- إنها كارثة !
قالت السيدة غوخ جارتنا لزوجتي . بعد أن غرقت المدينة كلها في ظلام مُطبق . و قد أطلت هذه برأسها من نافذة المطبخ المجاور لمطبخنا . ابتسمت زوجتي نصف ابتسامة و قالت لها :
- في بلادنا ، تنقطع الكهرباء بشكل دائم .
فردت المرأة الأربعينية :
- أنتم معتادون على هذا الأمر إذاً، و قد غدا بمثابة الروتين عندكم، أما هنا، فإن هذا الأمر لم يحصل منذ أكثر من عشرين عاماً، إنها كارثة فعلية، لا نعرف ماذا نفعل إذا ما استمر إنقطاعها لوقت أطول!
في الواقع زوجتي معتادة على أمر تقنين الكهرباء من بعض زياراتها الى لبنان . أنرنا بعض الشموع ، التي كنا نشعلها في علبة نحاسية مثقوبة ، نضع إبريق الشاي عليها ، لكي يظل ساخناً . فبدا بيتنا من الداخل كأنه معبد قديم . كان الهدوء الغريب الذي ساد لحظة إنقطاع الكهرباء، قد أسرنا جميعاً. هشام أخ زوجتي، الذي كان في زيارتنا، بدا عليه الإرتباك الواضح. فهو لم يعتد أيضاً على أمر إنقطاع الكهرباء هنا، و إن كان قد عايش بعض الحالات المشابهة في لبنان، لكنه كان صغيراً جداً عندما هاجر أهله الى هذه البلاد .
عدت الى المكان الذي كنت أجلس فيه على الصوفة، حيث كنت أشرب فنجان القهوة لحظة إنقطاع الكهرباء. هذا فيما تأهب هشام يريد الذهاب، و راح يحثنا أيضاً على الذهاب معه الى بيته، على إعتبار أن بيته آمن أكثر من بيتنا، بسب وجود النوافذ الزجاجية الكثيرة عندنا.
- و لكن بيتكم يا هشام تحيط به الأشجار من كل جانب ، و منطقتكم كذلك أعلى من منطقتنا ، فنحن هنا في وسط المدينة .
- لا ، بيتنا آمن أكثر ، فنحن نسكن على الطابق الأرضي و بناءنا حديث و ليس لدينا نوافذ كهذه التي عندكم ، ثم أن الكهرباء لا تنقطع عندنا ، يبدو العطل عندكم هنا فقط في هذا الحي !
قال هذا جاداً، و بإصرار . نظرت من النافذة ، فإذا بالعتمة تلف المدينة من كل جانب:
- إنها مقطوعة "عمومي".
قلت له مستخدماً مصطلحاً لبنانياً عريقاً و متداولاً بإمتياز . لكن زوجتي بدت كذلك متحمسة لرأي أخيها ، خاصة لمسألة الزجاج الكثير ، و خشيةً على الولدين .
رحت أشرب القهوة بإستمتاع غريب و نادر ، فيما أصطف هشام و زوجتي على نافذة المطبخ مجدداً، يراقبان حركة السيارات القليلة. وقد ساد المدينة صمت رهيب، لا تعكره بين الفينة و الأخرى، غير صفرات رياح قادمة من بعيد. كانت العاصفة لم تصل الينا بعد، و قد حذروا أنها قد تصلنا حوالي العاشرة أو الحادية عشرة. قلت ثمة متسع من عطاء الصمت و الهدوء. هذا الذي لم أعهده في هذه البلاد منذ أن وطأت قدماي أرضها. كأننا كنا نعيش في معمل نسيج لا تنفك آلته تهدر و تعمل ليل نهار، حتى غدونا مدمنين عليها، فإذا ما توقفت هكذا فجأة بفعل إنقطاع النور، شعرنا بوحشة القبور و هدأة العالم و إنفراج العدم. حتى القطار الذي كان يصفر بإستمرار مرتب و دقيق قربنا صمت كذلك، كل شيء توقف ، كأننا آلة كهربائية، انقطع تيار الحياة عنها.
عاد هشام و هو يحمل هاتفه المحمول ، و بدت علامات الأسى مرسومة على وجهه:
- أنه لا يعمل ، كل شيء توقف !
قال بحيرة ، و همّ الى هاتف البيت يرفعه .
