بتـــــاريخ : 10/14/2008 4:25:13 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1028 0


    طيف هاجر وكف كتابي

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ناجي طاهر | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :

     

     

     
    طيف هاجر وكف كتابي .
     

     

     

     

     

     

    لم يكن ثمة أحد هناك ، ولا ذرة غبار . كان المكان أنيقاً كدودة ، فارغاً كوعاء ، لامعاً كحذاء جديد . بارداً كزوجة ، ثقيلاً كصديق وقت الضيق . كان هذا عمله ، لكنه شعر بذعر شديد عندما رأى لوحة جديدة ، تنتصب أمامه كرب عمل . راح يتفقد المكان الذي حفظه عن ظهر قلب .. .لم تكن اللوحة المكعبة ، معلقةً في وسط الحائط , " كما يجب " ، أو كما يحبها المشاهدون عادةً ، أن تكون .   كانت تحت مستوى الوسط بقليل .كذلك كي يتسّنى ، للبحر الذي في اللوحة أن يبحر. وان يعتلي هو احدى الصخور المائلة نحو مقعد الغرفة المتحرك بثبات. جلس على المقعد ، راح يجدّف بيديه الهواء الراكد في الغرفة . بدأت الأمواج تتلاطم . و الأفق ، الذي بان بعيداً في فضاء اللوحة ، راح يقترب . شيئاً فشيئاً كانت سماكة الأزرق تنفتح . و بدأت حرارة تلك الأرض تتسلل الى فكره . فيماكانت قدماه لا تزال معلقتين في هذه البلاد الباردة و الغريبة . كانت الخلجان و الجبال تمر من تحته كسحاب خفيف . عيناه تشداه كعيني صقرٍ الى تلك الصخور المنحوتة بلعاب البحر ، نحات العجائب الناتئة . هناك على صخر الجنوب ، جنوب الأرض ، لاح له من بعيد طيف امرأة ، جنوبية سمراء ،" انها! ، لا بد هي ،   هاجر.. بلى ، انت هاجر ! انطقي الآن ... اخرجي من اللوحة ، من البحر ، من الصحراء ، من الكتب والأساطير القديمة ! ". أردف يحدث نفسه بصوت عال:

     

     - الفرصة لا تضيع ابداً ، أليس هذا كلامك يا هاجر!؟ .

     

    بعد قليل أحدثت زوجته جلبة في الغرف المجاورة ، حيث كانت تقوم بعملها هناك .

     

    فخرج من اللوحة ، و أزال بفوطة كانت في جيبه ، الخطين المتوازيين ، اللذين خلّفهما دولابا المقعد على اللوحة . راحت ملامحها تنكمش و المكان يضيق كقبر و وجهها يغدو رتيباً كأم حنون ، حزيناً كزوج يجلس على كرسي الشرف . فرحاً كفقيد يمشي على روؤس التعساء في جنازة . متجانساً كدعاء ، مملاّ كقافية .

     

    و راح يسرع في عمله كالمعتاد . 

     

     ثمّ راح يسخر من فكرة الوسط . وضرورة التوسط في الأشياء أو المرور بينها ، أو جمال الوسط . والأوسط من الأمور . و كيف تراهم يقرّون ، بأن خير الأمور يكمن في أوسطها ؟! و تسآءل :

     

    - من تراه سنّ قانون الوسط؟ . هل هو نفسه مَنْ سماه : الوسيط في القانون ؟ والوسيط في الجغرافيا ؟

     

    وبعد أن تبدد نقد فكرة الوسط ، أو ضرورة تعليق اللوحة في صدر الحائط . 

     

     بدت له  اللوحة جميلة  هكذا كما هي ، بل اجمل منها في وسط الحائط . بل أجمل وأفضل من الحائط نفسه ..

     

    كانت الأشياء تحافظ على أمكنتها المعتادة في ترتيب مثير . راكنةً مطمئنة ، الى نظام مريب من التراتب و الإحترام ، كأنما ليس ثمة البتة مَن شكك للحظة بدوام وجودها هذا !.

     

    وحدها أكياس القمامة ، كانت تضج بحياة الزائرين المهملة ، اغراضهم الزائدة عنهم ،كانت تشي بهم ، و تشهد على وجودهم السابق و مرورهم من هنا . هذه أوراقٌ عليها كلمات غير عزيزة على اصحابها ، وهذه أعقاب سجائر نُفث دخانها ها هنا .

     

    لا أراهم ، ولكنهم هنا يلفون المكان .. أعرف ذلك ، سيكتشفون ، ذلك بآلآتهم اللعينة لاحقاً. هذا منديل أودعه صاحبه عصارة ما عنده. القمامة وجه وجيه من وجوه الحضارة ، كيس لا ينتفي الاّ بانتفاء مظاهر الحضارة كافة .

