بتـــــاريخ : 10/15/2008 11:58:47 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1110 0


    النخيل التي ليست في الواحات و الحدائق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جـبـير المليـحان | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :

     1 -

    اليوم : قصير ، كحبة رمل . و هو : حلم أبيض ، و كوابيس .

    الحلم :

    سرت جوف تعرجات الشارع الصغير في القرية : وسط خلود الأبواب الخشبية المصبوغة بالأشواك و الحلقات و الأتربة و الغبار و الأطفال و الطنين و البهائم و العجائز ، و أوراق الأشجار . الشمس تفضح الهواء ، فيتساقط الرمل في العيون و الأفواه ، و يتعالى ضجيج الغبار . يفتح فمه شيخ ، فيتراكض الدجاج متعثراً بأرجل الأولاد ، و تختفي حشرات في شقوق جدران قديمة . اسمع المؤذن ، فيدب مسنون يتحسسون جذوع الجدران ، و يختفون بهدوء كالظل . و تتمايل أشجار طويلة ، و تبرق قمم النخيل الطويلة في وهج الشمس ، ارفع عيني إلى فرع النخلة : فتتساقط الشمس و العسب كأذرع الفقراء . أتسلق النخلة ، فيتراكض الأولاد و يتحلقون حول الجذع . أرين وسط الشوك و الخوص اليابس ، و أبحث في الأرجاء ، و أعصر الشوك و العذوق و الخوص ، ثم أرين في قلب النخلة .

    تشرع أيدي الأطفال تمتد : تخرج يد كل طفل من فمه ، و تمتد ، و تطول ، و تطول ، تبحث في الأرجاء ، تعصر الشوك و العذوق والخوص ، تتلاقى الأيدي متحلقة حول قلب النخلة : تتحسسه ، و أتحسس قلبي ، و يد كل طفل على قلبه ، ثم تغوص الأيدي الأخرى في قلب النخلة : يجأر مسن ، و يفرك عينيه الداكنتين ، و يتحسس عصاه ، و يتكوم في الظل ، و تتهاطل شظايا من الماء من أوراق النخلة ، تسقط فوق الأطفال ، ممتزجة بشعورهم و عيونهم و ترابهم و أفواههم و لعابهم ، و أيديهم ، و تسيل فوق صدورهم ، تصل إلى أقدامهم ، و تختلط بالأشواك و الغبار و الروث و الأوراق اليابسة ، و ضياء الشمس .

    و أيدي الأطفال تنتقل إلى النخلة المجاورة : تتشقق التربة من تحت أقدامهم عن فسائل صغيرة ، كعددهم : تتحلق ، و لها ظلال ؛ و مسن يتحسس عصاه في الظل ، يتثاءب و يحمد الله ، ثم يغفو . أرفع عيني إلى النخيل ، و أملأ جيوبي بالبلح الأحمر و الأصفر ، ثم استمع إلى صوت غناء .

    الكوابيس :

    في الشارع الصغير ، و الأبواب الخشبية المصبوغة : المتلاصقة ، و الباهتة ، كجلسة المسنين في شمس الشتاء و الريح ؛ طرقت باب صديقي ، و انطلقنا ـ كثيرين ـ من الأزقة و الأتربة و الغبار والشقوق ، إلى ملعب القرية : قال واحد :

    - مدرستنا رديئة ، الأطفال لا يعرفون شيئاً .

    فرد آخر :

    - لقد صليت العصر في المسجد ، و سمعت الإمام يقول : سيصلنا بالمدينة خط إسفلت .

    فصرخ آخر :

    - أوه .. نخيل .. إسفلت .. هيا إلى النادي فموعد المباراة قد جاء .

    فتعالت الصيحات : و امتزجت برؤوسنا و عيوننا و أيدينا ، و سالت فوق صدورنا إلى أقدامنا ، و اختلطت بالتراب و الغبار و الأرجل ، و ضياء الشمس .

    و فيما أرجلنا تركض إلى النادي المجاور : تشققت التربة من تحت أقدامنا عن : أعشاب قميئة كالقنافذ ، ثم أخذت تتزاحف إلى الجدران و الأزقة و النخيل و الآبار ، و أنا أملأ جيوبي من بلح الأحزان ، و نخيل تتراكض متعثرة بالعشب ، و تختفي في الأزقة و الأتربة و شقوق الجدران .

     

     

    - 2 -

    الليل : ليس طويلاً كالطرق ، و هو حلم أبيض ، و كوابيس .

    الحلم و الكوابيس :

    (الرياض) غيمة ضوء كالشراشف ، و الليل ناصع كالموتى ، و أنا أركض في شارع فسيح ؛ أتوقف عند عصارة ، و أجد صديقاً لي :

    - عصير ؟

    - شكراً شربت كأسين من الأحزان الآن .

    - أجنبي ؟

    - وطني .. ذلك النوع الأسود .