- إنه أيضاً لا يعمل ، و الإنترنت كذلك .
نظر اليّ و قد أحس بتحرشي المقصود . و قال بتململ :
- ما افضى بالك! أنا سأذهب ، قبل أن تسوء ألأمور أكثر ، ألن تأتوا !
- انتظر قليلاً ريثما تعود الكهرباء، و نطمئن على أهلك و عائلتك هناك ، فلربما يكونون هم من يريدون أن يأتوا الى هنا، من يعرف، إجلس، و اهدأ فالهدوء مفتاح الفرج!
جلس على مضض ، فسألته :
- ماذا لو طال أمد إنقطاع الكهرباء ، ماذ سيحدث ؟
- لا ، لا أعتقد ذلك أبداً، هذا غير معقول، هذه المانيا و ليست لبنان، فلديهم مئات المحطات، ثم أنّ الدنيا سوف تخرب، لا، غير معقول!
- أعرف أنها ستخرب، فهذه جارتنا بدأت بالنواح منذ الدقيقة الأولى، فغياب الكهرباء يعني توقف كل شيء هنا ، المياه الساخنة و الهواتف و البرادات و التليفونات و ..
لم أكمل الليسته، و أنا كنت أميل الى المزاح، لكنني رحت أتخيل المشهد، فيما وقفت و ذهبت بدوري الى نافذة المطبخ أنظر الى الشارع، و الى إشارات المرور تحديداً، كانت منطفئة و بدت أضواء السيارات المارة، كمصابيح قافلة تسير في طريق في غابة دامسة. مساكين كيف تراهم يسيرون بلا إشارات المرور الراسخة في الثبات هنا كأشجار ميلاد دائمة في هذه البلاد! تساءلت في نفسي .
بدا أن هذه الحضارة مترابطة الى حد بعيد كحلقات سلسلة، الكهرباء فيها روح معدنها المادي. سيستام من العلاقات المتشابكة، فإذا ما طرأ عطل على عضو ما، أصاب الخلل الكل. عدت الى غرفة الجلوس ، و كانت زوجتي تهيأ الولدين، كانت أضواء الشموع تتلألأ. و الشجرة اليتيمة التي ترابض في الحديقة الصغيرة قبالة بيتنا كانت تتمايل بدورها . تذكرت بيروت و حارتنا فيها و كيس الشمع الأبيض من عند أبي حسان ، في أسفل مبنانا . و أصوات مولدات الكهرباء التي تندلع لحظة غياب التيار . كنت في كل هذا لا أزال أمسك بفنجان القهوة، ربما حسبته قد يكون الأخير، إذ أنني لا أعرف شيئاً عن إنقطاع الكهرباء هنا، و قلت طالما أنها لم تنقطع منذ أكثر من عشرين عاماً، فهذا يعني أن حدثاً جللاً قد حصل، و أن هذه العاصفة قد تكون قد أتت على معمل الكهرباء، أو على المحطات الكثيرة التي زعم وجودها !
بعد أربع و ثلاثين دقيقة بالتمام و الكمال عادت الكهرباء ، هذا وفق حسابات هشام ، الذي نظر في ساعته لحظة إنقطاعها ، و كذلك فعل غداة عودتها. أدرنا التلفاز، خبر العاصفة " كيريل " يطغى على كل خبر ، قتلى و جرحى في المانيا و أوروبا ، عشرات الألآف محاصرون في محطات القطارات ، الأشجار المتساقطة تقتل بعض المارة و تهدم بيوت و تسد طرقات .. سرعة الرياح قد تصل الى 160 كمس في مدينة كذا .. و الى أكثر من ذلك في مدينة أخرى .. و الشرطة تحذر السكان من الخروج من منازلهم إلاّ في حالات الضرورة .. وأن خبراء الأرصاد الجوية أطلقوا على هذه العاصفة إسم "كيريل" و ذلك من سلسلة من أسماء مُعدة سلفاً لديهم و جاهزة لعواصف و أعاصير أخرى يُتوقع قدومها لا محالة ..
" تراها ابنة عائلة و من سلالة عريقة إذاً ! .." قلت في نفسي .
