هل يوجد شعب بدون قصص؟ ساعدت الإلياذة في فهم حياة الإغريق، فهل ستساعد الخربشات في فهم حياة الصحراء؟ إذا لم يكن كذلك فلماذا يقول الروائي ستيفان زفايج(فصار عمله-قصص بلزاك- بحسب أحد النقاد اكبر مستودع للوثائق الإنسانية لدرجة اعــتــرف معــها كــارل ماركــس بأنه استفاد من روايات بلزاك في فهم العلاقات الاقتصادية في مجتمع القرن التاسع عشر في أوروبا أكثر مما استفاد من علماء الاقتصاد المعـاصرين له)[1]. فارس الغلب، ومجموعته القصصية(خربشات سعيد بن هدالج)والمتكونة من خليط(رجال+ نساء + صحراء) العنونة انزلاق إلى عوالم مغايرة، شخصياته عُصارة أساطير البدو، أحلام خففت قسوة الحياة وضنك العيش والخيبات الكثيرة، ميثولوجيا صحراوية، يستشهد شتراوس في تصدير كتابه(الفكر البري)[2]بقول بلزاك(ليس لأحدٍ أن يسبر المسائل من جميع جوانبها كما-للبدو-والفلاحين فهم إذا ما انتقلوا من الفكر إلى الفعل ترى الأشياء وقد اكتملت)فهل البدو والفلاحين أعلى همَّةً من المتمدنين؟ من هم بناة الحضارة؟ ومن هم أعداءها؟ هل نبدأ من حيث بدءوا؟ كدجلة والصحارى، أم من حيث انتهوا؟ كالنيل والمدن التي امتلأت بضجيج الخطيئة؟ لماذا يعتقد مخطئاً ساكن ناطحات السحاب(أثبتت الدراسات أن السكن فيها يسبب الأكتئاب) أنَّ الصحراء بأجوائها القاسية خالية من الشرور والأطماع والحسد والبغضاء؟ لماذا يعتقد بدو الصحارى أنَّ سكان المدينة أفضل منهم؟
الإهداء(إلى معلمتي الصحراء) ينوه إلى أنَّ الأشياء مموضعة بحسب الوعي الصحراوي، قصة(العتل-ص93)تأكيد على أنَّ عالم الصحراء لا يخلو من أسطورة البطل المنقذ، يلجئون للأسطورة لتعويض وظائف افتقدوها عن أسلافهم، ونص العتل يحكي(عن عجوز تودع ابنها وكنتها بوصايا(إحرص على عروسك من أجلي(واحرص أصح)-عد إلي بخزاماي الندية-حافظا على المزودة، جملك زعوج سيوقعها-خذيه إلى جملك-تغذيا جيدا)الوصايا الخمس، وفي الوصية الثالثة لا أدري لماذا توجه القاص إليهما ما دامت الزوادة عند الفتى وأوصت في الرابعة أن تأخذ الفتاة الزوادة عندها، والجمل اسمه زعوج على وزن فعول أي كثير الإزعاج، ويكره في الفعل الرباعي أن يأتي مصدره على وزن فعول، وللفعل الرباعي أربع صور: فَعْلل، أفْعل، فَعّل، فَاعَل، نحو: وسْوَسَ وَسْوَسَةً أو وسواسًا، وأكرم إكرامًا، أقام إقامةً، ودرّب تدريبًا، إلا إذا كان لام فعلها ألفًا، فيأتي مصدرها على (تفعلة) نحو: ربّى تربية. ونص العتل يتكون من عدة وظائف:1-وداع-2-وصية-3-سفر-4-حديث سفر/رهان بصبغة هزلية-5-فقدان الفتى زوجته/ بحسب قانون السوق-6-اشتباك-7-فقدان الفتى وعيه-8-نصيحة عجوز-9-استرجاع بمساعدة(العتل/صغرى زوجات التاجر)-10-انتقام التاجر من العجوز(ضحى اليوم التالي وجدت العجوز مخنوقة في المكان ص100)(جرجر التاجر الفتاة على رغم منها، واشتبك الفتى مع الحراس بمعركة غير متكافئة أفقدته الوعي-ص98)حزمة ضوءٍ خافت يضيء أشياء لم نكن لنراها في خبايا ذلك المكان، قانون السوق الذي لم يعرفه العتل وإلا كان سيستولي على زوجة الفتى ولو كان العتل في المدينة لفعل ذلك بحسب قوانين السوق، (سحابة الإنسانية تلك سرعان ما كفكفت ضروعها وانقشعت بمقدم تاجر القرية الجشع الذي بارك السمسار-ص96)فسمسار القرية الجشع بعد أن وعد الفتى بان يشتري زوجته له،نكث بوعدهِ وضربه حراس التاجر حتى فقد وعيه،ونصحته عجوز بان يلجأ إلى العتل الذي