أن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الأولى المسؤولة عن التنشيئة الاجتماعية والضبط الاجتماعي، اذ تلعب دورا أساسيا في السلوك السوي وغير السوي لأفرادها، من خلال نوع التنشئة الأسرية التي تقدمها لهم، فأنماط السلوك وطبيعة التفاعلات بين الأدوار الأسرية داخل الأسرة هي الأنموذج الذي يؤثر سلبا أو إيجابا في أعداد الناشئين للمجتمع الكبير، هذا الأنموذج قد يفرز أفراد متطرفين في المستقبل، أياً كان هذا التطرف دينيا أو اجتماعيا أو سياسيا. كذلك كانت الأسرة ولا تزال احد أهم روافد التربية التي يستخدمها المجتمع في عملية التطبيع الاجتماعي بجميع محتوياتها ومواقعها. فقد أشارت عديد من الدراسات في التربية وعلم النفس مثل دراسة ولفولك (Woolfolk) سنة 1987 م وجنكينز (Jenkins) سنة 1995م إلى أهمية الأسرة في تكوين الشخصية وتشكيلها، لاسيما في مرحلة الطفولة المبكرة (الأعوام الخمس الأولى من عمر الطفل)(1). وذلك لعدة أسباب منها ان الطفل في هذه المرحلة لايكون خاضعا لاي جماعة أخرى غير أسرته، ولانه يكون فيها سهل التاثر والتشكيل، وشديد القابلية للأيحاء والتعلم، فضلا عن حاجته الدائمة لمن يعوله ويرعى حاجاته العضوية والنفسية المختلفة.2. كما أشارت دراسات أخرى مثل دراسة كانتر (Kanter) سنة 1974م ودراسة هورلوك (Hourlock) سنة 1974 م ودراسة رايم (Rimm) سنة 1987م إلى ان نوع التنشئة الاسرية المتبعة في الأسرة مثل التنشئة التسلطية أو التنشئة الديمقراطية، وطبيعة العلاقات بين الاباء والابناء تؤثر سلبا أو ايجابا على علاقات هولاء الابناء في المجتمع الكبير، وعلى النشاط الاجتماعي المتوقع لهم(1). ومن هذه العلاقات السلبية مظاهر التطرف الديني المتمثلة برفض الاخر، والسعي للقضاء علية، ورفض الحداثة والتزمت بالنصوص المنقولة التي قد يكون بعضها مدسوس.
أن الدور الرئيس الذي أحتفظت به الأسرة في عمليات التنشئة الاجتماعية ياتي من خلال الخصائص التي امتازت بها عن بقية المؤسسات الاجتماعية الأخرى. مما يجعلها انسب هذه المؤسسات لتبدء فيها ومنها عملية التنشئة الاجتماعية، فالأسرة التي تنشئ متطرفين أو تكفيريين لمن يعاكسهم في الرأي حتى لو كانوا من نفس الدين، تقدم أنموذجا يؤثر سلبا في التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، والأسرة التي تنشئ معتدلين ومتفاهمين ويأخذون التفسير القرآني والحديث النبوي من اهله، ومن هم احق بالاتباع من الاخرين تقدم أنموذجا اخر ايجابيا وفعالا ومنتجا في ذلك المجتمع، كل ذلك لان لافراد الأسرة الواحدة ثقافة خاصة بها، وثقافة المجتمع هو النتاتج الكلي لمجموع تلك الثقافات بصالحها وطالحها. وهذا ما أشار إلية بيرجوس ولوك (Beargss & lock) عند تعريفهم للأسرة، أذ أنهما يريان أن الأسرة هي مجموعة من أشخاص يتحدون بروابط الزواج أو الدم أو التبني، فيكونون مسكننا مستقلا، يتفاعلون بتواصل مع بعضهم البعض بادوارهم الاجتماعية المختصة كزوج وزوجته، وأب وأم، وابن وبنت، وأخ وأخت، الأمر الذي يكون لهم ثقافة مشتركة(2). هذه الثقافة التي قد تسيء للدين أو المجتمع الإنساني بمفاهيمها المغلوطة أو تساهم مساهمة فعالة في رقية وتقدمه وهو الدين الاسلامي الحقيقي الذي أشار اليه القرآن الكريم عن رب العزة والجلال وسيرة رسوله الكريم محمد (ص) وال بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام أجمعين).
أن أنماط التنشئة الأسرية هي جزء يؤثر ويتاثر بالانماط الاجتماعية السائدة في المجتمع، وهذا ما يتطلب من التربويين والقيمين على المجتمع إلى تهميش وإزالة وجود الأنماط التكفيرية والعدائية والسلبية التي يتوقع ان تؤدي في خاتمة المطاف إلى ظهور ظاهرة التطرف والفهم الخاطيء لاحكام الدين الاسلامي الحنيف والذي قد يتطور وينمو ويصل في اقصى حدوده إلى رفض الآخر وعدم تقبله وتكفيره، بل وتحليل قتله كما في ظاهرة الإرهاب والمنظمات الإرهابية المحسوبة على الدين، فماذا نتوقع من انماط تنشئة مثل نمط القسوة والتسلط في تنشئة الأطفال، أو نمط الإهمال، أو نمط التذبذب في معنى الحلال والحرام، أو نمط التفرقة بين الابناء غير ان ينتج لنا جيلا قد يضر أو ينحرف أو يرفض كل ما يعاكس أو يخالف أو لا يتفق مع الثقافة التي نشأ أو تربى عليها في الأسرة، فيولد تعصبا وتطرفا قد يفضي في نهاية الامر إلى تبني فكرة الإرهاب. وهذا ما يتحتم على الجميع العمل الجاد والحثيث لمنع حدوثه أو تفشي أمره.
