقيلة مثلهم من غرفة المدرسين وأصطحب عصاي الحمراء وأتجه إلي الصف الأول الإعدادي في الطابق الثاني.

    شيء جميل حقاً عندما تنظر إلي الإنسان في مراحله الغضة... في مرحلة البراءة حيث يكون الطفل نقياً من كل الشوائب التي تتراكم علي قلبه يومياً بفعل قسوة الحياة وشظفها فهم يتكلمون كما يحلوا لهم ويقولون ما يحلوا لهم وينصتون إلي معلمهم كما لو أنه حبر من الأحبار أو عالم من العلماء . فهم يتوقون إلي كل جديد ومثير... دائماً ما كنت أحب التفاعل والاندماج مع هؤلاء الصغار وأبتسم حين أري أناملهم الصغيرة وهي تحاول أن ترسم الحروف الأعجمية بعسر ومشقة ويرقص قلبي طرباً حين أري البهجة والحبور تعلو جباههم... لا يمكن لإنسان أن يصف مقدار السعادة التي تنتابني حين يبتسم أحد هؤلاء التلاميذ وهو يرنو إلي بعد انتهاء الحصة.

    يقف التلاميذ في سرعة بينما يسرع رائد الفصل إلي إزالة بقايا الطبشور من علي السبورة وفي الحال ألاحظ أحد الطلاب الجدد بداخل الفصل وفي الحال كونت عنه فكرة سريعة... كان الطالب جالساً في مكانه دون حراك كما لو أنه تمثال من الحجر فعلمت من نظرتي السريعة إلي عينيه بأنه أحد الطلاب الأكفاء الجدد في المعهد ... وكان يرتدي بنطالاً قصيراً ذو لون رمادي .. وحذاء رياضي عادي وقميص ذو لون أبيض .. كان يجلس في أحد أركان الفصل المربع الشكل الذي غطيت نافذتاه المهشمتان بقطعتان من الصاج نتج عنها إظلام الفصل وضعف الإضاءة فيه .

    كتبت الدرس كالمعتاد وأخذ الطلاب يخطون ما كتبت في كراساتهم وهنا لاحظت شيئاً غريبا ... لقد رأيت الطالب الكفيف يبتسم ابتسامة خفيفة وينظر اتجاهه .... أحسست أنه عيناه تبصران ولكن علي نحو مختلف .... لا داعي أن أذكر لكم أنه يجب علي المدرس أن يكون ممثلاً بارعاً فلحظة يكون قاسياً كالفولاذ ولحظة يكون حارقا كالنار ولحظة يكون بارداً كالثلج . ولحظة أخري يضطرب وهو يحاول إخفاء اضطرابه وتوتره خلف قناع الحكمة والمعرفة.

    وما أثار دهشتي حيال نظرات ذلك الطالب هي حدتها الشديدة التي أحس أنها تخترق قلبي كالسهم القاتل وابتسامته الساخرة التي تطاردني بلا رحمة .... خرجت من الفصل وما زالت صورة ذلك الطالب في مخيلتي تلاحقني أينما ذهبت ... وعندما جلست في حجرة المدرسين كنت بمفردي وجدت ذلك الطالب الكفيف يتلمس خطواته في ثقة ويتجه نحوي ثم يجلس في مواجهتي تماماً انتابني شعور غريب تجاه ذلك الطفل ... أحسست بالخوف منه بالرغم من منظره الذي يدعو إلي الرثاء وجهت إليه سؤال بنبرة حانية " ماذا تريد يا عزيزي ؟ " لم يرد الطفل ولكنه استمر في النظر إلي علي نحوه المعهود وما لبثت أن طفت ابتسامته الساخرة مرة أخري علي وجهه... في الحقيقة لم أطق هذه الابتسامة المقيتة .. قمت في الحال لأترك المكان ولكني وجدت يد باردة تتشبث بمعصمي بقوة غير عادية.... استدرت بسرعة فوجدت الطفل بنظرته الساخرة اللامبالية نزعت يدي من يده في شدة وأسرعت في الفرار ... نعم هذه هي الحقيقة المؤلمة.

    لقد أحسست أنني علي وشك البكاء وأخذت الدموع تتزاحم في عيني وأنا أخرج من المعهد في خطوات سريعة .لا أدري ماذا فعلت هاتان العينان المقيتتان بي ... لقد أحسست أنهما اخترقا كل أسراري .. أدق هذه الأسرار لقد أخذتا تعبثان في أدق أسراري والأشياء الخاصة بي .. عدت إلي المنزل وحالتي لا تطاق حاولت إضاعة الوقت في أي عبث أو هراء ولكن بلا فائدة ....ما زالت هاتان العينان تطاردانني في شماتة وسخرية .. ماذا تريد مني هاتان العينان القبيحتان التي زال منهما أثر الحياة... أقسم أنني واثق من أنهما تريان ما بداخل النفوس من صغائر وكبائر ... إنني أحس أنني مفضوح في وسط الناس وفي أمام نفسي ... وقفت أمام المرآة لأري وجهي الذي ارتسمت عليه إمارات العذاب والألم فإذا بصورة هاتان العينان تبرزان أمامي وتهتزان علي صفحة المرآة كأنها جان وهنا أمتلئت بالغضب والغيط فانتزعت أحد الكتب ذات الأغلفة الغليظة وهشمت بها تلك المرآة الحقيرة فتناثر الزجاج من حولي ... ابتسمت في ارتياح ثم خلدت إلي النوم ولكنني كمن استجار من الرمضاء بالنار .. رأيت نفس العينان مرة أخري ولكن بشكل أكثر وضوحاً ... ورأيت وجه الطفل ولكن لم تكن تعلوه تلك البسمة الساخرة ولكن وجهه كان مكفهراً غاضباً وسرعان ما أنشب ذلك الطفل العملاق أنيابه في رقبتي وأخذ يضغط عليها بشدة وأن أشعر بالاختناق الشديد حتى أحسست أنني لفظت روحي من فمي .

    استيقظت من النوم الساعة السابعة وأنا أحس بألم شديد في معدتي ... أحسست مع ذلك بنوع غريب من الراحة ... لقد تخلصت من شيء ما يثقل جسدي ويتنمر عليه لقد تقيأته في حلمي الغريب إنني أسير الآن في خفة وأتجه في يسر إلي حياتي الرتيبة ولكن دون ألم وشكوي .

    كلمات مفتاحية  :
    عينان قصة

    تعليقات الزوار ()