بدأ بالي ينشغل فعلاً هذه المرة و خصوصاً على الولدين ، من موضوع الزجاج تحديداً. بعد أن كنت لا أعطي الموضوع أهمية كأنني غير مصدق، فالطقس عادي جداً عندنا كما أنني لم أسمع شيئاً عن مسألة العاصفة من قبل على الأخبار، و لولا أن أختي هاتفتني تطمئن ، لما عرفت، قبل أن أصل الى البيت. لكن الآن بدأ الوضع يصبح جدياً و داهماً .. و لكني بعد أن تفكرت في الأمر ، أننا نهرب من الرياح ، وجدت الأمر سريالياً بعض الشيء و مُضحكاً ، فكيف نهرب من الرياح ، و الى أين ؟ و الكلام يدور عن عاصفة تجتاح قارة .. فعدت الى هدوءي القديم ..و قد روادني شعور قوي، أن شيئاً غريباً، لن يحصل في منطقتنا هنا. و قلت لزوجتي و هشام :
- لا ، لن نذهب الى أي مكان فكل الأماكن سيان أمام الريح، كما أن الخطر أثناء التنقل من الأشجار أكبر من البقاء في البيت، و نحن هنا في وسط المدينة .
قُرع جرس بيتنا، و كان هشام مشغولاً على الهاتف، يطمئن و يسأل .. فتحنا الباب، فإذا ياسمين و أختها الصغرى ( إبنتا أخت زوجتي )، شاحبتين مخطوفتي اللون، تدخلان. و بعد الإستفسار، تبيّن أنهما كانتا في الشارع أمام مبنانا ، طيلة فترة إنقطاع الكهرباء، تحت المطر و الليل، فالجرس توقف عن العمل بدوره مع إنقطاع الكهرباء .. وقد كانتا في القطار المعلق عائدتين الى بيتهما، و عند إنقطاع الكهرباء ، مشتا الى بيتنا لقربه من المحطة التي نزلتا فيها، و قد كانت الصدفة في صفهما إذ لم يكونا في المقطورة التي توقفت معلقة بين محطتين فوق النهر .
غضب الطبيعة هذا، إو إنذارها المخفّف بعد و الذي بدا أنه موّجه تحديداً الى ( المانيا و إنكلترا و فرنسا ) محور الثورة الصناعية العتيدة و منشأ الرأسمالية و التلوث، و الذين بثوا أكبر قدر من دخان الكربون في صدر السماء، و نثروا براز حداثتهم و عصورهم الحديثة في باطن الأرض. بدت هذه العاصفة الهائلة واعية لهدف حركتها و لغايتها، هذا فيما قبع سكان هذه القارة العجوز ، بائسين و قد راح المذيع يعرض صور أوعية الحساء المجاني التي راحت تُوزع على الالآف المحاصرين في محطات القطار و المطارات، في مشهد يُذكر بمشاهد الحرب العالمية، أو مجاعات الصومال و أفريقيا. كل ذلك حدث في وميض لحظات ، باغتتهم فيها الطبيعة بجبروتها، فكشفت عن زيف عالم الرخاء هذا، و عن مدى هشاشته. لحظات قلبت سواء هذا النظام كله، و قد عبرت السيدة غوخ جارتنا اللطيفة عنه ببساطتها المعهودة، "سوف لن أتمكن من إحتساء فنجان قهوة أو طهي طعامي ، و لا فعل أيّ شيء ، فكل شيء يشتغل على الكهرباء".
في اليوم التالي، و كنا قد انتظرنا وصول العاصفة "كيريل "، رسولة طبيعتنا الأولى الينا، حتى غلبنا النعاس، فيما أنمنا الولدين في الغرقة الصغيرة بعيداً عن النوافذ. وعرفنا من الأخبار في الصباح، أن " كيريل " العزيزة، مرت خفيفة و بشبه سلام على مدينتنا، فأوقعت بعض الأشجار، و تضررت سيارات، و تطايرت أطراف أسقف قديمة. و لكنها حصدت أرواح آخرين في مدن مجاورة، و أن القطارات لا تزال متوقفة و أن الخطر لم ينحسر بعد ..
أكانت " كيريل " هذه رسالة الطبيعة الينا ، صرخة إستغاثة أولى ، بأن أحداً لا يستطيع أن يجزم أو يتنبأ بطبيعة رسائلها التالية، .. الآتية لا محالة؟!.