بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرا ما تواجه المرء في الحياة صعاب جمة، وعلى قدر هذه الصعاب وقسوتها تنهار قوى هذا المرء وتتلاشى، ولا شك أن صعاب الحياة الأسرية من أشد الإنهيارات فتكا وأعنفها وقعا، خصوصا على الأطفال الذين لم تزل قواهم في طور النضج والإكتمال، حتى إذا بلغ الواحد منهم سن الرشد لم يحظ بقوى كفاية حتى يواصل مراحل الرجولة، فتراه شبه إنسان منطويا على نفسه ، غير سعيد بما يقدمه ولا مبالي بما عليه...
وهكذا ينمو هذا الطفل وعلى هذه الوتيرة يترعرع، حتى إذا عزم على المضي يوما الى النجاة قيده المجتمع المنهار من كل الجوانب، ثم إن بلغ مبلغ الرجال وتجرأ على القران فإن أول ضحية من ضحياه تكون زوجته التي طالما إجتمع معها وافترق قبل الرباط بكلام معسول.
من هنا تبدأ قصة الصراع الأسري، فترى الكثير ممن يتخذون لقب المصلح الإجتماعي يداوون المسألة من فروعها، متجاهلين أن أصل الداء يكمن في جذورها، فالرجل الذي يمارس العنف على زوجته - مثلا - العنف ذاته مرض كامن في نفسه قبل زواحه، والزوجة التي لا تبالي بشؤون زوجها، إهمالها ليس وليد اللحظة، إنما هو سلوك ترسخ فيها وهي لازلت في مهدها الأول...
بهذا القدر يمكن أن نفهم كثيرا من المشاكل الأسرية، لأن الأسرة في نظري ليست مجرد حلقة ملقاة في فلاة، إنما الأسرة بمثابة خلية حية من جسد أسرة أم، إذا ما صلحت هذه الأسرة صلحت التي تليها ، وكأن العلاقة بين الأسرة والأسرة علاقة الجزء بالكل، فإذا اعتبرنا هذا الجزء حيادي مستقل فإننا نحكم على الكل الذي هو الأسرة الأم باللا وجود.
وكي نوضح المسألة أكثر الأسرة في تعريف العامة مجرد أب وصي على فرد أو مجموعة معينة من الأفراد...كل فرد من هؤلاء - بما فيهم الأب الوصي - ملزم بحق الوصاية بمجموعة من الواجبات ، كما هو متمتع بقدر من الحقوق ، فإذا ضيعت هذه الواجبات أو قلت هذه الحقوق إنقلب الوضع على الواضع، من هنا تتسرب المشاكل تترى لمجرد تبدل ميزان الأسرة، بل وتتفاقم أحيانا لتمس الإذاية كل أفراد الأسرة بمن فيهم الأطفال الذين في الغد القريب سيعقدون أسرا هم الإخرين ، فإن تبدلت عندهم أثناءها موازين الأسرة تبدلوا هم أيضا واجتاحوا على المواثيق بالأقدام.
لذا لا أكترث بالحلول السطحية في غياب تعريف صحيح للأسرة لدى أربابها أولا... وكلما شاع ذاك المفهوم البالي للأسرة في أذهان الأفراد والمجتمعات فلن يكونوا قادرين على صناعة أسرة واحدة فضلا عن تشخيص عللها وأدوائها ، فتلك الموازين الموضوعة على كاهل الأسرة يجب أن تهون في نظر الأوصياء، فالطاعة إن كانت من الحقوق المستوجبة على الزوجة فلأن أوامر الزوج وجب أن تكون معقولة، والإنفاق الذي هو من حقها على الزوج فلأن الزوج ميسور الحال وهكذا...
بيد أن الروابط التي تجمع الأسرة الواحدة - بالإضافة إلى أنها ذات أصول متصلة الحلقات بأسرة أخرى - فهي في الوقت نفسه روابط أخلاقية توصل كل فرد من أفرادها بمجموعة من العلاقات الحسنة، فالمرأة من حقها أن تخطأ لأن العلاقة التي تربطها بزوجها ليست علاقة تربص وتتبع للزلات، إنما هي علاقة تنازل أحيانا..وفي الوقت نفسه تكون علاقة تصاعد بمجرد مبالغة هذه المرأة في الخطأ. وأيضا ينطبق الأمر على الرجل في كل الحالات دون إعتبار أي فارق بين الجنسين في العلاقة الأسرية من حيث المعاملة.