     

     .. هذا مكتب يشبه ذاك الذي ، لمدير المدرسة التي كنت أُدرّس فيها. مدرسة بناظر خرج من الجيش ليتطوع للخدمة و الإشراف على إدارة هذا السجن الجديد ، سور مدفوعة الأجر من قبل الأهل ، الذين يرسلون بإعتزاز يصل الى حدّ التنافس ، أولادهم اليها . و هذه لائحة جدار ، دُوّنت عليها تعاليم اليوم ، تماما كما في تلك المدرسة ، حيث كانت تُدون تعاليم النظام الحديدي الصارم في المعسكرات النازية .

     

    إذاً ، تراه ، مرّ وقتٌ ، ومرت ثوان ، ومرت كذلك هاجر ، عرافة البحر الغجرية و قالت :

     

     " الفرصة لا تضيع ابداً ، وأنّ المكتوب على الجبين سوف تراه العين " .

     

     رجتني أن تقرأ طالع كفي دون مقابل .. غريبة ، حمّالة أوجه ، كانت نظراتها . وأنا بطبعي لا أميل الى العرافات . و لكنني رغم هذا ، و لدافع لم أفهمه ، وافقت ..

     

    كان البحر شاهداً ثابتاً يترنح . رغم إنشغال موجه اللجوج في جدله الأزلي ، الصاعد و الهابط ، مع هذه الصخرة العنيدة . حبيبان يتعانقان بلا حياء أو خجل الآدميين . يدخل في نفق عورتها ،  يطوق بذراعيه جوانبها ، فتنفرج أساريره متفرعة نحو الشاطىء تلهث ، فيما يتناثر زبده الى الأعلى ، معلناً إنتهاء الجولة .

     

     أعطيتها كفي . راحت تقرأ ، كأنها تقرأ في كتاب قديم . عن مدن و بلاد بعيدة . عن آتٍ مُضمرٍ خلف الغياب  . و أنوارٍ كثيرة ساطعة ، و عن حرير ثلجٍ و حقول متمادية .. و أطيافٍ متوارية خلف يدي .

     

     كانت تغرف الأيام المؤجلة ، كمن يغرف من  هوّة بئرٍ عميقة . تأملت مليّاً في وجه الفتاة ، التي كانت برفقته ، ثم رمقتها نظرة مرتابة ، مستغربة ،كأنها لم تجدها في راحة يده . مضت صديقته مبتعدة ، بحياء طفلة ، منسحبةً بإتجاه الصخور المنفرجة .

     

    .. و حدثتني عن طيور فضية غاربة ، عن صخور أغرب بعد من صخرة الروشة** التي لسذاجتي ، كنت احسبها آلهة صخور البحر . كنت لا افارقها الاّ نادراً ، تارةً لزيارة بيت أهلي ، الذي يبدو انه مكتوب هو الآخر على الجبين . و تارةً اخرى للذهاب الى المدرسة الكريبة . اتعلم فيها اشياء كثيرة ، منها على سبيل المثال ، لا الحصر؛ طريقة التبّول الحديثة ... ومرات كثيرة لأذوب في الجماهير المطالبة بتحرير الأوطان من الأوثان الحجرية .. هاجر! ، انت هاجر الأصلية !؟. الخطيئة والمتاهة في الصحراء ..امرأةُ ابراهيم ، جدنا . بلى ، صمتها الصحراوي ، وقروح وجهها ويديها وشتا بذلك .

     

    .. غار في مهوار ريف كفه المحفوظ ، بإتجاه مدن الجماد البعيدة ، والأضواء المتمادية ، هناك خلف نتوء المتوسط .. فيما دخلت فتاة البحر العابرة ، في ثوب مدينتها .

     

    - هل انتهيت من دور المياه يا حبيبي ؟

     

    سألته زوجته و قد علقت بضع حبيبات عرق صغيرة على جبينها ، كان ضوء المنور ينعكس عليها .

     

     و في سهول كفه الساطعة ، مضى يلاحق السلات المهملات بعناية ، كما كانت تلاحق الفتيات الحالمات الفراشات ، مضت كذلك هاجر، العرافة الغجرية ، تحمل غلّها ، تحدّث بأحاديث ابراهيم الغريب، تنشر نسل اسماعيل في الصحراء .. تكتب على كل جبين أسمر ، اسماً جديداً للجريمة ...

     

    - نعم انتهيت منها يا حبيبتي ، هيا بنا !

     

    اطفأ مشعل الأنوار الرئيسي عند المدخل ، فاختفت أشياء مشفى غريفيلد* الخاص ، و آلاته الطبية تحت ظلال سوداء كثيفة . ما عدا تلك التي كانت في المدخل الكبير الذي يبقى مناراً تلقائياً . أقفل الباب الكبير و خرجا .


     

     

    بعد أن صارا في الشارع المقابل للمشفى بدت له هاجر تطل برأسها من شق نافذة غرفة المقعد ، الذي كان ضوء الشارع يتسلل اليها من خلاله .كانت نظراتها حادة كنظرة موناليزا دافنشي ، غريبة تسأل دائماً و لكن دون جواب

     



     

    * - صخرة كبيرة قبالة بيروت ، تحيط بها مياه البحر من كل جانب . و هي معروفة و مشهورة كأحد معالم لبنان السياحية .



     

     

    ** - مدينة في غرب المانيا

     

     

     

     

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()