بتـــــاريخ : 10/16/2008 12:53:05 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1134 0


    شغاف النخل

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جـبـير المليـحان | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة شغاف النخل

    - ما هذا النخل ؟

     

    أمسكت بيده الغضة ، و نهضت :

     

    - هيا لأريك شيئاً عنه !

     

    قدته إلى مزرعة جده ؛ دخلنا من البوابة الطينية الواسعة ، و المفتوحة أبداً كما لو أنها أدخلت الماضي كله من جوفها ؛ توقف الابن أمام الباب الضخم مندهشاً ؛ سحبت يده ؛ ودخلنا إلى حيث النخيل .. مشينا حتى صار فوقنا سماء من السعف .. ظلال وارفة ، تتخللها لمعات وامضة من ضوء الشمس ؛ بدت جذوع النخل صفوفاً منتظمة باتساق جميل : المسافات بينها متساوية تشكل خطوطاً مستقيمة من أي جهة نظرت ، في الوسط بدا متكأ لامع ؛ مشينا نحوه : إنه مستطيل من أحجار صفت بعناية فائقة ، و ثبتت بالجص ، و في الوسط ، استلقى جذع نخلة قديم ، قطع من فوق منبت النخلة تماماً .. بدت بقايا الجذور كدائرة صغيرة أكلتها النار ، و قد لف رأس الجذع ببقايا شماغ اهترأ جسده و اضمحلت ألوانه . سأل الغر :

     

    - ما هذا يا أبي ؟!

     

    - قبر نخلة !

     

    طارت من عينيه ـ الصافيتين دون قلق ـ دهشت طرية ؛ قال :

     

    - و هل تقبرون النخل هنا ؟!!

     

    - إنه جدك من فعل ذلك .. لكن دعني أريك شيئاً آخر ثم نعود إلى هذا القبر !

     

    مشيت به ؛ و أريته صفوف النخيل الطويلة ؛ رفع رأسه إلى السماء ، فهفهف خوص السعف اليابس متحركاً كالمراوح ـ من الواضح أن الكثير من النخيل فقدت خوصها الأخضر كما لو هاجرت المياه من تحتها إلى أعماق سحيقة .. قلت له :

     

    - هل تلاحظ شيئاً في هذه الجذوع ؟!

     

    - لا .

     

    - انظر إلى هذا الجذع : إنه غليظ في البداية .. و هاهو يدق هنا حتى يصبح ناحلاً كخصر فتاة !!

     

    طرب الشاب لذلك و اقترب مني بعينين باسمتين ـ و بعد تأمل قال :

     

    - ولكن لهذه النخلة أكثر من خصر .. و الأخرى ، و الأخرى : إنهن نواحل هنا ، و هنا ، و هنا …

     

    و أخذ يشير باصبعه إلى حيث تضمر الجذوع ، ثم تغلظ ، ثم تضمر بعد مسافة أخرى !

     

    - ذلك ما قصدته ؛ إن النخيل تؤرخ لحياتها ، و حياة من معها من البشر .. هذا هو تاريخ هذه البلدة .. أنت ترى أن هذه نخيل طويلة ، و معمرة ، و هذه الخصور هي تاريخ أزمنة القحط حيث مرت النخلة بفترة عطش و جفاف !

     

    قال مستغرباً :

     

    - و كأنني أقرأ في كتاب ؟!

     

    - نعم . فالخصر الأول كان لبداية حقبة من السنين العجاف .. في تلك السنة هاجرت مياه الأرض إلى أماكن بعيدة ، و طارت الغيوم من السماء ، و غطتها طيور سود ، لم تكن معروفة في البلد ، و لا ندري من أين جاءت ، وكثر ذهاب الناس إلى المقابر لدفن الموتى ، و إلى المساجد لطلب الرحمة و الرجاء .. كانت النخيل هي من صمد : لقد شحت على جسدها بالقليل مما تجده من ماء ، و أعطته ثماراً للناس ، و بعد أن مرت الحقبة ، و جاء ما السماء عادت لتبني جذعها مستطيلة إلى السماء ، تاركة خصراً كالكي ، يشهد على السنين السوداء .

     

    وقف الابن طويلاً .. طويلاً ممسكاً برأسه ؛ كما لو وضع في طائرة لأول مرة .. التفت بعد مدة طويلة نحو النخل ، و أخذ يعد الخصور الضامرة : واحد ، اثنان .. وصلت إليه و هو يسجل في ذهنه الرقم السابع .. أمسكت بيده القاسية ، بدت كما لو كانت يد فلاح عاش في قسوة الأرض عشرات السنين .. كانت عيناه قد تهدلتا بفعل الزمن ، أما وجهه فكما لو كان وجه جده الفلاح .. حك رأسه الخالي إلا من شعيرات بيضاء ، و مشى بي ، واهنا ، إلى حيث قبر النخلة . قال لي ، أو قلت له :

     

    في سنة كلها ليل : سماؤها تسطع في الظهر ، و أرضها تتطاير منها الرمال ، جلس الناس ينتظرون القطر و قد تأخر .. ماتت الضروع ، و لم يكن غير القليل مما يسد الرمق مما تجود به النخيل ، جدك كان يدور مع الفجر بين صفوف النخيل هذه ، دون أن يجد ماء ليسقيها ، كان يمشي بين الصفوف الطويلة ساهماً ، محدثا النخل ، شاكياً إليها :

     

    - الفرج قريب .. الخير قادم .. الغد يحمل البشرى ..