    - هل أكلت ( سندويشا) من الحزن المجمد ؟

    و قال لي : لقد تعفنت أحزاني ، فأنا أرص أحزاني كل ليلة ، و أنا عائد إلى النوم ، لقد امتلأت غرفتي : كومتها مع الملابس ، و ملأت الأحذية ، و الحمام ، و فراشي ، ضحك ثم قال : في الصباح استيقظ و هي تتعلق بشعري كالدبابيس ، أجدها في عيوني ، و في ملابسي ، و تحت أظافري ، و فوق جلدي ؛ و عندما أخرج فإنني أداري أن يروها فيؤذونني ، و قد حلقت شعري حتى لا تتعلق به ، و كم ازدردت منها الكثير ، و قال مدرس لي في الجامعة : ما هذه البقع فوق دفاترك ؟ فقلت : المنزل و القطط و الفئران .. يا أستاذ ، و لم يكد يرى ما في عيني من البقع الكثيرة ، أو البقع الكثيرة في عيونه ، و عيون الطلاب و دفاترهم و أقلامهم و أفواههم ، لم يكونوا يرونها ، بقع في الأبواب والشبابيك و الممرات و الحديقة و فوق كرسي الحارس و المطعم و مكتبة الجامعة و الرصيف . و زها طالب بالنظافة و الماء و الصابون ، فقال المدرس : النظافة من الإيمان : و تلاصقت كلماته كالصابون و هو يقول : سأوصي بترشيح زميلكم هذا كطالب مثالي في النظافة في لوحة الشرف ، و قال : إن النظافة مطلب حضاري لنا ، و عليكم أن تهتموا بهندامكم و مظهركم ، فالمياه مجانية ، و وزارة التجارة حافظت منذ سنوات على استقرار أسعار الصابون ، و المغاسل و الغسالات و الغسالون أكثر حتى من الشوارع و السيارات ، فواجب المواطن أن يتعاون مع البلدية لإظهار مدينته بالمظهر اللائق أمام الأجانب و الزوار .

    و طلبت ( سندويشاً ) فلفه البائع في ورق رهيف أبيض ، و دسه في كيس كالإصبع ، و لم ينظر إليّ و هو يمد الكيس ، و يده كالمخلب ، تمتشق ما في يدي ، و صرخات الإسفلت تتعالى كالسيارات ، و نحن ننحدر في شارع ضيق يزدحم بالظلمة و البراميل و الكراتين و أكوام الرمل و القطط و المياه ، إلى شارع فسيح له أضواء و أرصفة كالنمل ، يتكدس فيها رجال يتراصون ، يعرضون أحزانهم على هيئة : أقفال و مفاتيح سيارات و مسامير ، و جبب عسكرية قديمة و أحذية و جوارب صغيرة بائسة ، و مساويك ، و زجاجات عطور صغيرة في صناديق بنية ، و مسجلات ، و ساعات جديدة و مستعملة ، و طوابع ، و خواتم و مسابح و خرز ، و أقلام جافة … فقال رجل له لحية بيضاء طويلة ، و وجهه داكن كالتربة ، و طويل كلحيته :

    - نستفتح بكم .. هه.. الواحد بريال ونصف .

    ضحكنا معه ، و سألناه ، فأخذ يرفع رأسه ، و هو يقول :

    - أعمل في الوزارة .. في مكتب المدير ، المدير لا يشرب إلا القهوة التي أعملها . مرضت يوماً ، و غبت عن العمل ، فغضب المدير .. أتدري أنني لم أتقهو أمس ؟ نعم . ضحك من قلبه و لحيته ، و قال :

    - نعم .. هذا ولدي يدرس في الصباح .. و يساعدني في المساء .

    أخذنا منه دفتري مذكرات صغيرين كالأظافر ، و مضينا نتخلل الرصيف و الأكوام إلى باحة يتكدس فيها يمانيون و باكستان و غرباء و مطاعم و مقاه و ضجيج . سيارات صغيرة تقف ، يجلس أصحابها فيها ، لا ينزلون ، فيتراكض الواقفون و يغطون السيارة من كل الجهات ، و الكل يصرخ بأعلى صوته و يديه و أكتافه : (( أنا يا عمي ، أنا )) ، يختار صاحب السيارة واحداً أو اثنين ، أو لا يختار ثم يقفل زجاج سيارته ، تنفض السيارة الأكوام التي تغطيها ، و تغادر كالغبار .. فيتماوج الرجال بأيديهم و عيونهم ، أو ضحكات صغيرة يطلقونها ، أو يضرب بعضهم كتف الآخر ، أو يتشاتمون ، و يتبادلون سجائر (( الروثمن )) ، أو يضعون أيديهم في جيوبهم ، أو يقفون ، أو يجلسون تحت الأضواء .. تتهاطل شظايا من الضوء و الغبار فوق رؤوسهم ، و تتخلل شعورهم و عيونهم و أيديهم الغليظة و أفواههم و تختلط بعرقهم ، فيسيل فوق الصدور والأرجل ، و يتجمع بقعاً كبيرة تسيل من الأرصفة ، و تنحدر فوق الإسفلت ، و تختلط بعجلات السيارات ، و تنساب إلى مجرى منخفض مشكلة بركة كبيرة : خضراء داكنة ممتلئة بالكراتين و الأشياء ، فتأتي سيارة سوداء كبيرة تحمل برميلاً ضخماً كالقفص و في مؤخرته ( ماطور) صغير ينزل رجل لا شعر في وجهه المربع ، و عيناه الضيقتان الممطوطتان ، يدلي بخرطوم السيارة في البركة ، و يدير الماطور ، يمتلئ برميل السيارة الضخم ، و هي تذهب تقف مكانها سيارة ضخمة لها صندوق فمه الواسع من الخلف ، و به لسان كآنية ضخمة ، يقذف رجال بالأشياء و الكراتين فوقه فيخفيها ، و تغادر السيارة .. بعد قليل تقبل سيارة صغيرة ينطلق من صندوقها عمود من الغيوم الكثيفة البيضاء على الناس و الدكاكين و البرك و المستنقعات ، و لا تتوقف في سيرها المتمهل حتى تختفي .