سيعيد له زوجته لكن العجوز تلقى حتفها بسبب نصيحتها، فشرور القرية وإنْ كانت تبدو أقل،فبسبب الكثافة السكانية العالية للمدينة، البشر تفوقوا في كافة العلوم لكن لازالوا لا يعرفون كيف يعيشون مع بعضهم بسلام. الملحمة قصة تروي مغامرات جماعة، وقصة العتل رجال يدافعون عن المرأة رمز الشرف، وفي قصة(البكارة)رجال لا يتوانون عن قتل فتاة صغيرة لولا ثبوت براءتها، متاهات كثيرة،وألغاز وأسرار تشعر القارئ السطحي بصداع دوران الكلمات تحت ضربة الشمس التي تصبغُ رمال الصحراء وتعطيها طابعاً خاصاً،تبدأ قصة (البكارة)بوصف صورة حية لمتر مربع من الصحراوي،وينبهنا الهمس بمرور الزمان،وصف لرفاة الزمن وتقادم الأشياء(قشرة بيض كالحة-ريشة قاربت التحجر-عظم بعير يحكي ثلثه الصاعد فوق الرمل عنفوان تصديه للعاصفة-ص9) ماذا أراد القاص من هذا الوصف؟أ للزينة والزخرفة أم لحاجةٍ في نفسه؟ فلوبير يعتقد الوصف مجرد لغو، وغيره يعتقده رمزا لحقيقة فلسفية وأخلاقية، وهو ما أريد له، ربطاً بين الأركيولوجيا والقص. ويدخل في صلب قصة معيوف من سبب تسميته بهذا الاسم،أولاً(مقولة روجها مجهول تعزو تسميته إلى كناية عن حفيظة والدته الحرداء حيث كانت في كنف أخواله-ص10)وجملة(إلى كناية عن حفيظة)غير مصاغة بسبب زيادة عبارة(كناية عن حفيظة).المعرفة المتأخرة تتدفق كإبداع يحاول القاص التقدم عليها، تكثيف وصفيلمشهد الصحراء،وتسمية طفلٍ باسم معيوف له دلالة سلبية اجتماعية كثيرة التكرار في مجتمعاتنا،لكنَّها أقل منها في الغربحيث يندر أن تجد طفلاً قد تربى في كنفِ والديه،بسبب حالات الانفصال بين الزوجين،انوجد سببٌ آخر،وهو ما ذكرته جدته لأمه وهو أكثر إيجابية(الاسم يا ولدي في هذه الأصقاع طالما كللَّ حدثاً متزامناً)فقبل ولادته بأيام توفي معيوف الهذلول(ولتكون عزائي الصادق لذكرى الرجل الرجل، وعساك يا ولدي من الرائحة الطيبة ذاتها وتحوز السريرة والعلن ذاتهما) عملية أسطرة الهذلول تستدعي قصصا وحكايات وبطولات(وما إن عاد التركي مترعاً بزهوه وخيلائه،حتى تبعه معيوف الهذلول وجندله بضربةٍ سكنت لها الأهداب..ضربةٌ اقتلعته من على سرج حصانه المارق ليبقى معلقاً في الهواء على الرمح المغروس بثبات في الثرى-ص11)وهنا يكمن حل ألغاز بعض الأسماء الكثيرة التداول،فمن يولد في جوٍّ ماطر لا بدَّ أن يسمى(مطر أو رعد أو حالوب) حتمية معنى البطولة في حياة الصحراء، والمعاني الجميلة الرائعة التي ربما نفتقد إليها بصورة واضحة في حياة المدن الضائقة بأهلها،ولكلِّ شيءٍ بكارة،حتى علبة البيبسي لها بكارة،وهو يناقش كيف أنَّ هذه الفتاة المراهقة هيجت الرياح فيها الغريزة الجنسية(ولبثت تتفرس نبتة الطرثوث..الجزء الأوراق العريضة ذاتها،الجزء المنتصب أوسطها،حيث ضبطت إحدى الحاطبات على غفلة من أمرها تتمرغ فوقها مثل طفل يتوهم العوم في بركة ضحلة-ص14)طرق تناول الحالات السلبية في مجتمعاتنا،والدها كان رجلاً حليماً كذلك الرجل الذي تسمى باسمه،فاكتشف الحقيقة ولم يتسرع بالحكم على ابنته بالموت،وقال(يالبشراي يا رجال..اشهدوا أنَّ ابنتي الغرة حين تلظت حروراً أفرغته أديم الثرى،ولم تنتهِ إلى أحضان رجلٍ يدنس عذريتها المنتهكة خطأً لا خطيئة-ص18)العودة إلى عذرية أمنا الطبيعة،وفي قصة(الخبرا)موضوعة معظم النزاعات: (الثأر وردّ المستجير)(استلَّ ماجد سيفا قصيراً..وهجمَ على مفوّز مذكرا إياه..