     

    كانت يده الخشنة تمسك جذع النخلة كما لو كان صديقه ، و كانت عيناه العميقتان تنظران إليها كما لو كانت بشراً .. و عندما يعجزه الكلام كان يفر إلى مكان قصي مخفياً دموعه القليلة عن نخيله .. و في الليل يظل يحدق في سعفها المتمايل و يقول لزوجته :

     

    - انظري إنها تدعو الله أن يجلب لنا الخير .. إنها مثلنا نحن البشر !

     

    - لكن البشر هم سبب البلاء .. لقد عم الطمع ، وكثر الظلم بين الناس ..

     

    - ادعي ربك يا امرأة !

     

    و يظل يحدثها من بعيد حتى تغيب عيناه في نوم قليل .

     

    - و ماذا بعد يا أبي ؟

     

    - طال انتظار الناس كما لو كانت الشهور دهوراً ، و فتك الجوع بالسكان ، و ازداد الذهاب إلى المقابر .. و كان أولاد جدك يتضورون .. في البداية تحاشى سماع شكاواهم ، وأخذ يختصر الحديث مع زوجته أثناء اجتماعهم .. حتى وقعت الواقعة ، في تلك الليلة السوداء .. حيث اقتربت منه زوجته ، و هو جالس فوق فراشه ، و سمعت صوته الهامس ؛ فقالت في نفسها : ربما يناجي ربه ، أو يحدث نخله ، لكن لابد من أن أحدثه .

     

    - مؤونتنا نفدت ، و نفد ما عند الجيران ، والموت يدخل من بابنا !

     

    - الشكوى لله .

     

    - لابد أن نأكل أحد النخل !

     

    قذف بصرخة داوية كما لو كانت قذيفة مدفع ، و هم بصفعها :

     

    - أتريدين أن أذبح واحداً من أولادي ؟!

     

    - أو تريد أن أطبخ لأولادك النوى ؟!

     

    كان قلب المرأة خافقاً ، و انطلق هو إلى حيث النخيل .. تجنب الحضور إلى داره ليلاً أو نهاراً ، و كان ينادي من بعيد على أحد أولاده ليجلب له الماء ، و ما تيسر .. ظلت زوجته تراقبه من بعيد متدبرة أمر أولادها مع جاراتها . في الليل كان يجلس تحت جذع ( أم اليتامى ) ، و يظل في حديث هامس ، و هسهسة بكاء حتى يصلي في حوضها اليابس ، ثم يأخذه النوم .. مرات كثيرة كان يقوم و يمد يداه نحو النخلة و ينخرط في حديث طويل معها .. يناجيها ، و يلقي عليها قصائده كما لو كان عاشقاً ، ثم يحتضن النخلة ممتلئاً بالبكاء .. بعد ثلاثة أيام من السكن مع النخلة ، جمع أسرته ، و طلب منهم الصلاة في جذع النخلة ، ثم أقام دعاء طويلاً ضمنه اعتذاره لنخلته ، متحاشياً النظر إلى النخيل الأخرى .. كانت فأسه بجانبه ، أخذها ، و تساقطت من عينيه الدموع و هو يهوي على جذع النخلة كما لو كان يجتث قلبه .. قطعت النخلة ، و تكفل أولاده بتجريدها من سعفها و كربها و خلبها ، حتى بدا غلاف قلبها يلمع مع خيوط الشمس .. أمسك بيد زوجته ، و أوصاها أن توزع جمار النخلة على المحتاجين .. فكان أن قالت له أن الناس كلهم جياع ، فوبخها بعينيه ، أخذ أولاده الكبار و أحضروا الأحجار و صفوها بعناية فائقة على شكل مستطيل يحيط بالجذع ؛ ثبت الأحجار بالجص ، ثم غسل يديه ، و ذهب إلى داره ممسكاً بشماغه الجديد الذي يلبسه في أيام الجمع و الأعياد .. لفه حول عنق النخلة المقطوع ، و أهال بعض التراب على بقايا الجذور ، فبدت كما لو كانت دائرة صغيرة أكلتها النار ، انتحى جانباً و صلى مع أولاده صلاة الضحى .. ثم قال لأولاده :

     

    - هذه الأم ، و هذا قبرها ، أوصيكم بالحفاظ عليه .

     

    ثم انتبذ نفسه إلى مكان قصي ، حيث لا تسمع الريح عويله .

     

    تلفت ابني الهرم إلى كل الجهات منصتاً إلى عويل الأيام الممتد عبر حقب تتلاحق كما لو أن الماضي يتكرر في أزمنة مختلفة ، و قادني إلى البوابة الطينية الواسعة ، المفتوحة أبداً

     

     

     

     

    كما لو أن الزمن تجمع من أزمنة مختلفة ، و إذا بابني الطفل ، الفارع ، يجلس أمامي ، و يشير بيده :

     

     

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة شغاف النخل

    تعليقات الزوار ()