يعرف ابن منظور (التعصب) في لسان العرب "دعوة الرجل إلى نصرة عصبته والتآلب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين" (3). وهو تعريف يتطابق مع ما ذهب اليه بعض علماء النفس من حيث الغاية والمعنى والتي قد تعني الاتفاق بين مجموعة من الافراد من ذوي الاتجاه الديني الواحد في حكم بقبول أو عدم قبول لشخص أو جماعة، هذا الحكم يكون سابقا لوجود دليل منطقي أو دون دليل إطلاقا في إصدار الأحكام التكفيرية للآخرين(4)، لا لشيء الا للاختلاف في وجهة النظر فقط في ما هو احق بالاتباع من ما هو ليس بحق في اتباعه. ومن التعريفين يمكن الاستخلاص بان المتعصب لايرى امامه الا نفسه وجماعته، أما الآخرون فهم مخطئون وكافرون يتوجب قتالهم والقضاء عليهم، وهذا الأمر قمة الفكرة التكفيرية التي ادت إلى انتشار العنف الإرهابي وإسرافه في قتل المخالفين ضلما وعدوانا.
أن الذي يطلع على الخطابات الاصولية المتطرفة للتكفيريين، يمكن له ان يستنتج انها تسعى جاهدة إلى إلغاء جميع الاختلافات الداخلية فيما بينهم وعدم التصريح بها، وإلى إسقاط جميع مظاهر العدوانية على الاخرين المختلفين معهم في الفكرة أو العقيدة، وفيما يبدو ان التطرف الديني اذا نظر الية كسلوك عصابي يدل على بناء نفسي عقدي عميق في النفس البشرية، يحتاج إلى تحليل نفسي لتفكيك دلالاته المعنوية أو الروحية وبلوغ غاية معانيه الشعورية واللاشعورية. وهذا ما إشارة إليه بعض الأطباء النفسانيين في تنظيراتهم المتعلقة بهذا الموضوع 4.
وهكذا يمكن لنا الاستنتاج ان الأسرة من أهم المؤسسات الاجتماعية التي يتطلب منا الاتجاه نحوها للحد من مظاهر التطرف والإرهاب ذي اللباس الديني، لأنها أول جماعة يعيش فيها الطفل، وهي الوعاء التربوي الاول الذي ينهل منه وتشكل شخصيته المستقبلية، إذ أننا لا نستطيع ان نمنع حدوث التطرف والإرهاب المتستر بالدين، لكننا نستطيع ان نحد أو نقلل من مبررات وجوده، فإذا نجحنا في مبتغانا فاننا حصنا افراد الأسرة من الانزلاق الىى مظاهر ذلك التطرف الذي قد يفضي إلى مظاهر الإرهاب في جميع صوره وأشكاله، لان الأسرة هي قاعدة المؤسسات الاجتماعية الأخرى مثل المدرسة أو الجامعة أو المسجد أو دور العبادة أو المنظمات الاجتماعية المختلفة.
والعلاقة بين الأسرة والمجتمع وثيقة ومتبادلة من ناحيتين، فالأسرة تتأثر بما يصيب المجتمع من تغيير في النظم والقيم، والمجتمع يتأثر بما يقع في انماط التنشئة الاسرية من تغيير، وذلك ما يدفع المهتمون بالتربية من مختلف التخصصات إلى تحصين أرباب الأسر من خلال مدهم بكل الامكانيات والخبرات التوجيهية والتثقيفية ووسائل التنشئة الايجابية الفعالة، فإذا تمكنا من تحصينهم من اتباع انماط تنشئة صالحة مع ابنائهم فاننا قد نكون ساهمنا بمساهمة كبيرة في الحد من الانماط التي قد تودي إلى تقديم جيلا متطرفا يساهم بشكل سلبي في التفاعل الاجتماعي، سنعاني منه كثيرا خلال التعامل معه، وهذا هو مضمون المقولة التي ترى ان الوقاية خيرمن العلاج.
_________________
الهوامش
1- صالح محمد علي ابو جادو، سيكولوجية التنشئة الاجتماعية، ص 217، ص218
2- احمد عزت راجح، أصول علم النفس، ص426
3- ابن منظور، لسان العرب، كلمة تعصب
4- اقبال الغربي، مقاربة نفسية لفهم التطرف الديني، موقع شغاف الشرق الاوسط الالكتروني
|