    قال صديقي :

    - إلى أين نذهب ؟

    - هل تريد أن تنام ؟

    - لا .

    - إننا نمشي في هذه الشوارع الفسيحة .

    و كنا قد مشينا هذه الشوارع مئات المرات ، و المحلات تقفل أبوابها ، أو تفتحها ، و الأضواء تتلألأ كالسيارات و الزجاج و الكاميرات .. و المياه تنحدر من الأرصفة و تسيل مع الإسفلت و العجلات ، و تذهب إلى الحفر ، و تتجمع حيث تحملها السيارات خارج المدينة . طرقنا باب صديق لنا ، فقال الباب ، أو شيء خلفه : لا أدري أين هو .. فيما أرجلنا تخوض في ماء يتسلل من تحت الباب ، و يتجه إلى حيث تتعانق مياه أخرى تتسلل من تحت الأبواب ، و تتجمع في برك صغيرة في الشارع الضيق المملوء بالغبار و براميل القمامة .. و أغصان البرسيم المتناثرة .. و الأعقاب الطافية . الأبواب تحدودب ، أو تخفي شيئاً ما عن أنوار صغيرة صفراء و باهتة معلقة في الزوايا الطينية .. فقلنا لعل صديقنا قد سال مع هذه المياه . فزعنا و نحن نشاهد السيارة القفصية البرميلة الكبيرة ، تقف في منعطف الشارع ، تحت ضوء أبيض كبير ، حيث تتجمع المياه ، و تغمس خرطومها فيها ، اتجهنا إليها لنغرف صديقنا من المياه قبل أن تشربه السيارة .. امتصت السيارة المياه ، و طوت خرطومها ، وغادرت قبل أن نصل ، ركضنا خلفها ، و لمحنا رؤوساً كثيرة ، و عيوناً ، و أيدٍ ، تطل من فتحة برميلها القفصي ، و كأنها تبكي .. و كأنها تشبه أصدقاء كثيرين ، كالأبواب الصغيرة ، و أطفال الحارات الطينية ، و الطلاب .. ابتعدت السيارة ، و فم خرطومها ينفتح نحونا ككهف ، توقفنا ، ثم استدرنا نخوض في الحارة .. سمعنا دوياً حيث ذهبت السيارة ، و بدا أنه قد أخذت ترتفع أضواء كثيرة ، و سحب تنطلق ، كثيفة نحونا تقترب ، و تدخل من نوافذ البيوت و شقوقها ، و أبوابها ، و تفوح روائحها التي تشبه الخبز و الشواء .. الضوء يغمرنا ، و يغمر البيوت المتراصة .. تنفتح الأبواب و سيول من الماء والعرق و الأيدي و الأرجل و العيون المتربة الصغيرة : بنات و بنين ؛ رجال يشدون محازمهم ، و أيديهم تخرج من الجدران ، و تتهاطل من السحب و الضوء ، تتجه السيول إلى الشارع الفسح ، تغمر السيارات و العمائر والبنوك و الشركات ، يفزع أناس ، و تتمايل عمائر ضخمة ، و تنطفئ أنوار ، و تشتعل أشياء ، و زجاج يتهشم ، أقول لصديقي ، و نحن نتدفق مع السيل ، مسرعين إلى الشارع الفسيح :

    - لنتقدم ..بسرعة .

    يتضاحك كالسيل ، و هو يقول لي :

    - لنذهب في هذه الناحية .. ستغمر السيول غرفتي ، و ستكون نظيفة .. سنمر بها ، ثم ننطلق إلى الجامعة .

     

     

    - 3 -

    اليـوم :

    رحب ، و مسافر ، كالأفق والأحلام ،

    و الليل : مشع ، كالألوان ، و العيون ، و الأحزان ،

    رفعت عينيّ إلى نخيل الحارات ، و ملأت جيوبي بالأمطار والصحراء ، و انطلقت : أغني كالأعشاب

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()