ولأن من طبيعة الرجل أن يكون قواما على المرأة فإن العلاقة أحيانا بين الجنسين تتخذ شكلا من أشكال الإنفصام إن هي تشوشت مفاهيم القوامة عندهما، الأمر الذي يتعدى - بمآسيه - فضاء الأطفال ومن ثَم فضاء أسرة جديدة منبثقة من هذه الأسرة المنفصمة وهكذا...وكأن الشقاق الأسري بكل أنواعه هو نتيجة حتمية لغياب المعرفة بمجموع الروابط الأسرية = ( الحق - الواجب - المعاملة - القوامة-)
ومما لا شك فيه أن هذه الروابط الأسرية - وغيرها - تأتي سابقة على وجود الأسرة زمنيا ، فهي مجرد مبادئ أفرزها التراث الإنساني عبر مسيرته التاريخية ، فهذب [الدين] منها ما هذب وأكمل بعضها غاية الكمال، فالإنسان البدائي عاش في وسط فوضوي لا تجمعه أسرة ولا يحكمه مجتمع، بل كان طليقا من كل علاقة إنسانية شارذا في البحث عن تلك الروابط التي عساها تنظم فوضاه تلك.. إلى أن إهتدى يوما إليها بفضل العقل والدين..وعليه نشأت الأسر بعدها ومن ثَم المجتمعات الى ظهور العالم بأسره بفهوم القرية الواحدة ، إنما بتراكمات جمة لمفاهيم الروابط الأسرية والإنساية بصفة عامة، فَـ[الحق] باعتباره رابطا من الروابط الأسرية إختلف مفهومه من أمة لأخرى بل ومن مجتمع لآخر، فكان من الطبيعي عند تصاهر الأمم والمجتمعات وتداخل بعضها ببعض في زمن القرية الواحدة أن ينشأ شقاق أسري، فبمجرد ترابط المرأة الغربية - مثلا - بالرجل الشرقي يحصل اللاتفاهم على مستوى الرابط الأسري - الحق مثلا - لإختلاف مراجع هذه الروابط وتنوعها.
من هنا تتأكد أهمية نظرية الكفاءة بين الزوجين على مستوى الدين، لأن الإسلام - مثلا - جاء مكملا للروابط الأسرية في باقة من الأحكام الشرعية، وبالإلتزام بها تتحقق إستمرارية الأسر لا محالة، لأن [الحق] - مثلا- في الإسلام بين الزوجين مدون معروف كما أنه جاد في نماء هذه الأسرة وهادف إلى صلاحها، وقد شهدت على ذلك بيوتات المسلمين في العصر النبوي بما كانت تنعم به من حياة تغمرها السعادة المطلقة..
من أجل ذلك يكون التطلع إلى الحلول المستوردة قصد بناء الأسرة الواحدة فعلا لا يخلو من زلل في القريب العاجل ، كما أن الرضا بتحكم الهوى في الروابط الأسرية من شأنه أن يكون سببا كافيا في إنشقاق الأسرة وترديها ولو لم يكن لدى أفراد هذه الأسرة إستعداد بضوابط الدين في هذا المجال ، لأن وحدة المرجعية في تلقي الأحكام الأسرية ضرورة ، أما الأنفس فمن طبعها التبدل والتغير من فرد لآخر ، بل نجد الفرد الواحد تتنازعه أهواء متناقضة في الوقت الواحد فكيف تكون نفسه هذه مرجعا للروابط الأسرية ؟
أما الأحكام الوضعية التي جاءت مسطرة لقانون الروابط الأسرية وإن بدت في الوهلة الأولى وكأنها هي أيضا مرجعية متوحدة لكن في الحقيقة يغلب عليها التراث الإنساني القابل للمِزاجية مما يعسر عليها تطبيق مبدئ الرابط الثابت كـ[القوامة] التي لا زال الغرب يُنظر لأجل تبديلها بحجة المساواة وعبثا حاول ، لأن هذا الرابط الذي يجمع الأسرة الواحدة هو رابط فطري غير قابل للإكتساب، والمرأة نفسها ترى القوامة في الرجل من أهم الروابط التي تجمعها بالرجل، وبمجرد إتصافها بهذه الصفة - القوامة - فإنها أرادت من ذلك وضع إستبدال الطرف الآخر الذي هو الرجل، ولا عجب أن تتصف بذلك المرأة الغربية لكثرت [المخانيث] في المجتمع الغربي، كما أن إتصاف هذه المرأة بالقوامة جاء في المجتمع الغربي كحتمية للبرود والشذوذ الجنسين الذي خيّم على الرجل في تلك الأوطان..فكان من الطبيعي أن تستبدل المرأة بالرجل.