عن الإمام علي (عليه السلام): (حُسْنُ الأخلاقِ برهان كرم الأعراق..). من المعلوم في علم الوراثة أن الكروموزومات هي المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية من الآباء والأمهات إلى الأبناء، بل من الجيل السابق إلى الأجيال اللاحقة. ونقل الصفات لا يختص بالصفات الجسمية كلون البشرة والشعر وملامح الوجه والعيون وما شابه بل الصفات الخُلقية والنفسية أيضاً تنقل إلى الأجيال اللاحقة. وهنا نريد أن نذكر بنقطة مهمة ذكرها أحد العلماء وهي: أن السعادة والشقاء اللتان تصيبان الطفل في رحم الأم على نوعين: فقسم منها يكون قضاءً حتمياً لا يقبل التبديل، فهذا النوع يلازم الطفل حتى نهاية حياته، ومن هذا القسم: الجنون والعمى المتأصل، وقسم آخر يكون الرحم بالنسبة إليه كتربة مساعدة فقط وحينئذ يكون بقاء تلك السعادات أو الشقاوات دائراً مدار الظروف التي تساعد على نموّها.
إن القاعدة العامة للوراثة تقتضي أن ينجب الآباء المؤمنون والأمهات العفيفات أولاداً طيبين، فهؤلاء يمكن أن يحرزوا السعادة في أرحام أمهاتهم فلا توجد في سلوكهم عوامل الانحراف الموروثة، إلا أننا لا نستطيع الحكم على هؤلاء بأن ينموا وينشأوا ويعيشوا إلى الأبد كذلك إذ قد يصادفون بيئة فاسدة تعمل على انحرافهم وتغيير سلوكهم وسجاياهم الموروثة، وقلبها رأساً على عقب، وأخيراً نجد هذا الطفل الذي كان سعيداً في بطن أمه يُعَدّ في صفوف الأشقياء ويصير جرثومة للفساد والاستهتار، وهكذا الطفل المولود من آباء وأمهات لا يعرفون عن الإيمان شيئاً فإنه يُعتبر شقياً في رحم أمه تبعاً لقانون الوراثة لكن قد يصادف بيئة صالحة وتربية جذرية تعمل على استئصال العوامل الشريرة من داخل نفسه وأخيراً يكون من الأتقياء المؤمنين والأفراد الصالحين في المجتمع.
فالسعادة تحصل للإنسان من مجموعة عوامل طبيعية (وراثية) وتربوية. وكذلك الشقاء... ولقد أوضح الإمام الصادق (عليه السلام) هذا المبدأ في عبارة مختصرة فقال: (إن حقيقة السعادة أن يختتم للمرء عمله بالسعادة، وإن حقيقة الشقاء أن يختتم للمرء عمله بالشقاء). إذن يمكن القول: إن العادات التربوية والتمارين الإصلاحية المتواصلة إذا ما روعيت باهتمام علمي وعقلي مدروس لها القوة في التأثير بحيث تتغلب على الصفات الوراثية وتحدث وضعاً جديداً في الأفراد، كما يقول الإمام علي (عليه السلام): (العادة طبع ثان..).
فعلى كل الأحوال سواء ولد الإنسان من أبوين عفيفين وطاهرين أو لم يولد كذلك، فإنه غير مستغن عن التربية أما السعيد في بطن أمه فيحتاج إلى التربية لاستمرارية سعادته وكمالها أما الشقي في بطن أمه للحصول على السعادة فلعله يصلح ويفوز بالنهاية. والله سبحانه وتعالى – بلطفه وكرمه ورحمته الواسعة فسح المجال أمام جميع خلقه حتى المسرفين منهم ليعودوا إلى جادة الصواب والى صراطه المستقيم.
وبعث الأنبياء والرسل لهداية الناس، فالذين ينتمون إلى عائلات شريفة فينمون فيهم قابلياتهم ومواهبهم ويخرجون الفضائل الكامنة من مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية لكيلا ينحرفوا عن الصراط المستقيم في مسير حياتهم، ويحفظوا ثروتهم الوراثية العظيمة من الملكات والفضائل، لكيلا يقعوا في هوّة الفساد والجهل والطيش على اثر مصاحبة الفساد والجهال. أما بالنسبة للذين ورثوا الصفات البذيئة من أبويهم فيعمل الأنبياء على إطفاء الاستعدادات الكامنة نحو الفساد فيهم بالتربية الصحيحة التدريجية واتخاذ الأساليب الأخلاقية الدقيقة. وبذلك يخرجونهم من طبائعهم الأولى إلى طبائع جديدة حاصلة من إحياء قوى الخير والصلاح في نفوسهم وتكون النتيجة إصلاح المجتمع. والتربية المبكرة والمتواصلة باستمرار وتفكير وعقلانية لها ثمارها ونتائجها الطيبة