صيحة أمه وعاجله بضربة...استجار ماجد بجديع بن هذال فرفض إجارته، وأرسل من يخبر مطلق بن الحميدي أنه وقبيلته على عهد الخبرا وأن ماجد الحثربي استجار بقبيلة دغيّم بن سويط..انعقد مجلس الحلقة المستديرة..حضر ابن سويط..طالبه المجتمعون بتسليم ماجد فقال ماجد استجار بالبويت! سأله المجلس-ما هذا البويت المرخص بالاستجارة، البويت بيت أمي وكانت في الحج ولم تكن حاضرة ابن عهد الخبرا. رفض المجلس حجته وعدَّها إخلالاً بالمعاهدة ورفض أبن سويط تسليم ماجد وقال : منذ عهد عاد برتهن شداد والمستجير يأوي إلى بيوت العرب..وبعد ثلاثة أيام دارت رحى الحرب الضروس-ص29-30)كان الثأر بسبب أمرأة، وكانت الحرب بسبب التحايل على الاتفاقيات والمعاهدات وحجة التحايل امرأة، وقصة(طقوس الأنا والخلخال)دال للحب العذري وغرام الجميلات في الصحراء لا يقلُّ عن البطولة في مآثرهم(كانت موضي بنت حماد النبهان تقف بإباء أنف وبلا حراك مثل حارس أمام قصر امبراطوري-ص33)النفس أبية وللأنف الشموخ،وبعض الأساطير المتوارثة حول تأثير بعض الأحجار الكريمة(عن امتلاكه خرزة السليماني الحارسة)وتعثرت بخطأٍ لغوي آخر وهو(الرجال الهاجعين في فراش زوجاتهم)وكان الأصح أن يجمع الفراش فيقول(في فرشِ زوجاتهم)وعندما يسترسل القاص في أحداث قصته،يكون أكثر انفعالا من أنْ ينتبه لمثل هذه الهفوات،وما أفحش أن يعتقد الكاتب أو الإنسان أنَّه بلا أخطاء،وفي قصة(السد المباح)يؤكد الراوي أنَّهُ يحاول نقل الصورة بلا انحياز،ففي مضيف الابن يجلس عاشق أُمِّهِ(كانت تبادله العشق منذ ما يربو على الستين سنة)لكن هذا العشق كان عذرياً في مجتمعٍ لم تصله المسلسلات المدبلجة،والستالايت،وفي(قصة بلهان) محاولة لغزو الصحراء، رمز الصحراء الجمل(واعذروني اذا ما جانبت الفهم وأفشيت عجزي عن تمييز الحروف اللاتينية فانا لا اجد فرقا بين تلك الحروف وبين العقارب-ص54)وهو تحسس البدوي من غريب، وفي (مصطبة لزوارق الوداع)يشير إلى مأساة الأسرى الذين بقوا في الأسر أكثر عشرين عاماً،ويشير إلى تصحر المدن(إنَّ الغيلان والمردة ما عادت تسكن الكهوف والأقبية المظلمة مذ هجرتها واستوطنت المدن الحاضرة-ص72)وفي(مرايا الطوطم)وفيها إرادةٌ للهروب من صحراء المدن التي تضج بالخطايا إلى براءة الصحراء(طلبتُ منه إيصالي إلى جبلٍ تعيش فيه قبيلة الماكاباي قيل أن الكثيرين عاشوا بين ظهرانيها هانئين بعيداً عن عقد هذا العالم الصاخب) وفي (مرباع ساخن) صحراء المدن في(هي تتشبه بالرجال منذ الصغر) وعلقت القصة الأخيرة(خربشات سعيد بن هدالج)في ذهني لروعتهاوغرابتها وطريقة السرد ومتانة الصياغة اللغوية(هيهات لا مناص لك ما لم تكتبني حكاية..مذ وجدوا والعرب يروون الحكايات..ما دخل الغرب بحكايانا .. مدارس أدبية..نقاد درسوا مناخ إقليم التندرا..الجمل إرهابي لأنَّه يخرق قوانين التحمل-ص113)ويختم القاص قصصه برنات لغوية، شاعرية تحمل الكثير من المعاني مثل(أحدهم تطلع إلى السماء فغمزت له نجمة-لبث قبال زغرودتها مثل علامة استفهام تشكلت في المكان-وحدها الغيلان والمردة عرفت حقيقة الأمر-على بلاط المقهى كان النرد يعلنُ عن قراءته الأخيرة-يترجل عن صهوة جواده ويقتحم دهشتها بقبلة).
[1]ستيفان زفايج-بناة العالم-ت محمد جديد-2003- دار المدى-دمشق-ص23.
[2]كلود ليفي شتراوس-الفكر البري-ترجمة د.نظير جاهل-ط1-1984-المؤسسة الجامعية للدراسات-بيروت-ص17.